نحن في خضمّ حدثٍ مناخيّ مستمرّ يؤثّر في الحالة الجويّة في جميع أنحاء العالم. هل هذا مجرّد بداية؟
حدثٌ غير اعتياديّ ضرب العديد من دول العالم خلال العامين الماضيين. فقد أدّى هذا الحدث المناخيّ إلى جفافٍ غير مسبوق في غرب الولايات المتّحدة الأمريكيّة وشرق إفريقية، وإلى فيضانات شديدة على طول السّاحل الشّرقي لأستراليا. تستمرّ- عادةً- هذه الأحداث، الّتي أطلق عليها اسم لا-نينا ( La Niña، "الفتاة" بالإسبانيّة) بضعة أشهرٍ، لكن لا-نينا الحاليّة بدأت منذ أكثر من عامين، ووفقًا لتقديرات علماء المناخ، هناك احتمال يصل إلى 50 في المئة أن تدخل في عامها الثّالث، كما حدث مرّتين فقط منذ بدء تتبّع أحداث لا-نينا في سنة 1900م.
تُعتبر ظاهرة لا-نينا ظاهرةً مناخيّة عالميّة تحدث مرّة كلّ بضع سنوات وتؤدّي إلى انخفاضٍ مؤقّت في درجة حرارة سطح المحيطات. يؤدّي هذا الحدث إلى تغييرات في أنظمة الرّياح العالميّة وكمّيات هطول الأمطار الإقليميّة، خاصّة في الدول المحاذية للمحيط الهادئ. لا-نينا هي أخت لحدثٍ مناخيّ آخر له شهرةٌ أكبر يُدعى إل-نينو (El Niño، "الولد" بالفرنسيّة)، يُسبّب تغيّراتٍ مناخيّة عكسيّة. على الرّغم من التّقدّم الكبير في أبحاث المناخ، ما زالت العوامل الّتي تؤدّي إلى ظهور هذه الأحداث غامضة.
لا يزال من السّابق لأوانه تحديدُ ما إذا كانت هناك صِلةٌ بين هذه الظاهرة الاستثنائيّة والتغيّر المناخيّ، لكن الباحثين يحذّرون من أنّ الاحتباس الحراريّ، الّذي من المتوقّع أن يتفاقم في المستقبل، قد يزيد من وتيرة أحداث لا-نينا الّتي ستضرب الكرة الأرضيّة، واحتماليّة استمرارها لسنواتٍ متتالية.
أحد الآثار الرئيسة لحدوث ظاهرة لا-نينا هو الزّيادةُ الحادّة في كميّة هطول الأمطار في بعض الدّول، إلى جانب انخفاضها في دولٍ أخرى. على سبيل المثال، تشهد دول جنوب شرق آسيا خلال أحداث لا-نينا هطول أمطارٍ غزيرة وفيضاناتٍ أكثر من المعتاد، بينما تعاني دول أمريكا الجنوبيّة من ظروف جفافٍ شديد. تُعتبر الحالة الجويّة في قارّة أستراليا حسّاسةً جدًّا لظواهر لا-نينا: كلّما تنخفض درجة حرارة سطح المحيط، تزداد كميّة الأمطار على طول السّاحل الشّرقيّ للقارّة؛ ما يؤدّي إلى حدوث فيضانات مدمّرة، شبيهة بالّتي حدثت في وقتٍ سابق من هذا العام.
ما تزال العوامل الّتي تؤدّي إلى أحداث لا-نينا وإل نينو غير واضحة. عاصفة في كاليفورنيا جرّاء ظاهرة إل-نينو | تصوير: Gregory Ochocki / Science Photo Library
وفقًا لباحثي المناخ الجويّ، فإنّه على الرّغم من أنّ لا-نينا الحاليّة، غير مألوفة في طول مدّتها، وحتّى لو أنّها استمرّت ودخلت في عامها الثّالث، فإنّها لن تتجاوز الحدود الطّبيعيّة للاحتماليّة، ولا يمكن ربطها بالتّغيّر المناخيّ الحاصل في الكرة الأرضيّة خلال العقود الماضية. لم يتمّ حتّى الآن، وبشكلٍ قطعيّ، تحديدُ العلاقة بين تغيّر المناخ والتغيّرات في وتيرة وشدّة أحداث لا-نينا وإل-نينو، حيث أنّ دراساتٍ مختلفة تُقدّم تفسيراتٍ متضاربة. أحد أسباب صعوبة الإشارة إلى وجود مُنحنًى واضح، هو عدمُ وجود مجال قياس طويل بما فيه الكفاية. فقد بدأت عمليّة جمع البيانات لِمثل هذه الأحداث منذ أكثر من قرن تقريبًا؛ والفوارقُ الكبيرة بين الأحداث، إلى جانب البعد الزمنيّ الطويل بينها، لا يساعدان في إنشاء تحليلات إحصائيّة موثوقة بشكل كافٍ.
تيّارات المحيط هي أيضًا جزء من المعادلة
تقدّم دراسة نُشرت هذا العام في المجلّة العلميّة Nature Climate Change تفسيرًا آخر لصعوبة التنبّؤ بالتغيّرات في ظهور لا-نينا وإل-نينو في العالم الّذي يعاني من تغيّر المناخ فيه. كما يبدو فإنّ النّماذج الحسابيّة الّتي تتناول هذه الظّواهر، وتستند إليها دراساتُ المناخ، قد وُضعت حتّى الآن دون مراعاةٍ للتأثير الكبير الحاصل جرّاء ذوبان القبّة الجليديّة في جرينلاند في نظام التيّار المائيّ في المحيطات. فارتفاع درجة حرارة المحيطات يؤدّي إلى تسريع وتيرة ذوبان القبب الجليديّة في القطب الشّماليّ؛ ما يؤدّي إلى تسّرب المياه الباردة وَالعذبة إلى شمال المحيط الأطلسيّ وتباطؤ التيّارات المحيطيّة حول العالم.
وفقًا لتلك الدّراسة، فإنّ تباطؤ التيّارات الّتي تُسبّب تراكم الطّاقة الحراريّة في الجزء الاستوائيّ من المحيط الأطلسيّ؛ يؤدّي إلى تقوية الرّياح الّتي تهبّ باتجاه الغرب على طول خطّ الاستواء إلى المحيط الهادئ. يؤدّي التغيير في قوّة الرّياح إلى دفع الطّبقة العليا من مياه المحيط الهادئ إلى جهة الغرب؛ ما يؤدّي إلى ارتفاعٍ كبير في المياه العميقة الباردة في الجزء الشرقيّ، ويؤدّي في نهاية المطاف إلى انخفاض درجة حرارة الماء هناك، أو بكلماتٍ أخرى- لا-نينا.
إذا تبيّن أنّ نتائجَ هذه الدراسة، الّتي تستند هي أيضًا على نماذج، نتائجُ دقيقة، فهذا يعني أنّه من المتوقّع أن يؤدّي الاحتباس الحراريّ إلى زيادة تواتر وشدّة أحداث لا-نينا. لذا، فإنّ الطّقس القاسي والفيضانات المدمّرة الّتي ضربت أستراليا في العام الماضي قد يبشّران بنمط حياة جديد، سيكون بموجبه على سكّان القارّة الجنوبيّة أن يتكيّفوا معه.