طوّر باحثون منظومةً تُعرقل عمليّة إنتاج الزلاليّات (البروتينات) التالفة في الخليّة العصبيّة لدى الفئران، وذلك لمنع الأمراض الّتي تنجم عنها
هل سمعتم عن "جنون البقر"؟ ليس البقر بالمعنى الحقيقيّ، وإنّما مرض نادر سيّىء السمعة، ظهر في تسعينيّات القرن العشرين وأوائل القرن الحادي والعشرين. لم يقتصر فتك هذا المرض- مرض الدماغ الإسفنجيّ البقريّ- على البقر، إذ ماتت بسببه عشرات آلاف الأبقار في المملكة المتّحدة، بل أصاب بني البشر أيضًا: انتقلت العدوى إلى أشخاص تناولوا لحم بقر مصاب، فطوَّروا مرض كروتزفيلد جاكوب- مرض تنكُّسيّ في الدماغ، عُضال ومميت، يؤدّي إلى الوفاة خلال أشهر قليلة من الإصابة به.
ينجم كلٌّ من مرض "جنون البقر" ومرض كروتزفيلد جاكوب، وكلاهما مرض بريونيّ، عن وجود بروتينات تالفة في الدماغ. البريون (prion) هو عبارة عن بروتين تالف لم يتمّ طيّه بشكل صحيح، بمقدوره نقل هذه الخاصيّة لبروتينات مجاورة. قد تكون البريونات نشطةً أو خاملة، وقد يؤدّي النشِط منها إلى تحويل بروتينات سليمة إلى بريونات عند حدوث التلامس فيما بينها، وهكذا دواليك، في ردّ فعليّ تسلسليّ هدّام. ينتشر المرض في الدماغ بسرعة نتيجة تدمير خلاياه الناجم عن هذا الخلل في البروتينات. قد ينتقل المرض إلى الشخص الّذي يتناول لحم البقر المصاب، أو نتيجة استخدام أدوات ومُعدّات طبّيّة لم تُنظََّف كما يجب، علمًا بأنّ البريونات هي بروتينات متينة لا تنهدم في عمليّة الطبخ.
يُسمّى البروتين السليم الموجود لدى الإنسان في الدماغ بشكل خاصّ PrPc، وظيفته غير واضحة وبإمكانه تغيير شكله. وفي هذه الحالة يتكوّن بروتين تالف متين للغاية، بمقدوره تشخيص البروتين السليم وتغيير هيكله إلى الهيكل التالف، فينتشر المرض في الدماغ مخلّفًا ضررًا في بُنيته لا يمكن إصلاحه. يبدو الدماغ المُصاب لدى الإنسان أو الحيوان مليئًا بالثقوب والمسامات كالإسفنج، وذلك بسبب هدم خلاياه. طرحت دراسة حديثة علاجًا، أملًا في أن يكون قادرًا على منع انتشار المرض في الدماغ.
بروتين تالف مطويّ على الوجه غير الصحيح. بروتين بْريون قبل التغيّر في هيكله وبعده | Oscar Collica, Shutterstock
بدون كريسبر (التكرارات العنقوديّة المتناظرة القصيرة منتظمة التباعد)، ماذا بعد؟
كان قد تبيّن منذ ثلاثة عقود أنّ الفئران عديمة الجين (المورِثة) المشفِّر لإنتاج بروتين PrPc مقاوِمة لِمرض سكرابي (Scrapie = قعاص أو راعوش الغنم)- وهو مرض بْريونيّ آخر يصيب الأغنام بشكل خاصّ. يؤدّي تقليل كميّة PrPc في الخلايا العصبيّة، وفقًا للدراسات الّتي أجريت مؤخّرًا، إلى إبطاء انتشار البريونات بل وايقافها. قد يبدو، للوهلة الأولى، أنّه من الممكن تغيير هذا الجين باستخدام تكنولوجيا كريسبر لإعادة التحرير الجينيّ، إلّا أنّ ذلك قد يضرّ بنشاط الدماغ، حيث إنّ وظيفة البروتين المذكور غير واضحة بما فيه الكفاية. أضف إلى ذلك أنّ تكنولوجيا كريسبر قد تتسبّب في حدوث طفرات وراثيّة في أماكن أخرى غير مرغوبة. كما يصعب إدخال منظومة كريسبر إلى خلايا الدماغ بسبب الحاجز الدمويّ الدماغيّ.
دارت الدراسة الّتي أجراها كلّ من جوناثان وايسمان (Weissman) من معهد ماساتشوستس التكنولوجيّ (MIT) وسونيا ڨالاب (Vallabh) من معهد برود المجاور، والّتي نشرت في مجلة Science، حول محاولة "إطفاء" نشاط الجين المُشكِل. يتمّ، بهذه الطريقة، إدخال بروتين إلى DNA الجين المرغوب، بحيث يؤثّر في نشاطه لكنّه لا يؤدّي إلى حدوث الطفرات- أي إنّه لا يغيّر المعلومات المخزَّنة فيه. يمكن لمثل هذه التغييرات أن تُنشّطَ جينات أو أن توقِف نشاطها، لفترات طويلة أو حتّى من جيل لآخر.
أصابع من الخارصين (الزنك)
طوّر الباحثون جهازًا أو منظومة أرادوا إدخاله إلى خلايا الدماغ بالاستعانة بالڨيروس المُسمَّى AAV، والّذي يتكاثر فقط داخل الخلايا المصابة مسبقًا بڨيروس آخر، ويُستخدم في تطوير العلاجات الجينيّة. يستطيع هذا الڨيروس اقتحام الحاجز الدمويّ الدماغيّ إلّا إنّه ڨيروس صغير بمقدوره حمل معلومات وراثيّة محدودة. فتّش الباحثون عن بديل لمنظومة الكريسبر الّتي هي أكبر من أن تُحْمَل على ڨيروس AAV. اختار الباحثون استخدام منظومة تعتمد على بروتينات أصابع الزنك (zinc finger proteins)– وهي هياكل بروتينيّة تحوي ذرّات الزنك، بمقدورها تشخيص تسلسلات معيّنة في الحمض النوويّ (DNA) والارتباط بها. الجين الّذي يحوي معلومات إنتاج أصابع الزنك صغير بما يكفي لملاءمته لمنظومة الـ AAV.
تمّ ربط مقطع قصير من بروتين الهستون H3 بأصابع الزنك. تُزوّد التغيّرات الكيميائيّة الّتي تحدث في الهستونات- وهي البروتينات الّتي تُستخدم لرزم الـ DNA داخل نواة الخليّة- بالمعلومات المتعلّقة بتفعيل الجينات أو إيقاف نشاطها. يفعّل مقطع الهستون H3، في هذه الحالة، الإنزيم (المحفّز الحيويّ) DNA مثيل- ترانسفيراز 3A (باختصار DNMT3A)، وهو أحد إنزيمات الخليّة الّتي تُحدث تغييرًا كيميائيًّا في الـ DNA فتعطّل عمل الجينات. دُرست في البداية إمكانيّة إضافة الإنزيم DNMT3A بحدّ ذاته إلى المنظومة، إلّا أنّه تبيّن أنّ زيادة كميّته عن الكميّة الطبيعيّة الموجودة في الخلايا سلفًا، تؤدي إلى موت الخلايا.
استخدم الباحثون الإنزيم المُسمَّى DNMT3L كبديل لِـلإنزيم DNMT3A، وهو، أي DNMT3L، يقوم بنشاطه سويّةً مع الإنزيم DNMT3A ولا يؤدّي إلى تسمّم الخلايا. جنّدت هذه المنظومة، والّتي دمجت بين أصابع الزنك وبين هستون H3 و DNMT3L، الإنزيم DNMT3A لِصالح إيقاف نشاط الجين المشفِّر لإنتاج البريون. انخفض مستوى البريون في خلايا المزرعة الخلويّة، وفي خلايا دماغ الفئران أيضًا، بعد بضعة أيّام، إلى حوالي عشرين بالمئة من مستواه الأصليّ، وبقي المستوى منخفضًا بعد ستّة أسابيع أيضًا.
يَتكاثر فقط داخل الخلايا المصابة سلفًا بڨيروس آخر، ويستخدمه الكثير من الباحثين في تطوير العلاجات الجينيّة. الڨيروس AAV (عن اليمين) والڨيروس الغدّيّ (الغذائيّ، Adenoviruses) بجانبه.
منظومة تقاوِم ذاتها
إحدى المشاكل المنوطة باستخدام الڨيروس AAV هي أنّه يمكث في خلايا الدماغ، ويواصل إنتاج البروتين المطلوب بعد إنجاز تأثيره العلاجيّ أيضًا. قد تؤدّي مثل هذه الكميّة الفائضة من البروتين إلى تغييرات جينيّة أو فوق جينيّة أخرى، كما وتؤدّي إلى تفعيل جهاز المناعة، غير المرغوب، ضدّ الخلايا المصابة بالڨيروس. أضاف الباحثون للمنظومة، لتخطّي هذه المشكلة، إصبع زنك آخر، يُشخّص جينها الذاتيّ في الڨيروس AAV. يؤدّي ذلك إلى تكوّن منظومة من التغذية الاسترجاعيّة: تعمل المنظومة على تعطيل الجين الخاصّ بها عندما يرتفع مستوى بروتين أصابع الزنك. خطّط الباحثون المنظومة بحيث تقوم بتعطيل نشاط جين البريون أوّلًا، ثمّ تعطّل نشاط جينها الخاصّ. أدّت هذه المنظومة، والّتي تشمل التغذية الاسترجاعيّة، هي الأخرى دورها جيّدًا داخل خلايا دماغ الفئران .
من المتوقّع أن يكون انخفاض مستوى البريونات إلى عشرين بالمئة من مستواه في بداية التجربة كافيًا لوقف انتشار المرض، ذلك وفق دراسات سابقة أشار إليها الباحثون. لم يختبر الباحثون، مع ذلك، نجاعة المنظومة على فئران مصابة بمرض البريونات. لم يختبر الباحثون أيضًا النشاط الفعليّ للدماغ ولا سلوك الفئران، على الرغم من الادّعاء بأنّ مستوى البريونات المنخفض لا يضرّ بنشاط الدماغ. يقول الباحثون إنّه لم تُشاهَد ظواهر جانبيّة حتّى ستّة أسابيع بعد العلاج، إلّا أنّه لم يتمّ اختبار تأثير العلاج على المدى البعيد. توفّر هذه الدراسة، على الرغم من عيوبها ومحدوديّتها، خطوة أوّليّة نحو آمال بتطوير علاج ناجع للأمراض البريونيّة الّتي تُعتبر اليوم أمراضًا لا علاج لها.