كيف تقاوِمُ دببةُ الماءِ الصغيرةُ ظروفَ الجفاف؟ بروتيناتٌ خاصّةٌ تُكسِبُ خلاياها خصائصَ هُلاميّةً تُحافظُ على بُنيتِها.
دِببةُ الماءِ (أو بطيئةُ الخَطْوِ أو خنازيرُ الطحلب، Tardigrades) حيواناتٌ غير نمطيّة. لا يتعدّى طولُ هذه الكائناتِ الصّغيرةِ ميليمترًا واحدًا، وهي تقرُبُ عائلةَ مِفصليّاتِ الأرجُل، وتُذكّرُنا، عندما نُشغّلُ مُخيّلتنا، بِدُميةِ الدُّب، ومن هنا اكتسبت اسمها. لكن، لا يُربِكَنَّكم مظهرُها البريء؛ إذ تُعَدُّ "دُمى الدّببةِ" الصغيرةُ من بين أكثر المخلوقاتِ على وجه الأرض، تحمُّلًا للظّروفِ الصّعبةِ. يمكنُ أن نجدَ دُببةَ الماءِ في قمم جبالِ الهيمالايا العاليةِ وفي قعرِ البحرِ أيضًا. يمكنُها أن تبقى على قيدِ الحياةِ في ظروفِ البردِ القارسِ، حتى وإن اقتربت درجةُ الحرارةِ من الصّفرِ المُطلق، وفي الحرِّ الحارقِ في درجةِ حرارةٍ تصلُ حتّى 150 درجة مئويّة (وهذا مثيرٌ للإعجاب بكل المقاييس، حتّى وإن لم يكُن البقاء على قيد الحياةِ في هذه الظروف لفترةٍ زمنيّةٍ طويلة). يمكنُها الصّمودُ بوجهِ أشعّةٍ أشدَّ ألفَ مرةٍ، وأكثرَ من الأشعةِ التي تودي بحياةِ الإنسان، ويمكنُها البقاءُ جَوعى لعدّةِ سنوات، وتصمُدُ تحت الضّغطِ العالي وفي فراغِ الفضاءِ الخارجيّ.
دُببةُ الماءِ قادرةٌ أيضًا، على الرّغمِ من اسمها الذي يرمزُ إلى حُبِّها للبيئةِ المائيّةِ، على البقاءِ على قيدِ الحياةِ في حالاتِ الجفافِ الشّديد. تبيّنَ للعلماءِ أنَّ دُببةَ الماء، بخلافِ الغالبيّةِ العُظمى من الحيواناتِ التي تعيشُ على سطحِ الأرض، والتي تحتاجُ للماءِ بشكلٍ يوميٍّ لكي تبقى على قيدِ الحياة، قادرة في حالاتِ الجفاف على البقاءِ على قيدِ الحياةِ لمدّةِ عشرِ سنين كاملة، حيثُ تنخفض نسبةُ الماءِ في أجسامها إلى حواليْ ثلاثةٍ بالمئةِ فقط.
من أكثرِ المخلوقاتِ تحمُّلًا للظّروفِ القاسيةِ على وجهِ الأرض. في الصّورة: صورة دُبِّ الماء من خلالِ المِجهر | Videologia, Shutterstock
دُمى الدُّببةِ المجَفّفة
الماءُ هو المُكوّنُ الأساس لدى جميعِ المخلوقاتِ الحيّةِ، وخاصّةً الخلايا الحيّة. يُشكّلُ الماءُ وسطًا مناسبًا لحدوثِ العمليّاتِ الكيميائيّةِ، ويُوفّرُ ضغطُ الماءِ على جدارِ الخليّةِ دعمًا لبُنيتِها. إذا فُقِدَ الماءُ تجفُّ الخليّةُ وتتضرّرُ العمليّات التي تحدثُ فيها، وقد تنهارُ الخليّةُ وتفقدُ بُنيتَها. خمّنَ الباحثون، الذين لاحظوا قدرةَ دُببةِ الماءِ العجيبةِ على البقاءِ على قيدِ الحياةِ في حالاتِ الجفافِ، أنّ هناكَ بروتيناتٍ تُسهِمُ في الحفاظِ على القُوةِ الميكانيكيّةِ للخليّةِ، وتَحولُ دون انهيارِها في حالِ غيابِ الماء. تتحوّلُ دُببةُ الماءِ، عندما تجدُ نفسَها في حالةِ جفاف، إلى وضعٍ استثنائيٍّ تتباطأُ فيه عمليّاتُها الأيضيّةِ إلى حدٍّ كبيرٍ، لدرجةِ أننا قد نحسبُها ميّتةً عند النظرِ إليها من الخارجِ، لافتقارِ المُؤشّراتِ الحياتيةِ الصّادرةِ منها. دببةُ الماءِ قادرةٌ على العودةِ إلى نشاطها العاديّ عند زوالِ الجفاف. وجدَت مجموعةٌ من العلماءِ من اليابانِ مُؤخّرًا، كيف تحمي هذه الحالةُ الاستثنائية دُبَّ الماءِ من الجفاف، وقد نُشرت الدّراسةُ في المجلةِ العلميّةِ PLOS Biology.
نُلاحظُ في الفيديو التالي عمليّةَ تكوّنِ شبكةِ الخيوطِ البروتينيّة (من مقالةِ الدّراسة):
ويُظهرُ الفيديو التالي عمليّةَ تفكُّكِ شبكةِ الخيوطِ البروتينيّة. (من مقالةِ الدّراسة):
البروتيناتُ الهُلاميّةُ المقاومةُ للجفاف
فحصَ الباحثون ما هي البروتيناتِ التي من شأنها أنْ تُسهِمَ في صمودِ دُببةِ الماء في ظروفِ الجفافِ، ووجدوا 336 بروتينًا مُرَشّحًا محتملًا. وجدَ الباحثون هذه البروتيناتِ عن طريق استخلاصِ كلِّ البروتيناتِ من خلايا دُبِّ الماء، والفصلِ بينها بالاعتمادِ على ردِّ فعلِها على ظروفِ الجفاف. اختبرَ الباحثون أوّلًا جميعَ بروتينات أحدِ أنواعِ دُببةِ الماءِ، المعروفِ بتعبيرِه الدّائم للبروتيناتِ التي تمنحُ مقاومةً للجفاف. عزلَ الباحثون البروتيناتِ التي حدثَ تغيُّرٌ ملحوظٌ في بُنيتِها في أعقابِ عمليّةِ التجفيفِ عن البروتيناتِ التي لم يحدُث تغييرٌ في بُنيتها. جمعَ الباحثون بعدَ ذلك البروتيناتِ التي حدثَ تغييرٌ ملحوظٌ في بُنيتها، بسببِ التّعرُّض لظروفِ الجفاف، وأدخلوها في وسطٍ مائيٍّ من جديد، وفحصوا أيَّها عادَ إلى بُنيتهِ الأصليّة. ردُّ فعلِ هذه البروتيناتِ على ظروفِ الجفافِ هو رجعيٌّ، كما يُتوقّعُ من البروتيناتِ التي تُشاركُ في إكسابِ الخليّةِ والجسمِ كلِّه مقاومةً لظروفِ الجفاف. شخّصَ الباحثون جميعَ هذه البروتيناتِ، ثمّ فحَصوا أيّها يخصُّ دُببةَ الماءِ، ويتمُّ إنتاجُها بكميةٍ أكبرَ من المعتادِ في ظروفِ الجفاف. تقلّصَ البحثُ، بالاعتماد على هذه المعايير، ليشملَ عائلةً من البروتيناتِ تنفردُ بها الدببةُ المائيّة وتُعرف باسم CAHS.
فحصَ الباحثون ما الذي يحدثُ عندَ إضافةِ هذه البروتيناتِ، إلى قطراتٍ من الزيتِ مطليّةٍ بمادةٍ تُحاكي غشاءَ الخليّة، وماذا يحدثُ عندَ إضافتِها إلى خلايا الحشراتِ أيضًا. أظهرت التّجربةُ أنَّ بعضَ البروتينات تزيدُ من متانةِ قطراتِ الزيتِ المطليّةِ، ومتانةِ خلايا الحشراتِ ومن صمودِها أمامَ الضغطِ الواقعِ عليها من الخارج، وتمنعُ تقلُّصَها بسببِ فقدانِ الماء، وتُمَكّنها من الصمودِ في ظروفِ الجفافِ فترةً طويلة.
وسمَ الباحثون بعد ذلك البروتيناتِ بوسمٍ فلورسنتي وأدخلوها إلى خلايا بشريّةٍ، وفحصوا تأثيرها في ظروفِ الجفاف. اكتشفوا أنَّ بروتيناتِ الـ CAHS، عند تعرّضِ الخلايا التي تحويها لظروفِ الجفاف، ترتبطُ ببعضِها كما تفعلُ مُكوّناتُ الهيكلِ الخلويّ (Cytoskeleton)، وتُكوّنُ شبكةً متشابكةً من الخيوطِ تشبهُ كومةً من المعكرونة. تُكسِبُ شبكةُ الخيوطِ الخليّةَ خواصَّ ميكانيكيّةٍ شبيهةً بخواصِّ الهُلام، وتمنعُ انهيارَ الخليّةِ عند جفافِها. هذا السّلوكُ قابلٌ للانعكاس: تتفكّكُ شبكةُ البروتينات وتعودُ الخليّةُ إلى حالتِها الاعتياديّة، عندما يتحوّلُ الوسطُ ليصبحَ رطبًا من جديد.
قد تُسهِمُ الطّرقُ والأساليبُ التي استخدمَها الباحثون في تشخيصِ بروتيناتٍ أخرى، لها صلةٌ بالضّائقةِ التي قد تحلُّ بالحيواناتِ المختلفة؛ وقد تساعدُنا البروتيناتُ الأخرى التي قام الباحثون بعزلِها خلالَ الدِّراسةِ، في تفسيرِ قدرةِ دُببةِ الماءِ المُذهلةِ على البقاء على قيدِ الحياة.