تشير التّجارب الّتي أُجريت على الجرذان إلى أنّ مرحلة النّوم "مرحلة أمواج دلتا" تعطّل عمليّة اكتساب مهارات جديدة، بينما مرحلة "نوم الذّبذبات البطيئة" تساهم في عمليّة التّعلّم.
قد يبدو الجرذ النّائم هادئًا، لكن، عمليًّا، هناك صراع دائر تحت فروة رأسه، صراع بين موجتين تتنافسان وتقرّران إن كان هذا الجرذ يستطيع تذكّر معلومات جديدة أم لا. هذا ما تبيّن في دراسة حديثة نُشرَت في مجلّة Cell. قد يكون هذا جوابًا للسّؤال: لماذا تترسّخ بعض المعلومات في ذاكرتنا أثناء النّوم، بينما تختفي معلومات أخرى؟
يساعد التّمييز بين هاتين الموجتين المتنافستين على التّوفيق بين أفكار قد تبدو متناقضة فيما بينها. لقد أظهرت دراسات أنّ بعض الذّكريات يتمّ ترسيخها خلال النّوم، وبعضها يتمّ إضعافها وبالتّالي إلى نسيانها.. قالت باحثة النّوم جينا بو (Poe) من جامعة كاليفورنيا، الّتي لم تشارك في الدّراسة، لـموقع Science News: "إنّ نتائج الدّراسة الجديدة سوف تساعدنا على اكتشاف العلاقة بين النّوم والتّعلّم"
قام الباحثون، بقيادة عالم الأعصاب كرونش جانجولي (Ganguly) من جامعة كاليفورنيا، بتعليم الجرذان أ التّحكّم بأنبوب الماء باستخدام جهاز التّواصل دماغ - حاسوب الّذي يترجم عمليّات الدّماغ إلى تحرّكات (ذبذبات) تظهر على الأنبوب. بعد نوم لمدّة ساعة تمّ فحص قدرة التّعلّم عند الجرذان، عن طريق فحص المدّة الّتي تستغرقها الجرذان لتنفيذ نفس المهمّة مقارنة بمدّة المهمّة الأولى. تبيّن للباحثين أنّه كلّما كانت المدّة أقصر كان التّعلّم أفضل. توصّل الباحثون لنتيجة مفادها أنّ نجاح عمل الجرذان منوط بشكل حاسم بنومهم بعد التّدريب.
في الصّورة: النّجاح كان أكبر عندما ناموا بعد التّدريب. اِمرأة نائمة مع إلكترودات ملصقة على صباحها، أمواج دماغيّة من فوقها| SPL
نوعان من الأمواج
لفهم كيف تتقوّى عمليّة التّعلّم خلال النّوم، راقب جانجولي وفريق عمله نشاط الدّماغ لدى الجرذان النّائمة الّتي سبق أن تدرّبت على إزاحة الأنبوب. ركّز الباحثون على نوعين من الأمواج الدّماغيّة في قشرة الدّماغ الحركيّة خلال النّوم، ولكن ليس النّوم الحالم (مع الحلم).
يُسمّى النّوع الأوّل من الأمواج الّتي فُحصت "الذّبذبات البطيئة" بسبب وتيرة تغييراتها البطيئة، وقد افتُرِض في الماضي أنّها تساهم في تقوية الذّاكرة. فحص الباحثون هذه الفرضيّة باستخدام علم البصريّات الوراثيّ: قاموا بإدخال قناة حسّاسة للضّوء في دماغ الجرذان وأطلقوا شعاع ليزر عليها لإبلاغ الدّماغ بإيقاف الذّبذبات بعد وقت قصير من بدئها. وجدوا أنّ الجرذان الّتي تخضع لهذه العمليّة تحتاج لمزيد من الوقت لإزاحة الأنبوب بعد استيقاظها، بمعنى أنّه إذا تمّ قطع مرحلة النّوم الّتي تتميّز بهذا النّوع من الأمواج، فإنّ المعلومات تكون أقلّ ثباتًا/ رسوخًا في الذّاكرة.
النّوع الثّاني هو "أمواج دلتا"الّتي تتميّز بالسّعة العالية والوتيرة البطيئة، وهو شائع أكثر ب 4-3 أضعاف من الذّبذبات البطيئة أثناء النّوم، إلّا أنّ دور هذه الأمواج ما زال مبهمًا. يقول جانجولي: "اِعتقدنا أنّ موجات دلتا مسؤولة عن شيء مهمّ، لأنّها منتشرة جدًّا". كان لتعطيل موجات دلتا تأثير معاكس لتأثير تعطيل الذّبذبات البطيئة، فقد أدّت التّجربة إلى تحسين أداء الجرذان في المهمّة المتكرّرة، ومن هنا استنتج الباحثون أنّ هذه الأمواج تعيق التّعلّم.
تقول بو: "حتّى الآن، التّمييز بين الذّبذبات البطيئة وموجات دلتا غير واضح،وهذا المقال يوضّح أنّها ليست فقط مختلفة، بل أنّها تلعب أيضًا أدوارًا متناقضة تمامًا".
وفقًا لأقوال جانجولي، فإنّ الذّبذبات البطيئة الّتي تظهر أحيانًا، بالإضافة إلى "رشقاتٍ" من النّشاط الكهربائيّ، تعطّل تأثير أمواج دلتا الّتي تضعف الذّاكرة. يقول جانجولي ويوضّح: " الذّبذبات البطيئة مهمّة للحفاظ على المعلومات الجديدة الّتي اكتُسِبت. ليس من الواضح، حتّى الآن، معرفة كيف يقرّر الدّماغ أيّ الذّكريات يجب تخزينها وأيّ يجب حجبها أو إسقاطها. قد يكون المفتاح هو وجود أو عدم وجود مكافأة،فقد تكون جائزة خارجيّة مثل الماء للجرذان، أو مكافأة داخليّة مثل الشّعور الجيّد عند التّحدّث مع الأصدقاء.
يمكن أن تساهم نتائج هذه الدّراسة في معالجة مشاكل التّعلّم والذّاكرة. في دراسة سابقة أجراها فريق جانجولي، تبيّن ارتفاع في أمواج دلتا عند مرضى الجلطةالدّماغيّة، وربّما هذا هو السّبب في صعوبة تعلّمهم، مثل صعوبة المشي مجدّدًا بعد الإصابة. في المقابل، تنخفض سعة الذّبذبات البطيئة عند كبار السّنّ، وهذا قد يفسّر بعضًا من مشاكل الذّاكرة في جيل الشّيخوخة.
الترجمة للعربيّة: ريتا جبران
التدقيق العلمي: رقيّة صبّاح
التدقيق اللغوي والتحرير: د.عصام عساقلة