يكشف بحث جديد أنَّ الكائنات المجهريّة تشكّل معًا هياكل كبيرة ثلاثيّة الأبعاد يمكنها التّحرّك حتّى القفز من سنّ إلى آخر.

على الرّغم من الميل إلى الاعتقاد بأنَّ بكتيريا الفم تلتصق بأسطح الأسنان فقط، يكشف بحث جديد أنّها طوّرت طريقة مدهشة للانتقال من مكان إلى آخر. اِتّضح أنَّ البكتيريا والفطريّات، كلّ منها لا تتحرّك بمفردها، بل تتعاون وتخلق نوعًا من الكائنات الحيّة، كبيرة ومتعدّدة الخلايا، قادرة على قطع مسافة طويلة بسرعة عبر السّنّ حتّى الانتقال إلى أسنان مجاورة .

تحبّ البكتيريا الالتصاق بالأسطح وإنشاء هياكل جماعيّة تُسمّى أغشية حيويّة رقيقة (Biofilm)- طبقات فوق طبقات من البكتيريا مع طبقة واقية تغلّفها جميعًا معًا. ومن الأمثلة على هذه البنية، طبقة البكتيريا المعروفة باسم اللّويحة (Plaque)،  الّتي تضرّ بصحّة الأسنان واللّثّة. إذا لم يتمّ إزالتها بعناية، ستتحوّل إلى جير قد يزيد من خطر الإصابة بالتّسوّس وأمراض اللّثّة.

تتغذّى البكتيريا الملتصقة بأسطح الأسنان على بقايا الطّعام المتبقّية على الأسنان، خاصّة السّكّريّات  والأطعمة الغنيّة بالكربوهيدرات. تنبعث منها أحماض خلال عمليّة تفكيك الطّعام، الّتي تتلف طبقة المينا اللّامعة الّتي تغطّي السنّ تدريجيًّا وتُحدِث ثقوبًا فيها، ممّا قد يؤدّي إلى تعفّن الأسنان وتسوّسها. تقدّر منظّمة الصّحّة العالميّة أنَّ حوالي ثلاثة مليار شخص في جميع أنحاء العالم يعانون من التّسوّس. تُظهر مراجعة منهجيّة للدّراسات المنشورة منذ عام 1960 حتّى 2019 أنَّ تسوّس الأسنان يؤثّر على حوالي نصف الأطفال في مرحلة الطّفولة المبكّرة. لذلك، هذه مشكلة صحّيّة عالميّة يجب التّعامل معها.


يؤثّر تسوّس الأسنان على حوالي ثلاثة مليار شخص في جميع أنحاء العالم. أسنان عليها كائنات حيّة دقيقة | الصّورة: A Aleksii ، Shutterstock

"كائن حيّ خارق" آخذ في الانتشار

في دراسة نشرت في مجلّة PNAS، اِكتشف باحثون من جامعة بنسلفانيا في الولايات المتّحدة تعاونًا مفاجئًا بين اثنين من المخلوقات أحاديّة الخليّة المختلفة تمامًا - البكتيريا والفطريّات - الّذي يساعدها على الانتشار في مناطق جديدة والاستيلاء عليها.

جمع الباحثون عيّنات من لعاب أطفال صغار عانوا من تسوّس حادّ ونقلوها إلى بنية تحاكي بنية السّنّ. بخلاف الدّراسات السّابقة الّتي تمّ فيها حفظ العيّنات في الحالة الّتي كانت عليها عند أخذها، اِستمرّ الباحثون هذه المرّة في متابعة الكائنات الحيّة الّتي تعيش في العيّنات مع مرور الوقت بمساعدة مجهر يعطي صورة ثلاثيّة الأبعاد. رأى الباحثون أنَّ بكتيريا العقديّة الطّافرة (Streptococcus mutans) وفطريّات المُبيَضّة البيضاء (Candida  albicans) تشكّل معًا كتلًا كبيرة تشبه العناقيد تبدو مثل كائن حيّ كبير متعدّد الخلايا.

لم يتمّ العثور على مثل هذه الهياكل في لعاب الأطفال ذوي الأسنان الصّحّيّة. كان للعناقيد هيكل مميّز ثلاثيّ الأبعاد. تجمّعت البكتيريا حول مركز الكتلة وشكّلت بنية كرويّة ولزجة، وارتبطت الخلايا الفطريّة، الّتي تكون أكبر ومستطيلة الشّكل وتشبه قضيبًا ضيّقًا، بالعنقود من الخارج. نما هذا الهيكل متعدّد الخلايا بشكل دائم وتحرّك عبر الأسنان بطريقة سريعة ومنسّقة. كانت الخلايا الفطريّة الطّويلة بمثابة أرجل تلامس السّطح بحيث حرّكت الكتلة إلى الأمام، وصعدت البكتيريا الّتي لاقتها بطريقها على الكتلة المتنقّلة.

تتحرّك الكتلة متعدّدة الخلايا بأكملها بحركات منسّقة، وتبدو أحيانًا كأنَّها أرجل أماميّة تمشي أو أنّها قفزت إلى الأمام على السّطح، بينما بقيت الأرجل الخلفيّة ثابتة في مكانها. عندما اقترب العنقودان من بعضهما البعض، كانا  كأنّهما ساعدا بعضهما البعض في طريقهما للاندماج في عنقود واحد كبير. أظهر اختبار على نموذج أسنان بشريّة حقيقيّ أنَّ الكائن متعدّد الخلايا أدّى إلى انتشار التّسوّس نحو مناطق واسعة.

لا يمكن للبكتيريا والفطريّات وحدها أن تتحرّك عبر الأسنان، لكن هذا التّعاون المتبادل يفيد المجموعتين ويسمح لهما بالنّموّ والانتقال من سنّ إلى آخر، والانتشار بسرعة على أسطح أسنان واسعة.


يشكّلون معًا كتلة كبيرة على سطح السّنّ. فطر المُبيَضّة البيضاء (اليسار) وبكتيريا العقديّة الطّافرة (اليمين) | Steve Gschmeissner, Kateryna Kon / Science Photo Library

معًا أقوى

كانت سرعة حركة العناقيد مفاجئة. أظهرت القياسات أنّها تحرّكت بسرعة تصل إلى 40 ميكرومتر (أجزاء من المليون من المتر) في السّاعة خلال السّاعات الثّلاث الأولى ثمّ تباطأت. تمكّنت العناقيد في غضون ستّ ساعات من الوصول إلى مسافة حوالي مائة ميكرومتر حتّى أنّها "قفزت" بهذه الطّريقة من سنّ إلى آخر. أشار جي رين (Ren)، أحد كاتبي المقال، إلى أنَّ "هذه المسافة أكبر من 200 ضعف طول أجسامها، لذا فهي تقفز بشكل أفضل من معظم الفقاريّات، نسبة لحجمها. على سبيل المثال، تقفز ضفادع الأشجار والجنادب حوالي خمسين ضعف وعشرين ضعف المسافة من طول أجسادها، على التّوالي".

تتميّز الهياكل ثلاثيّة الأبعاد النّاتجة بميزة أخرى: كانت أكثر مقاومة للغسل، وكان من الصعب إزالتها حتّى بالغسل القويّ. كما أنّها كانت أكثر مقاومة للمعقّمات الّتي تضرّ عادة بالبكتيريا، مقارنة بمقاومة البكتيريا والفطريّات كلّ على حدة.

يُظهر الاكتشاف بأنَّ لعابنا يحتوي على هياكل ثلاثيّة الأبعاد تذكّرنا بالكائن الحيّ الخارق، الّذي يزحف ويمشي حتّى أنّه يقفز من سنّ إلى آخر، وله نوع من الجسم والأطراف خارجة من كتلة لزجة من الخلايا، يبدو خياليًّا بعض الشّيء، لكنّه يؤكّد على أهمّيّة فهم العلاقات المتبادلة بين البكتيريا والفطريّات في الفم، وإسهامها في تسوّس الأسنان. قد تساعد الدّراسات الإضافيّة الّتي سوف تركّز على هذه المجموعات اللّزجة في تطوير تدابير قد تؤخّر حركتها وانتشارها في تجويف الفم، وتحمينا من تطوّر واسع للسّوس في الأسنان.

في الفيديو، يمكن مشاهدة الصّور من المجهر الّذي يتتبّع تقدّم البنية الّتي أنشأتها البكتيريا والفطريّات. البكتيريا (باللّون الأخضر)، الفطريّات (باللّون الأزرق). في الجزء العلويّ من الصّورة الفطريّات  والبكتيريا معًا، أدناه تظهر البكتيريا أو الفطريّات وحدها داخل الكتلة (من مقالة البحث).

 

0 تعليقات