كم تفّاحة على الشّجرة؟ دماغنا قادر على تقديم إجابة فوريّة، لكن عند تجاوز "أربعة"، تصبح الإجابة "الكثير" أو "العديد"

قدرة أساسيّة

تظهر القدرة على تقدير عدد الأشياء  في سنّ مبكّرة جدًّا. كشفت الأبحاث أنّ أدمغة الرّضّع البالغين من العمر ثلاثة أشهر، والّذين لم يبدؤوا بعد في تعلّم العدّ بطريقة واعية، تستجيب بشكل مختلف اعتمادًا على كمّيّة الأشياء الّتي تقع أمام أعينهم. علاوة على ذلك، يبدو أنّ هذه القدرة على العدّ الفوريّ مهارة أساسيّة طبيعيّة لدينا، بغضّ النّظر عن ثقافتنا. في دراسة أجريت على قبيلة في الأمازون  الّتي لا تشمل لغتها أرقامًا، وُجد أنّ أفراد القبيلة كانوا قادرين على القيام بمهامّ تتطلّب عدّ الأشياء. كذلك، العديد من الحيوانات تعرف كيف تعدّ. قرود الريسوس، على سبيل المثال، تمكّنت من تعلّم العدّ حتّى 6. 

الفرق في سرعة التّعرّف إلى قليل من الأشياء مقابل العديد منها دفع الباحثين إلى افتراض أنّنا نستخدم استراتيجيّتين مختلفتين لهذا الغرض. التّجارب الّتي اختبرت قدرات العدّ السّريع للمشاركين تحت ظروف متنوّعة قدّمت نتائج مثيرة للاهتمام، ولكن اليوم، يمكن للباحثين القيام بأكثر من ذلك: باستخدام تكنولوجيات مبتكرة، يمكنهم إجراء تجارب يتابعون فيها نشاط الدّماغ أثناء العدّ لفهم كيفيّة قيامه بذلك.


القدرة على تقدير عدد الأشياء بسرعة تنمو منذ الطّفولة وتشمل كلّ البشر. طفل يقوم بالعدّ بواسطة أصابعه | شترستوك، دانيال جدزورا

الخلايا الّتي تعدّ

في دراسة حديثة أجريت في ألمانيا، فحص الباحثون نشاط الدّماغ بدقّة عالية جدًّا، ممّا سمح لهم بتتبّع الخلايا العصبيّة الفرديّة أثناء قيام المشاركين بالعدّ. المشاركون الّذين تطوّعوا للدّراسة كانوا مرضى من المقرّر أن يخضعوا لعمليّة جراحيّة في الدّماغ لعلاج الصّرع، وذلك بدون أيّة صلة مباشرة بالتّجربة. زُرعت في أدمغتهم أقطاب كهربائيّة لقياس نشاط خلايا الأعصاب في قشرة الدّماغ بهدف مساعدة الجرّاحين على تحديد المكان الدّقيق الّذي يتطلّب التّدخّل الجراحيّ. اِستغل الباحثون الفرصة لإجراء التّجربة، نظرًا لأنّ هذه المنطقة تلعب دورًا مهمًّا في عمليّة العدّ. أثناء تسجيل الأقطاب الكهربائيّة لنشاط أدمغتهم، طُلب من المشاركين النّظر إلى شاشة ظهرت عليها نقاط مبعثرة بشكل عشوائيّ، والإبلاغ بسرعة عمّا إذا كان عدد النّقاط زوجيًّا أو فرديًّا.

تماشيًا مع الفارق المعروف في سرعة معالجة الأعداد الصّغيرة مقابل الكبيرة، أظهر المشاركون دقّة عالية وسرعة في الاستجابة عندما تمّ عرض أربع نقاط أو أقلّ، بينما عند إضافة المزيد من النّقاط، انخفضت دقّة الاستجابات وزاد وقت الاستجابة. عند فحص نشاط الخلايا باستخدام الأقطاب الكهربائيّة، توصّل الباحثون أوّل مرة إلى دليل ملموس على أنّ الدّماغ يعمل بطريقة مختلفة في كلتا حالتي العدّ.


 أثناء توثيق الأقطاب الكهربائيّة لنشاط أدمغتهم، طُلب من المشاركين النّظر إلى شاشة ظهرت عليها نقاط والإبلاغ بسرعة عمّا إذا كان عددها زوجيًّا أو فرديًّا. شاشة تعرض تسجيل نشاط الأقطاب الكهربائيّة| Christian Burkert/Volkswagen-Stiftung/University of Bonn

عندما عدّ المشاركون أربعة أشياء أو أقلّ، استجابت مجموعات معيّنة من الخلايا العصبيّة بطريقة فريدة بناءً على عدد النّقاط المعروضة على الشّاشة. الخلايا الّتي استجابت لوجود نقطتين، على سبيل المثال، لم تستجب لوجود نقطة واحدة أو ثلاث نقاط. اِستنادًا إلى هذا الاكتشاف، توصّل الباحثون إلى فرضيّة مفادها أنّ تنشيط الخلايا العصبيّة المتوافقة مع عدد معيّن من الأشياء يؤدّي إلى تقليل نشاط الخلايا الّتي تستجيب لعدد آخر من النّقاط، ممّا يسهم في التّعرّف الفوريّ والواضح. على سبيل المثال، تنشيط الخليّة المخصّصة لتحديد وجود نقطتين سيقلّل من نشاط الخليّة الّتي تستجيب لثلاث نقاط.

بالمقابل، الخلايا الّتي استجابت لأكثر من أربع نقاط كانت تتميّز بنمط آخر من الّنشاط، فقد أظهرت استجابة ضعيفة أيضًا لعدد مشابه لكن مختلف من الأشياء. على سبيل المثال، خليّة عصبيّة استجابت لستّ نقاط كانت تستجيب بشكل أضعف لخمس أو سبع نقاط. هذه الملاحظة قد تفسّر إلى حدّ ما التّردّد وزيادة فرصة الأخطاء الّتي تميّز عمليّة عدّ عدد كبير من الأشياء. هذه الطّريقة في عمل الدّماغ منطقيّة جدًّا أيضًا. في الطّبيعة، الفرق الدّقيق بين الأعداد الكبيرة سيكون أقلّ أهمّيّة بالنّسبة للحيوان، ولذلك لا حاجة له لاستثمار موارد كبيرة فيه. مفترس يتبع قطيعًا من الحمر الوحشيّة، على سبيل المثال، قد يرغب في معرفة ما إذا كان العدد 100 أو 200، لكنّه لن يهتمّ كثيرًا إذا كان في القطيع 100 أو 101 حمار وحشيّ.

أنت في الحسبان

يستقبل الدّماغ البشريّ عددًا كبيرًا من المؤثّرات من البيئة المحيطة به، ويتعيّن عليه تحليلها بسرعة والاعتماد على نتائج هذا التّحليل لاتخّاذ قرارات. قدرتنا على عدّ عدد صغير من الأشياء بشكل سريع قد تكون مفيدة جدًّا وتتطلّب منّا استخدام موارد أقلّ ممّا لو كنّا نقوم بالعدّ بطريقة متسلسلة وواعية، لكن ما زالت آليّة هذه العمليّة غير واضحة بشكل تامّ.

البحث الجديد يضيف إلى المعرفة الغنيّة الّتي توصّل إليها علماء الأعصاب حول نشاط هذا العضو المميّز، ولكن لا تزال الحاجة موجودة لإجراء المزيد من الدّراسات لاستكشاف عمق عمليّات العدّ. نأمل أن يؤدّي فهم كيفيّة عمل الدّماغ أثناء العدّ في المستقبل إلى تحسين العلاج للأشخاص الّذين يجدون صعوبة في تنفيذ هذه الأنواع من المهامّ.

 

0 تعليقات