ما هي العواملُ التي تُؤثِّرُ في وتيرةِ انزلاقِ المَجلداتِ التي تُؤدّي إلى ارتفاعِ مستوى مياهِ المحيطات؟ حلّلتْ دراسةٌ جديدةٌ هذه العوامل.

تنهارُ المَجْلَدات (الأنهارُ الجليديّة) وتسقطُ في البحر. ما هي وتيرةُ سقوطِها؟ حاولت مجموعةٌ من الباحثين، برئاسةِ ناثان ماير (Maier) من جامعةِ جينوفيل في فرنسا، الإجابةَ عن هذا السؤالِ من خلالِ دراسةٍ جديدة. نُشِرت الدِّراسةُ في مجلةِ Nature العلميّة. 

تُذهلُنا وَتُخيفُنا صورُ الجروفِ الجليديّةِ تنهارُ في بحرِ الشّمالِ في السّنينِ الأخيرة. ربما يتذكّرُ البعضُ منّا الأمواجَ المائيّةَ الضّخمةَ التي اندفعت نحوَ البحرِ من مَجْلَداتِ جرينلاند سنة 2019، في أعقابِ انصهارِها بوتيرةٍ هي أعلى ما قيسَ منذُ عشراتِ السّنين. سبقَ هذا الانصهار، حسب قولِ الباحثين، توقّعاتِ الخبراءِ بعشراتِ السّنين. 

لمُعطياتِ ارتفاعِ مستوى مياهِ البحرِ أهميّةٌ كبيرةٌ جدًّا، وذلك للاستعدادِ لحمايةِ المواقعِ السّكنيّةِ أو إخلائِها ولحمايةِ الطّبيعة. يواظبُ العلماءُ على تطويرِ نماذجَ من شأنها تنبُّؤ وقوعِ هذه الظّاهرةِ بدِقّةٍ متناهية. انصهارُ المَجلَداتِ بسبب احترارِ الكرةِ الأرضيّةِ هو أحدُ الأسبابِ الرئيسةِ لارتفاعِ مُستوى البحار. ثمانيةٌ بالمائةِ من مُجمَلِ المَجلَداتِ في العالمِ موجودةٌ في جزيرةِ جرينلاند المُتجمِّدةِ معظمها. تتحوّلُ المَجلداتُ إلى ماءٍ سائلٍ ليس بسببِ انصهارِ الجليدِ فحسب وإنّما، وبشكلٍ رئيسي، بسببِ انهيارِها نحوَ أماكنَ أكثرَ انخفاضًا وسخونةً، في البحرِ أو على اليابسة. تنهارُ المَجلداتُ نتيجةَ انزلاقِها إلى البحرِ أو نحوَ منحدراتٍ أرضيّة. يجبُ فهمُ العواملِ التي تُؤثّرُ في سُرعةِ انزلاقِ المَجلَدات للتنبُّؤِ بمثلِ هذه الحوادث. حاولَ ناتان ماير ومجموعتُه الإجابةَ عن هذا السُّؤال.

מפת קרחוני גרינלנד  | מקור: NASA
ثمانيةٌ بالمائةِ من مُجمل المَجلَداتِ في العالمِ موجودةٌ في غرينلاند. خريطة مَجلَدات جرينلاند | المصدر: NASA

انزلاقُ المَجلداتِ على الماء

جمعَ ماير ومجموعتُه مُعطياتٍ عن سبعِ مناطقَ على طولِ شاطئ جرينلاند الغربيّ، والتي تمتدُّ لأكثر من ألفيْ كيلومترًا من الشّمالِ إلى الجنوبِ بخطٍّ جوّيّ. قاسَ الباحثون التّضاريسَ الطّوبوغرافيّةَ لهذه المناطق، خاصّةً ارتفاعَ المَجلَدات، وكذلك سرعةَ انزلاقِ سطحِ الجَليدةِ، على مدى عشرين عامًا. قياسُ سرعةِ انزلاقِ الجزءِ العلويّ من الجليدةِ سهلٌ نسبيًّا، لكنْ من الصعبِ قياسُ سرعةِ انزلاقِ قاعدةِ الجليدةِ، ومقدارِ احتكاكِها مع الصّخورِ التي تحتَها. حسبَ الباحثون هذه المُعطيات، نظرًا لأهميتها في فهم حركةِ الجَليدة، باستخدام نموذجٍ مُحوسبٍ مناسب. ركّزَ الباحثون، من بينِ العواملِ التي قد تُؤثِّرُ في الاحتكاكِ بين الجليدةِ والأرضيّةِ الصخريّةِ تحتها، على مياهِ الذّوبانِ. يتكوّنُ ماءٌ سائلٌ على الجليدةِ عندما ينصهرُ قسمٌ من الجليدِ الموجودِ على سطحِها الخارجيّ. تُسمّى هذه المياه مياه الذّوبان التي قد تتسرّبُ وتصلُ إلى قاعدةِ المَجلداتِ التي يبلغُ متوسّطُ سُمكِها 1500 مترًا، وتُقَلّلُ من احتكاكِها مع الأساسِ الصّخريّ. قارنَ الباحثون بينَ المَجلداتِ التي يحدثُ فيها انصهارٌ صيفيّ والمَجلدات الموجودةِ في المناطقَ الأعلى ولا يحدثُ فيها انصهارٌ صيفيّ، وذلك لفهمِ مدى تأثيرِ مياهِ الذّوبانِ في سرعةِ انزلاقِ المجلدات.

קרחון סטור בגרינלנד | מקור: Poul Christoffersen
ينصهرُ جزءٌ من الجليدِ الموجودِ على السّطحِ الخارجيّ للجليدةِ ويتحوّلُ إلى ماءٍ سائل، مياه الذّوبان التي تتغلغلُ إلى الأسفل. جليدةٌ في جرينلاند | المصدر: Poul Christoffersen

ليست كمّيةُ الماء فحسب، بل الصَّرفُ أيضًا

إنّ من أبرزِ نتائجِ الدّراسةِ اكتشافُ "مُنحدرِ" احتكاكٍ على امتدادِ محورِ الشمال - جَنوب: يزدادُ احتكاكُ الجليدةِ مع الأرضِ كلّما اتّجهنا شمالًا وتتباطأ حركتُها. اقترحَ الباحثون فرضيّةً مثيرةً للاهتمامِ تقضي بأنّ نجاعةَ صرفِ الماءِ من الجزءِ السُّفليّ للجليدةِ تُحدَّدُ مقدارَ الاحتكاكِ، وليسَ فقط كمّيةَ الماءِ االمُتسرِّب. وافترضَ الباحثون أيضًا وجودَ نقطةٍ مُعيّنةٍ (نقطةِ العتبة) من ماءِ الذّوبان يتحسّنُ الصّرفُ، من بعدِها ويَبطُؤُ انزلاقُ الجليدة. إذا كانت الحالةُ كذلك، فمن المحتملِ أنَّ ما يشبهُ التغذيةَ الرجعيّة السلبيّةَ تعمل هنا: يؤدّي الاحترارُ إلى انصهارِ سطحِ الجليدةِ الخارجيّ؛ تتغلغلُ مياهُ الذوبانِ إلى قاعدةِ الجليدة؛ يتحسّنُ صرفُ الماءِ من تحتِ الجليدة عندما تصل كميّته حدًّا معيّنًا فتبطُؤُ حركةُ الجليدةِ نحوَ المناطقِ الأكثر انخفاضًا والأكثر حرارة؛ ويقلُّ بذلك فقدانُ الكتلةِ الجليديّة. 

لكنّ كمّيةَ مياهِ الذّوبان ليست هي العاملُ الوحيدِ الذي يُحدِّدُ نجاعةَ صرفِ الماءِ من تحتِ الجليدة. شكلُ الجليدةِ وسرعةُ انزلاقِه هي من العواملِ الأخرى التي تُؤثِّرُ في ذلك. سرعةُ انزلاقِ مَجلداتِ شمالِ جرينلاند المجاورةِ لخطِّ الماء، أعلى من سرعةِ انزلاقِ مَجلَداتِ الجنوب كما أنّها أكثرَ انحدارًا. تُسهمُ هذه الميزات، برأي الباحثين، في تحسينِ نجاعةِ صرفِ الماءِ من تحتِ المجلداتِ، وتؤدّي بذلك إلى إبطاءِ الانزلاق. لا تقعُ، مقابل ذلك، مجلداتُ الجنوبِ بجانبِ البحر وهي أكثر انبساطًا وأبطأ. يؤدّي ذلك إلى تجمُّعِ مياهِ الذّوبان تحتَ الجليدةِ وإلى زيادةِ سرعةِ انزلاقها. قد يؤدّي احترارُ الكرةِ الأرضيّةِ، وفقًا لهذا المنطق، إلى تراجعِ المَجلداتِ عن خطِّ الماءِ وإلى تعجيلِ انزلاقِها.

מי הפשרה זורמים מן הקרחון לים | מקור: Ashley Cooper, Science Photo Library
تقعُ المَجلَداتُ التي في شمالِ جريناند بجوارِ خطِّ الماء، وهي أكثرُ انحدارًا وسرعةُ انزلاقِها أعلى ممّا في الجنوب. تجري مياهُ الذّوبان من الجليدةِ إلى البحر | المصدر: Ashley Cooper, Science Photo Library

ما الذي نتعلّمُه عن القارّةِ القطبيّةِ الجنوبيّةِ (أنتاركتيكا) ممّا عرفناه عن جرينلاند؟

كتبَ الباحثُ ستيفن جي ليفينجستون (Livingstone) مقالةًَ نُشِرت في نفسِ العددِ من المجلّةِ ذاتِها في قسمِ "أخبار واراء" أكّدَ فيها مُعلِّقًا على الدّراسةَ التي أجراها ماير أنّها دراسةٌ رياديّةٌ بعيدةُ المدى. هذه هي المرّةُ الأولى التي تُقدِّمُ فيها دراسةٌ ما دلائلَ حقيقيّةً، لتأثيرِ مياهِ الذّوبانِ في حركةِ المجلدات. 

اعتبرَ ليفينجستون، معَ ذلك، دراسةَ ماير ومجموعته خطوةً أولى تستدعي دراساتٍ أخرى تتعرّضُ بشكلِ رئيس للعواملِ التي تتيحُ صرفَ مياهِ الذّوبانِ، من المنطقةِ ما بين الجليدةِ والأساسِ الصّخريّ. وتساءلَ ليفينجستون فيما إذا كانت هذه الدّراسةُ التي أجريت في جرينلاند مناسبةً لمناطقَ أخرى في العالم. يعتقدُ ليفينجستون مثلًا أن لا تأثيرَ لِمياهِ الذّوبانِ في حركةِ مَجلَداتِ القطبِ المتجمّدِ الجنوبي (أنتاركتيكا)، الذي يحوي تسعين بالمائةِ من مَجلداتِ العالم. مع ذلك، قد يُؤدّي احترارُ الكرةِ الأرضيّةِ إلى تطوّرِ ديناميكيّةٍ مُشابهةٍ لمَجلَدات جرينلاند في أنتاركتيكا.

لا شكَّ في أنّ ما قامَ به ماير وزملاؤه يُسهِمُ في تحسينِ نماذجَ ديناميكيّاتِ المَجلَدات، ويتيحُ تنبُّؤ ارتفاعِ مستوى سطحِ الماء بدقّةٍ أكبر. بقيَ أن نأملَ أن يستغلَّ صُنّاعُ القرارِ في أنحاءِ العالمِ المعلوماتِ المتوفّرةَ الجديدةَ ذاتِ الدّقةِ الأعلى، وذلك للاستعدادِ بشكلٍ أفضلَ لارتفاعِ مستوى سطحِ البحرِ، والأهمُّ من ذلك، العملُ بأقصى سرعةٍ على التخفيفِ من احترارِ الكرةِ الأرضيّة. 

 

0 تعليقات