وجدَ الباحثون طريقةً قد تُمَكّن حقن الأدوية داخل الجهاز العصبيّ المركزيّ وتتخطّى آليات الدّفاع الناجعة في الجسم والمُعدّة لمنع مثل هذا العبور

تحُدُّ الأوعية الدّمويّة من عبور الموادّ من خلالها إلى الدّماغ، وذلك لحمايته من الموادّ والعوامل التّي قد تضُرُّه. كشفَ الباحثون، من خلال دراسة جديدة، كيف تعمل هذه الإعاقة، وعرضوا طريقةً يمكن بمساعدتها للمواد أن تدخل إلى الدّماغ بشكلٍ مُؤقّت، وبذلك قد تُمكِّن علاج الأمراض والأضرار التي تحدث في هذا العضو الهامّ عن طريق الأدوية. الدّماغ هو العضو الأكثر تعقيدًا وإتقانًا في جسم الإنسان، إلّا أنه رقيقٌ جدًّا. من الهامِّ إذًا حماية الدّماغ من الإصابة بما قد يضرّ به من المواد السّامة والفيروسات والبكتيريا والمضادّات التي قد تصل إليه عن طريق الدّورة الدّمويّة. تنتقل جزيئاتُ الموادّ المختلفة من الأوعية الدّمويّة إلى الأنسجة المحاذية لها في غالبيّة أنحاء الجسم بحُريّةٍ تكاد تكون مطلقة. تحصل بذلك خلايا الجسم، مثلًا، على سُكّر الجلوكوز اللازم لنشاطها، وتُنقَل الهرمونات التي تتيح التواصل بين خلايا الجسم. إلّا أنّ الأوعية الدّمويّة التي تَنقل الغذاء إلى الدّماغ أكثر انتقائيةً للجزيئات، وذلك بخلاف الأوعية الدّمويّة العاديّة. تصل انتقائيّتها عمليًّا إلى درجة أنها تُشكِّلُ حاجزًا عديم النفاذ تقريبًا لغالبيّة المواد، هو الحاجز الدّموي الدّماغيّ.

מחסום הדם-מוח | מקור: C.j.guerin, Phd, Mrc Toxicology Unit, Science photo Library
مقطع لوعاء دمويّ في الدّماغ (بالأسود)، تحوي جدرانه الخلايا البطانيّة المتكاتفة. تحيط به الخلايا الدّبقية (بالأخضر) والخلايا العصبيّة (بالأحمر). الحاجز الدّموي الدّماغيّ | المصدر: C.j.guerin, Phd, Mrc Toxicology Unit, Science photo Library

 

سدٌّ كثيفٌ من الخلايا

يتكوّن الحاجز الدّموي الدّماغيّ بفضل المبنى الخاصّ للخلايا البطانيّة في الأوعية الدّمويّة التي في النّسيج الدّماغي. الخلايا البطانيّة هي طبقة الخلايا التي تغطّي جدران الأوعية الدّمويّة في الجسم. تنتظم هذه الخلايا في الدّماغ في مبنى متكاثف جدًّا، يُعيق مرور الجزيئات من خلاله ويُسمّى "التقاطع الضيّق بين الخلايا". لا توجد في خلايا الدّماغ البِطانيّة ممرّات وقنوات تتيح انتقال الجزيئات من الدّم إلى الأنسجة المجاورة، وذلك بخلاف الخلايا البطانيّة في سائر أنحاء الجسم، التي تتيح انتقال الجزيئات من الدّم إلى الأنسجة المجاورة بحريّةٍ تامّة. يتمُّ بهذه الطريقة الفصل الدّائم بين الدّماغ والموادّ التي تمرّ عبر الدورة الدمويّة.

يَمنع المبنى المتكاثف للخلايا البطانيّة انتقال الجزيئات الكبيرة، أو الجزيئات عديمة الذوبان في الدّهنيّات من الدّم إلى الدّماغ. تُستخدم النّاقلات، وهي بروتينات تحمل الجزيئات وتوصلها إلى الدّماغ، لتخطّي هذا الحاجز ونقل الجزيئات الضرورية واللازمة للعمل السّليم للدّماغ. تستطيع جزيئات الجلوكوز مثلًا الدّخول إلى الدّماغ عن طريق نشاط البروتين ناقل الجلوكوز GLUT-1.

تتميّز أمراض دماغيّة كثيرة مثل الزهايمر وباركنسون، من ضمن ميزات أخرى، بخللٍ في أداءٍ الحاجز الدّمويّ الدّماغيّ. قد تُؤدّي الالتهابات الموضعيّة لدى مرضى الزهايمر مثلًا إلى زيادة نفاذيّة الأوعيّة الدّمويّة في الدّماغ، ويؤدّي ذلك إلى ردود فعل الجهاز المناعيّ التي قد تُؤثِّر في تقدُّم المرض. على الرّغم من ذلك، من الضروريّ استخدام الأدوية لعلاج الأمراض الدّماغية في كثير من الحالات، والتأكُّد من وصولها إلى المكان المناسب من خلال الدّورة الدّمويّة. لن تستطيع الأدوية الوصول إلى الهدف (المكان المناسب في الدّماغ)، لأنّ الحاجز الدّمويّ الدّماغيّ لا يتيح مرور الجزيئات الكبيرة من خلاله. يجعل هذا الوضع من علاج الأمراض والأورام السرطانيّة في الدّماغ مهمةً صعبةً للغاية.

סריקת CT של מוח של חולה אלצהיימר | מקור: Vsevolod Zviryk, Science Photo Library
يتضرّر النشاط السّليم للحاجز الدّمويّ الدّماغيّ عند حصول الأمراض الدّماغيّة المختلفة. مسح CT لِدماغ مريض الزهايمر | المصدر: Vsevolod Zviryk, Science Photo Library

 

اختراقٌ مُؤقّت

بسبب هذه الصعوبة، هُناك أهمّيّة بالغةٌ في فهم الحاجز الدّمويّ الدّماغيّ، ويجري البحث منذ زمن طويل عن طرق لِاختراقه بشكل مُؤقّت. وُجدَ في الماضي مثلًا أنّه يمكن فتح الحاجز بواسطة الأمواج فوق الصّوتيّة. قد تُمكّن انطلاقة جديدة في هذا المجال في المستقبل، من فَتْح الحاجز الدّموي الدِّماغي لفترة زمنيّة محدودة وذلك استعانةً بالمضادّات، ثمّ تحسين فاعليّة علاج الأمراض التي تصيب الدِّماغ بالأدوية. وُجدَ في الدّراسة الجديدة أنّ مُستقِبلًا مُعيّنًا موجودٌ على جدار الخلايا البطانيّة، له دورٌ أساس في استدامة الحاجز الدّمويّ الدِّماغيّ، ويمكن الاستعانة به لتشويش الآليّات التي تمنع عبور الموادّ إلى الدّماغ. وُجدَ سابقًا أنّ الفئران التي يفتقر دماغها إلى البروتين الذي يرتبط بهذا المُستقبل ماتت وهي ما زالت أجِنّةً، بسبب عيوب في بنية الأوعية الدمويّة في المشيمة. في المشيمة كما في الدّماغ، تَحُدُّ الأوعية الدّمويّة من انتقال المواد بشكل حر من دم الأمّ إلى الجنين بهدف حمايته (الجنين) من الإصابات. قادَ ذلك إلى الافتراض بأنّ لهذا المستقبِل دورٌ هامٌّ في بُنيان الحاجز الدّموي الدّماغي. أزالَ الباحثون، بواسطة التّعديل الجينيّ، المُستقبِل من خلايا الفئران البطانيّة فاختُرِقَ الحاجز وأصبح عبور الموادّ إلى الدّماغ متاحًا - وأدّت هذه الحالة حتى إلى موت الفئران. فحص الباحثون نشاط المُستقبِل بِالمستوى الجزيئي واتضح أنّه حصل انخفاضٌ في مستوى البروتين الذي يقوم بلصق الخلايا المُتجاورة في دماغ الفئران التي أزيل المُستقبِلَ منها، وارتفاعٌ في مستوى بروتينٍ آخر ضروري لتكوين فتحات في الخلايا البطانيّة تتيح عبور الموادّ من خلالها. تؤدّي مثل هذه التغيُّرات إلى تكبير الفسحات بين الخلايا البطانيّة وتُمكّن عبور الجزيئات من خلالها فتزداد نفاذيّة الأوعية الدّمويّة. 

اتّضح من خلال التجارب التي أجراها الباحثون أنّ بروتينًا آخر اسمه نيتارين-1، يشارك في هذه السلسلة من التفاعلات ويرتبط بالمُستقبِل. استخدم الباحثون، وفقًا لذلك، مُضادّاتٍ تعيق ارتباط نيتارين-1 بالمستقبل لتقويض الحاجز الدَّمويّ الدِّماغيّ. تكلّلت هذه الطريقة بالنّجاح، إذ أدّت فعلًا إلى زيادة انتقال الموادّ من الأوعية الدّمويّة للفئران إلى الدّماغ. أضف إلى ذلك أنّ هذا التغيُّر كان مؤقّتًا، إذ تحلّلت الأجسام المُضادّة وعاد الحاجز الدّموي الدِّماغيّ للفئران إلى نشاطه السّليم بعد مرور ثماني ساعات. 

ما زالت هناك حاجةٌ لِدراسات أخرى، قبل أن يصبح بالإمكان استخدام هذه الطّريقة طبّيًا وعمليًّا، لأنّ التّجربة أُجريت على الفئران ولم تُجرَ على الإنسان. على الرّغم من ذلك، فإنّ أهمّيّة نتائج الدّراسة كبيرةٌ جدًّا، إذ أنّها تطرح إمكانيّة استخدام الأجسام المضادّة لتعطيل حماية الدِّماغ بشكل مُؤقّت ومُتعمَّد، بطريقةٍ قد تُحسِّن كثيرًا من القدرة على علاج أمراض الدّماغ بالأدوية في المستقبل. 

 

0 تعليقات