دراسة تكشف تأثير المجال المغناطيسيّ للأرض في مهارات الملاحة لدى النمل

كشفت دراسة حديثة أنّ المعلومات المستمدّة من المجال المغناطيسيّ للأرض تؤثّر بشكل كبير في اكتساب مهارات الملاحة لدى أنواع مختلفة من النمل. كما أظهرت الدراسة أنّ هذا المجال يلعب دورًا مهمًّا في تطوّر مناطق الدماغ المسؤولة عن الذاكرة والتعلّم لدى النملة

تعتمد العديد من الكائنات الحيّة، مثل السلاحف والطيور والنحل وبعض أنواع الفراشات، على المجال المغناطيسيّ للأرض كأداة أساسيّة في التنقّل. يعمل هذا المجال كنوع من البوصلة الطبيعيّة، حيث يوجّه هذه الكائنات في تحرّكاتها ويساعدها على تحديد الاتّجاهات. وبالنسبة للنمل، يُعدّ المجال المغناطيسيّ عنصرًا جوهريًّا في عمليّة التنقّل. وفقًا للدراسة، فإنّ هذا المجال ليس مجرّد إشارة إضافيّة تسهم في التنقّل عند نضج النمل، بل هو عنصر أساسيّ في قدرته على معايرة نظامه الملاحيّ خلال فترة التدريب، كما يلعب دورًا رئيسًا في تطوير المناطق الدماغيّة المسؤولة عن التعلّم والذاكرة.

على غرار أبناء جيل الألفيّة، يميل النمل إلى تغيير مهامّه ولا يبقى في نفس الوظيفة طوال حياته. ففي مراحل النموّ الأولى، تتخصّص العاملات في المهامّ المنزليّة، مثل رعاية قرية النمل وصيانتها. وعندما تنضج، تنتقل إلى مهامّ أخرى، حيث تنتقل  بعض الأنواع إلى جمع الطعام. هذه الوظيفة الجديدة تتطلّب منها مغادرة القرية، والابتعاد عنها، ثمّ العودة إليها محمّلةً بالغذاء.

أثناء التدريب على هذا الدور الجديد، يقوم النمل بما يُعرف بـ "جولات التعلّم" (learning walks). خلال هذه الجولات، يطوف النمل حول قريته في دوائر، ويتوقّف من حين لآخر ليدور حول نفسه في حركة تشبه حركة راقصات الباليه المعروفة باسم "البيرويت" (pirouette)، ناظرًا إلى مدخل القرية. تساعد هذه الحركة النمل على تعلّم استخدام المعلومات الحسّيّة، مثل الضوء المستقطب، لتحديد موقعه في الفضاء ومعرفة مكانه بالنسبة لمكان القرية. والضوء المستقطب هو الضوء الّذي يمرّ عبر الغلاف الجويّ للأرض ويكتسب اتّجاهًا محدّدًا. يتغيّر هذا الاتّجاه مع حركة الأرض على مدار اليوم، ما يساعد النمل على تحديد موقع الشمس ومعرفة مكانه بالنسبة لمكان قريته.

للتنقّل بدقّة والوصول إلى المواقع الصحيحة، يلجأ النمل إلى معالجة وضبط المعلومات المتغيّرة القادمة من "خريطة السماء" باستخدام مرجع ثابت. من بين هذه المراجع، يمكن أن تستخدم النملات الصورة البانوراميّة، أو تعقّب الروائح المنبعثة من جهة معيّنة، أو حتّى المجال المغناطيسيّ للأرض. في سنة 2018، أشار فريق باحثين من ألمانيا إلى أنّ النمل المعروف باسم "Cataglyphis nodus" يستخدم المجال المغناطيسيّ للأرض لمعايرة بوصلة داخليّة لديه، تمامًا كما تفعل الطيور والسلاحف وبعض أنواع الفراشات والعثّ والنحل.

عندما عاد الفريق إلى دراسة قرى ومستعمرات النمل في الحديقة الوطنيّة سخينياس (Schinias) في جنوب اليونان، وجدوا في دراسة جديدة أنّ المجال المغناطيسيّ ليس مجرّد إشارة إضافيّة تساعد النمل البالغ على التنقّل، بل إنّه عنصر أساسيّ في قدرته على ضبط نظام الملاحة الخاصّ به خلال فترة التدريب، كما أنّه عامل رئيس في تشكيل مناطق الدماغ المسؤولة عن التعلّم والذاكرة.


استشعار المجال المغناطيسيّ يسمح للنمل بتحديد موقعه، مثل البوصلة، وفكّ شفرة المعلومات الواردة من الحواسّ الأخرى. تنتج الأرض مجالًا مغناطيسيًّا ثابتًا يقع أحد طرفيه في القطب الشماليّ والآخر في القطب الجنوبيّ | المصدر: Designua, Shutterstock

نملة ممغنطة

ركّز الباحثون على النمل الصغير الّذي لم يشارك في جولات التعلّم بعد. طوّروا جهازًا لتعطيل المجال المغناطيسيّ، ووضعوه فوق قرى النمل لخلق اضطرابات مختلفة. تمّ تعطيل المجال المغناطيسيّ أثناء جولات التعلّم في بعض القرى، بينما تمّ تحريك المجال المغناطيسيّ أثناء النهار بناءً على موقع الشمس في قرى ومستعمرات أخرى. وفي مجموعة ثالثة من قرى النمل، تمّ إضعاف الإشارات المغناطيسيّة. وللمقارنة، تمّ توثيق سلوك النمل الصغير الّذي تعرّض لمجال مغناطيسيّ سليم وثابت يشير إلى الشمال طوال اليوم.

عندما عطّل الباحثون إشارات المجال المغناطيسيّ خلال النهار، بدأ النمل يتصرّف بشكل غريب. لم يستطع الحفاظ على الحركات الدائريّة المعتادة في جولات التعلّم، وعندما توقّف لتنفيذ حركة "البيرويت"، لم يصوِّب نظره نحو مدخل القرية، بل إلى اتّجاهات عشوائيّة. على الرغم من أنّ الباحثين لم يتحقّقوا ممّا إذا كان هذا النمل قد فقدَ قدرته على الملاحة، رغم أنّ مثل هذا الفحص كان مطلوبًا، إلّا أنّهم درسوا كيف وأين تغيّر دماغ النمل المرتبك استجابة للتشويش على المجال المغناطيسيّ كلّ ساعة.


قام فريق البحث بتشويش المجال المغناطيسيّ في محيط قرية النمل وأثر في اكتساب مهارات الملاحة لدى النمل الصغير. جهاز ملفات هيلمهولتز المستخدم في التجربة | المصدر:  Robin Grob

المجال المغناطيسيّ وتطوّر الذاكرة والتعلّم

أظهرت الأبحاث السابقة أنّ جولات التعلّم تؤدّي إلى تغييرات كبيرة في بنية الخلايا العصبيّة والروابط بينها في منطقتين مركزيّتين في الدماغ، وهما مسؤولتان عن معالجة المعلومات البصريّة والتموضع في الفضاء. ولكنّ الدراسات لم تفحص من قبل كيفيّة تأثير المجال المغناطيسيّ في هذه التغييرات. وبعد مقارنة أدمغة النمل من المجموعات المختلفة، وجد الباحثون أنّ النمل الّذي تعرّض لتشويش في المجال المغناطيسيّ فقدَ قدرته على تحديد المرجع الثابت، ما أثّر في  قدرته على تحديد اتّجاه قريته.

نتيجة لهذا التشويش وأثره في عمليّة التعلّم، حدث انخفاض ملحوظ في حجم "الأجسام الفطريّة" (mushroom bodies)، وهي مبانٍ دماغيّة ترتبط بتكوين الذاكرة والتعلّم، وكذلك في "المجمع المركزيّ" (central complex)، وهي منطقة في الدماغ تقع أسفل الأجسام الفطريّة وتُعنى بمعالجة المعلومات البصريّة والملاحة، سواءً اعتمادًا على أشعّة الشمس مثلما يحدث لدى الفراشات الملكيّة، أو اعتمادًا على ضوء القمر كما لدى خنفساء الروث.

تُعرف الأجسام الفطريّة بهذا الاسم بسبب شكلها الّذي يشبه الفطر، وهي موجودة في أنسجة دماغ جميع مفصليّات الأرجل باستثناء القشريّات. عادةً ما ترتبط هذه الهياكل بوظائف التعلّم وتخزين الذكريات، خاصّة الذكريات المتعلّقة بالروائح. وقد أظهرت دراسات إضافيّة أنّ الأجسام الفطريّة قد تلعب دورًا في تكوين ذكريات متكاملة تعتمد على عدّة حواسّ ومصادر للمعلومات، وكذلك في إنشاء ذكريات مرتبطة بالاستدلال المكانيّ.

كما لوحظ انخفاض في حجم المجمع المركزيّ، وهو منطقة حسّاسة لاستشعار المجال المغناطيسيّ. وعندما تفشل النملة في استخدام هذا المجمع لمعايرة الاتّجاهات خلال فترة التعلّم، فإنّ أبعاده تصبح أصغر من المعتاد وتقلّ الروابط العصبيّة بين خلاياه.


يؤدّي الضرر في المجال المغناطيسيّ إلى خلل في تطوّر مناطق دماغ النملة المشاركة في الذاكرة والتعلّم والملاحة. تصوّر ثلاثيّ الأبعاد لدماغ نملة Cataglyphis nodus. الأجسام الفطريّة باللون الأحمر، المجمع المركزيّ باللون الأخضر، وباقي الدماغ باللون الأبيض | المصدر:  Instectbraindb

الملاحة بكلّ ما هو متاح

على الرغم من تأثير المجال المغناطيسيّ المشوّش في دماغ النمل الصغير، إلّا أنّ الدراسة أظهرت أنّ تعلّم النمل مرن بشكل لافت. فعلى سبيل المثال، عندما ألغى الباحثون المجال المغناطيسيّ أو أضعفوا قوّته، استمرّ النمل في التصرّف بشكل طبيعيّ، ولم تظهر أيّ اضطرابات في سلوكه، وكانت أدمغته مشابهة تمامًا لأدمغة النمل في المجموعة الّتي خضعت لتعلّم طبيعيّ دون تدخّلات.

تشير هذه القدرة على تعلّم الملاحة حتّى بدون الاعتماد على المجال المغناطيسيّ إلى أنّ النمل يعتمد على وسائل أخرى لمعايرة المعلومات المستمدّة من الضوء المستقطب، مثل الصورة البانوراميّة، كما يفعل النحل، أو باستخدام حاسّة الشمّ، الرياح، أو الاهتزازات. ولكن، فقط عندما يكون المجال المغناطيسيّ موجودًا ولكن مشوّشًا، تتعطّل عمليّة التعلّم وتتأثّر بنية دماغ النمل بشكل ملحوظ.

0 تعليقات