الباحثون يتحقّقون من نظرية الكمّ (Quantum theory) التي طُوِّرَت منذ ثمانين عامًا، والتي بموجبها، في ظلّ ظروفٍ نادرةٍ، يمكن أن تكون هناك موجتان صوتيَّتان منفصلتان جنبًا إلى جنب في نفس المادّة.

تقدّم دراسة جديدة، نُشِرَت في مجلّة Physical Review Letters، المشاهدة الأولى لظاهرة كموميّة تسمح لنوعيْن مختلفيْن من الموجات الصّوتيّة بالتّواجد جنبًا إلى جنب في نفس الغاز، بحيث تنشأ كلّ واحدة منها من خاصيّة مختلفة للمادّة. هذا يعني أنّه في نفس الوسط يتكوّن زوجان من الموجات، لكلٍّ منهما سرعة صوت مختلفة. تُعتبر هذه الظاهرة غير عاديّة وغير مفهومة ضمنًا، حيث أنه في المواد المألوفة كالهواء، الماء والفولاذ، والعديد من المواد الأخرى، يتحرّك الصوت في كلٍّ منها بنفس السرعة. قام فريق من الباحثين البريطانيّين بقيادة زوران هادزيبابيتش (Zoran Hadzibabic) بالتّحقّق من نظريّة قديمة، منذ حواليْ ثمانين عامًا، تنّبأت بوجود ظاهرة في الغاز عند درجة حرارة منخفضة جدًّا.

اكتشف الفيزيائيّ الرّوسيّ بيوتر كابيتسا (Pyotr Leonidovich Kapitsa) وزميلاه الكنديّان جون آلن (John F. Allen) ودونالد مييسنر (Donald Misener)، منذ حوالي 85 عامًا، ظاهرة تسمّى "الميوعة الفائقة" (Superfluidity). لا تُعتبر هذه الظّاهرة يوميّة يسهل إنشاؤها في البيت، لأنّها تنشأ فقط في درجات حرارة منخفضة للغاية، قريبة من الصفر المطلق بدرجة حرارة كلفن (Kelvin) - حوالي 273 درجة حرارة تحت الصفر. نحصل في هذه الظّاهرة على سائل يتصرّف بطريقة غريبة نوعًا ما: بحيث يسيل بدون أيّ لزوجة أو فقدان طاقة، بخلاف أيّ سائل نعرفه. على سبيل المثال، عند تبريد غاز الهيليوم-3 (3He) إلى درجة حرارة 2.2 درجة كلفن، يصبح فائق السّيولة. فاز ديفيد لي (David Lee)، دوغلاس اوشيروف (Douglas Osheroff) وروبيرت ريتشاردسون (Robert Richardson) بجائزة نوبل للفيزياء سنة 1996م لاكتشافهم هذه الخاصّيّة في الهيليوم. 

في سنة 1941م اكتشف الفيزيائيّ اليهوديّ السّوفييتيّ ليف لانداو (Lev Landau) نظريّة تشرح ظاهرة "الميوعة الفائقة". وفقًا لنموذجه "المائعين"، في هذه الحالة، تكون المادّة في الواقع مزيجًا من تيّاريْن - أحدهما يتدفّق بشكل طبيعيّ والآخر يتدفّق بشكل فائق، حيث تكون جميع الذّرّات في نفس الحالة الكموميّة، أي أنّها تمتلك بالضّبط نفس الخصائص الديناميكيّة، مثل الموضع، والزّخم، والطّاقة، والزّخم الزّاوي والدّوران. تُدعى النّظريّة الثّانية "تكاثف بوز-أينشتاين" (Bose–Einstein condensate)، على اسم ألبرت أينشتاين والفيزيائيّ الهنديّ ساتيندرت نات بوز (Satyendra Nath Bose)، وتُعتبر هذه النّظريّة أرضًا خصبة للبحث في حدّ ذاتها.

סימולציה של עיבוי בוז-איינשטיין | National Institute of Standards and Technology, Science Photo Library
تنشأ هذه الظّاهرة فقط في درجات حرارة منخفضة للغاية، قريبة من الصّفر المطلق بدرجة حرارة كلفن (Kelvin). محاكاة لنظرية "تكاثف بوز-أينشتاين"| National Institute of Standards and Technology, Science Photo Library

تجربة تحت ظروف البرد القارس

حاول الباحثون لسنواتٍ عديدة إثبات نموذج "التيّارين" في الأنظمة الكموميّة المعروفة: على سبيل المثال، وُجِدَ أنّ النّموذج يناسب وصف التّيارات غير القابلة للضّغط - تلك التي لا تتغيّر كثافتها عند زيادة الضّغط الّذي يعمل عليها. نفس الشيء موجود في الغازات "العاديّة"، والّتي تتكوّن من الذّرّات الّتي خضعت لتكاثف بوز-أينشتاين، وفي غازات فيرمي المكوّنة من الإلكترونات. فحص الباحثون في هذه الدّراسة نموذج "التيّارين" للانداو، ولهذه الغاية فحصوا سلوك الموجات الصّوتيّة في غاز قابل للضّغط بحسب نظريّة تكاثف بوز-أينشتاين. ينبع اختيار الموجات الصّوتيّة من طبيعتها الأساسيّة: على المستوى المجهريّ، تمثّل الموجات الصّوتيّة اهتزازات الذرّات، بحيث تنعكس خصائص المادّة في سلوك الموجات الّتي تتحرّك خلالها.

يتكوّن النّظام التّجريبيّ من صندوق فارغ ثلاثيّ الأبعاد (عدد الأبعاد مهمّ جدًّا في الديناميكا الحراريّة)، حيث أتاحوا تدفّق غاز من ذرّات البوتاسيوم-39 (Potassium-39) وتبريده إلى درجة حرارة أقلّ من واحد في المليون كلفن - قريب جدًّا من الصّفر المطلق. تتميّز حالة مادّة الغاز بمسافة كبيرة بين الذرّات أو الجزيئات. في مثل هذه الظروف شديدة البرودة، تنجح بعض ذرّات الغاز من الاقتراب من بعضها والتكاثف بشكلٍ كبيرٍ، إلى درجة يصبح فيها التّفاعل بينها قليلًا. أنشأ الباحثون في هذه الحالة تفاعلًا صناعيًّا بين الذّرّات أدّى إلى تحوّل بعض الغاز إلى فائق السّيولة. في المجموع، يتمّ إنشاء ما يسمّى بنظام "التيّارين": 43 في المئة من الغاز هو تدفّق فائق والنّسبة المتبقّية 57 في المئة هو تدفّق "عاديّ".

قام الباحثون بإدخال موجات صوتيّة أحدثت اهتزازات داخل الصّندوق. لكلّ اهتزاز صوت فريد (تردد)، لكن بما أنّ الغاز يتكوّن من تيّاريْن لهما سلوك مختلف، فقد تمّ إنشاء أزواج مقابلة من الموجات ذات السّرعات المختلفة. أوضح الباحثون في مقالهم أنّ النّسبة بين سرعات الصّوت ليست ثابتة. عند تردّدات معيّنة، تكون سرعة الصّوت في المادّة فائقة السّيولة أعلى من سرعة الصّوت في السّائل العاديّ، بينما في التّردّدات الأخرى، يكون الوضع معاكسًا. 

يقول الفيزيائيّ موشيه جولدشتاين (Moshe Goldstein) من جامعة تل أبيب، الذي يبحث الديناميكا المائيّة (Hydrodynamics) للتدفّقات الكموميّة: "تفتح التّجربة نافذةً لقياس خصائص الموجات في السّيولة الفائقة، في نطاق عوامل لم يكن من الممكن الوصول إليها حتّى الآن، أي عندما تكون قابليّة تكاثف المادّة فائقة السّيولة عالية". ويضيف: "من المتوقّع أن تُسهم النّتائج بترسيخ فهم خصائص التّيارات الكموميّة، وهو موضوع يحتلّ صدارة البحث حاليًّا في مجموعة متنوّعة من الأنظمة، ليس فقط في الذّرّات عند درجات حرارة منخفضة للغاية كما في المقال، بل أيضًا في بلازما الكوارك-غلوون (Quark–gluon plasma) في مسرعات الجسيمات الإلكترونات في المواد الصّلبة مثل الغرافين (Graphene)".

يُلخّص مؤلّفو المقال: "وجدنا أنّ نظريّة "التيّارين" تجسّد جميع المكوّنات الرّئيسة للنّظام". يوفّر النّهج التّجريبيّ (الذي سمحت به التّجربة) للخصائص المجهريّة والدّيناميكا المائيّة، فرصةً مثاليّةً لمزيد من البحث المكثّف في تيّارات بوز-أينشتاين". على الرّغم من أنّ الباحثين أنفسهم لا يناقشون التّطبيقات المحتملة لنتائجهم، إلّا انّهم يقدّمون توجّهات إضافيّة للبحث، ستسلّط الضّوء على الطّبيعة الغريبة للتدفّقات الكموميّة.

 

0 تعليقات