طُوِّر، ضمن دراسة حديثة، "قارض افتراضيّ" يتمّ التحكّم به من خلال شبكة من الخلايا العصبيّة، ويُبدي أنماطًا من النشاط تشبه تلك الموجودة لدى القوارض الحقيقيّة

كيف يتحكّم الدماغ بحركات الجسم؟ لم تَفكّ علوم الدماغ هذا اللغز بشكل كامل، حتّى بعد سنوات كثيرة من الأبحاث والدراسات. طوّرَ باحثون من جامعة هارفارد، بمشاركة باحثين من فريق DeepMind التابع لجوجل، ضمن دراسة جديدة، قارضًا افتراضيًّا يُحاكي السلوك الطبيعيّ للقوارض الحيَّة. يأمل الباحثون أن يُسفِر فهم نشاط الدماغ الافتراضيّ المنفرِد، الذي يتحكّم بِالقارض الافتراضيّ، عن مفاهيم ورُؤى جديدة حول فعاليّة الدماغ البشريّ أثناء الحركة.  

الدماغ الافتراضيّ في الجسد الافتراضيّ

صوّرَ الباحثون، في المرحلة الأولى من الدراسة، الحركة الحرّة لجرذان حقيقيّة بستّ كاميرات في آن واحد. استخدم الباحثون هذه الصور لتخطيط "القارض الافتراضيّ"، آملين أن تتشابه حركاته مع حركات الجرذان الحقيقيّة. بُنيَ القارض الافتراضيّ في "مُحاكٍ فيزيائيٍّ" يُحاكي القوانين الفيزيائيّة في العالم الحقيقيّ، مثل قوّة الجاذبيّة والاحتكاك التي تؤثّر على الحيوانات الحقيقيّة خلال نشاطاتها اليوميّة. وضع الباحثون في المحاكاة تحدّيات متنوّعة أمام الجرذ، مثل القفز من على فجوات في الأرضيّة، والتنقّل في بيئة جبليّة والتقاط الأهداف، كما هو الحال في ألعاب الكمبيوتر.

طوّر الباحثون، في المرحلة الثانية، "دماغًا صناعيًّا" يتحكّم بالجرذ الافتراضيّ، ويضبط توقيت وكيفيّة حركته. بُني هذا الدماغ من "شبكة من الخلايا العصبيّة" الصناعيّة، وهو نوع من النماذج الرياضيّة لبناء برامج الكمبيوتر، شائع في تكنولوجيا الذكاء الاصطناعيّ. بُنيَت هذه الشبكات بإيحاء من الاتّصال القائم بين الخلايا العصبيّة الحقيقيّة في الدماغ، مع أنّه من الواضح الآن أنّها بُنيَت بشكل مُبَسَّط للغاية. أرادت الدراسة الآنيّة أن تفحص إمكانيّة تحكّم شبكة الخلايا بالجرذ الافتراضيّ، وتحريكه كما يتحرّك الجرذ الحقيقيّ. يأمل الباحثون، فيما إذا تحقّق هذا الهدف، فهم كيفيّة نجاح شبكة الخلايا العصبيّة في مثل هذه المهمّة المعقّدة، وفيما إذا كان من الممكن استنتاج شيء ما عن الطريقة التي يتحكّم فيها الدماغ البشريّ بحركاتنا وسلوكنا. 


طوّر الباحثون "دماغًا" صناعيًّا" يتحكّم بالجرذ الافتراضيّ ويضبط حركته، متى وكيف؟. شبكة من الخلايا العصبيّة | nobeastsofierce, Shutterstock

التحكّم بالحركة

يصعب علينا إدراك مدى تطوّر آلية التحكّم بالحركة وتعقيدها لدينا بنو البشر، ومدى التعقيد المنوط بالقيام حتّى بالحركات البسيطة. يقتصر تفكيرنا الواعي، عندما نريد مدّ يدنا لتناول كأس من الماء، على الهدف النهائيّ للحركة. يتوجّب على الدماغ، في هذه الحالة، القيام بعدّة عمليّات "من وراء الكواليس": حساب بعد الكأس عن اليد، حساب أقصر طريق للوصول إلى الكأس، تقدير ثقلها والاستعداد لمواجهة العقبات أو التغيّرات الفجائيّة التي قد تصادفنا. يحدث كلّ ذلك بسرعة البرق، ونكاد لا نعي حدوثه. كيف يمكن إذًا ترويض الدماغ الاصطناعيّ، ليحرّك حيوانًا افتراضيًّا بصورة طبيعيّة وبمرونة تشبه تلك التي تتمتّع بها الحيوانات الحقيقيّة؟ 

غذّى الباحثون شبكة الخلايا العصبيّة بفعاليات متنوّعة، كانت قد شوهدت لدى الجرذان في المختبر، ووجّهوا الدماغ الافتراضيّ نحو تقليد الحركات المرافقة لهذه الفعاليّات. يُسمّى هذا الأسلوب بـِ "التعلّم التعزيزيّ" (Reinforcement Learning)، ويعتمد على فكرة منح المنظومة مزيدًا من "التعزيزات"، مع تزايد الشبه بين حركة الجرذ الافتراضيّ حركة الجرذ الحقيقيّ - تعطي هذه التعزيزات إشارة للمنظومة بأنّها في الاتّجاه الصحيح. يكون الدماغ الافتراضيّ قد تعلّم، في نهاية هذه المرحلة، ما هي الأوامر التي يتوجّب عليه إصدارها للجرذ الافتراضيّ، كي يقوم بتنفيذ عمليات معينة - مثل السير، الجري، الجلوس ومدّ الذراع. 

استطاعت شبكة الخلايا العصبيّة تكوين سلوكيّات جديدة لم تكن قد تعرّضت إليها في المرحلة الأولى، وكان ذلك أحد الإنجازات الأكثر إثارةً في الدراسة. يشير هذا الإنجاز إلى قدرات المرونة والتعميم، التي طوّرتها شبكة الخلايا العصبيّة، وهي قدرات هامّة جدًّا للحيوانات الحقيقيّة، تُمَكِّنها من مجابهة التحدّيات - تحدّيات جديدة لم تصادفها من قبل.  


غذّى الباحثون شبكة الخلايا العصبيّة بفعاليّات متنوّعة كانت قد شوهدت لدى الجرذان في المختبر، ووجّهوا الدماغ الافتراضيّ نحو تقليد الحركات المرافقة لهذه الفعاليّات. جرذ آليّ من إنتاج الذكاء الاصطناعيّ | ڠاليا ساديه بواسطة DALL-E

نافذة نحو الدماغ

قارن الباحثون في المرحلة الأخيرة من دراستهم بين نشاط شبكة الخلايا العصبيّة ونشاط دماغ الجرذان الحقيقيّة. أراد الباحثون زيادة فهمهم لكيفيّة تحكّم الدماغ بحركات الجسم بسلاسة ومرونة. أقحمَ الباحثون منظومة من الالكترودات في أدمغة الجرذان الحقيقيّة (التي وُثِّقت في المرحلة الأولى)، وسجّلوا نشاط الخلايا العصبيّة الكهربائي خلال الحركة. سُجّل النشاط الدماغيّ من منطقة الستر ياتوم لدى ثلاثة جرذان، ومن منطقة قشرة الدماغ الحركيّة لدى ثلاثة جرذان أخرى. تشارك هاتان المنطقتان في تخطيط الحركات وتنفيذها. تُحرِّك القشرة الحركيّة العضلات من خلال خلايا عصبيّة حركيّة في الحبل الشوكيّ (العمود الفقريّ)، والتي تنقل الأمر للعضلات. تأثير الستر ياتوم على حركات الجسم هو أكثر تعقيدًا. يدمج مبناه أنواعًا شتّى من المعلومات، بما فيها خطط الحركة ومعلومات حسّيّة من قشرة الدماغ، ومعلومات عن مكافآت محتملة في المحيط من نظام المكافآت. تضبط هذه جميعها الأوامر التي يرسلها الدماغ إلى العضلات، وتوجّهها نحو الحصول على المكافأة.

تبيّن، عندما أجريت مقارنة بين النشاط الدماغيّ الذي سُجِّلَ لدى الجرذان الحيّة (الحقيقيّة) ونشاط شبكة الخلايا العصبيّة الصناعيّة، أنّها متشابهة: شوهد تمثيل، في كلتا الحالتين، للفعاليّة اللازمة لإيصال الجرذ الى الحالة المرغوبة، مع أخذ حالتها الآنيّة بالحسبان. شهِد هذا التشابه، وفقًا لتفسير الباحثين، على أنّ شبكة الخلايا العصبيّة وجدت مبادئ حسابيّة مشابهة لتلك التي تمتّع بها الدماغ الحقيقيّ. 

قد تكون هذه الدراسة قد سجّلت خطوة إلى الأمام في مجالات الذكاء الاصطناعيّ والروبوتات، نحو روبوتات تتمتّع بالقدرة على الحركة المعقّدة، وعلى ما يكفي من المرونة للتغلّب على تحدّيات جديدة لم تصادفها من قبل. يأمل الباحثون أن يوفّر هذا النوع من الأبحاث والدراسات أيضًا رؤى وأفكارًا جديدة تتعلّق بتحكّم الدماغ بحركاتنا.

0 تعليقات