أتاح أسلوب معالجة البيانات الّذي كان قد طُوِّرَ أصلًا للفحوصات الطِّبّيّة، مثل: الموجات فوق الصّوتيّة (أولتراساوند)، إنشاء صورة مفصّلة للتّشكيلة تحت الأرضيّة لجبل بركانيّ في البحر الكاريبيّ.
تُستخدم تكنولوجيا التّصوير على أنواعه كثيرًا في الطّبّ. تُوفِّر هذه الوسائل، مثل: تصوير الرّونتجن، عمليّات المسح بالموجات فوق الصّوتيّة (الالتراساوند)، التّصوير المقطعيّ المحوسب (CT)، والتّصوير بالرّنين المغناطيسيّ (MRI)، معلومات قيِّمة عمّا يحصل تحت جلود أجسامنا. تُستخدم وسائل التّصوير أيضًا في مجال أبحاث باطن الأرض ودراساته، وذلك للكشف عمّا يختفي وراء الموادّ المضغوطة غير المرئيّة.
كشفت دراسة جديدة نُشرت في مجلة Communications Earth & Environment أنّ التّقنيّات الّتي تعتمد على أساليب التّصوير الطّبّيّ المتطوّرة قادرة على تزويد صورة مفصّلة لِلفُوّهة الدّاخليّة من الجبل البركانيّ. طوّرت طواقم الدّراسات والأبحاث من المركز الوطنيّ الفرنسيّ للدّراسات العلميّة ومن معهد فيزياء الكواكب في باريس الطّريقة الجديدة الّتي أعطت صورًا مفصّلةً جدًّا وبالغة الدِّقّة لفوّهة الجبل البركانيّ "لا سوفريير" (La Soufrière)، الموجود في مجموعة جزر جوادلوب في البحر الكاريبيّ.
التّقنيّة الجديدة عبارة عن نسخة محدثة من أسلوب شائع لتحليل البيانات، اسمه "تصوير المصفوفة". تعتمد هذه الطّريقة على إنشاء صورة ثلاثيّة الأبعاد للجسم الخاضع للمسح، وذلك من خلال تقاطع البيانات الواردة من عدد محدود من أجهزة الاستشعار، يزوّد كلّ جهاز منها معلومات ذات بعد واحد. لقد طُوّرَ تصوير المصفوفة أصلًا للاحتياجات الطِّبّيّة، ومن ضمن استخداماته تحليل البيانات الواردة من أجهزة التّصوير بالأمواج فوق الصّوتيّة وأجهزة التّصوير المقطعيّ المحوسب. تمّت، ضمن الدّراسة المذكورة أعلاه، ملاءمة الطّريقة لغرض معالجة البيانات الواردة من المجسّات المسمّاة "جيوفونات"- وهي عبارة عن أجهزة شائعة في الأبحاث الجيولوجيّة، تتيح قياس حركات الأرض.
تستطيع الطّريقة الّتي تعتمد على أساليب التّصوير الطِّبّيّ المتطوّرة على أنواعها تزويدنا بصورة مفصّلة لِلفُوّهة الدّاخليّة من الجبل البركانيّ. قمة الجبل البركانيّ لا سوفريير | متاح للجميع، ويكيبيديا
أمواج في باطن الأرض
تتحرّك الأمواج الزّلزالّية (السّيزميّة) داخل الأرض بعد أن تتكوّن نتيجة لهزّة أرضيّة أو نشاط بركانيّ أو انفجار من صُنع الإنسان بمستوى سطح الأرض. تتغيّر سرعة هذه الأمواج مع تغيّر المادّة الّتي تعبر من خلالها، إذ تزداد سرعة حركتها عند عبورها من خلال الموادّ عالية الكثافة أو الخاضعة للضّغط العالي.
تنكسر الموجة الزّلزاليّة بزاوية معيّنة عندما تمرّ من بين طبقات ذات خصائص مختلفة، ويتيح هذا الانكسار تحديد مكان تواجد الحدود بين الطّبقتيْن. يمكننا رسم خريطة تُفصّل تركيبة الموادّ الّتي تُكوّن قشرة الكرة الأرضيّة عن طريق متابعة حركات الأمواج الّتي توثِّقها المجسّات بعنايةٍ ودقّة.
إنّ تثبيت المجسّات في الكثير من الهياكل تحت الأرضيّة بالغُ التّعقيد ومنوطٌ بالمخاطر، بينما تتيح الطّريقة الجديدة مواجهة التّحدّيات الكامنة في فكّ رموز تلك الهياكل. لذلك، يضطّر الباحثون الاعتماد على توثيق محدودٍ لِلأمواج الزّلزاليّة الّتي تتكوّن نتيجة الاهتزازات الأرضيّة.
اختار الباحثون جبل لا سوفريير البركانيّ، حيث تُعدّ شبكة المجسّات المثبّتة فيه ضئيلة ومحدودة،لِيبيّنوا كيف يمكن لِتصوير المصفوفة أن يوفّر صورة عالية الجودة لفُوّهة الجبل البركانيّ باستخدام مجموعة ضئيلة من أجهزة استشعار (مجسّات) الجيوفون. اعتمدت معظم المسوحات الجيوفيزيائيّة الّتي استُخدمت في معالجة الزّلازل الخلفيّة تحت الأرضيّة، حتّى الآن، على حركة الموجات السّطحيّة -الموجات الأُفقيّة الّتي تتحرّك على السّطح-، وحاول العلماء فهم ما يحدث في أعماق الأرض من خلالها.
تعتمد الطّريقة على معالجة الزّلازل الخلفيّة لحركة الموجات الجسميّة- وهي الموجات الّتي تتقدّم إلى باطن الأرض، ولا تبقى على السّطح. تُستخدم التّقديرات المسبقة غير الدّقيقة لمبنى الطّبقات تحت سطح الأرض في غالبيّة مسوحات الموجات الجسميّة، في حين يغني تصوير المصفوفة عن الحاجة لمثل هذه الافتراضات. لقد زوّدت الموجات الجسميّة معلومات مباشرة ودقيقة عن مبنى عُمق الجبل البركانيّ. بلغ عمق فُوّهة الجبل البركانيّ الضّيّقة، وفقًا لما استطاع الباحثون تمييزه، خمسة كيلومترات، كما شخّصوا وجود منطقة في قاعِ الفُوّهة، سمّوْها "نظام خزن الماجما (الصُّهارة)"، المكوّنة من عدد من الطّبقات الصّخريّة المنصهرة (الماجما)، وطبقةِ أساس الجبل من تحتها. تُتيح الطّريقة إنشاء صورة لعمقٍ يصل الى عشرة كيلومترات بدقّة تفاصيل تبلغ مائة متر. يُعتبر ذلك تحسّنًا كبيرًا في القدرة على دراسة باطن الأرض في الأماكن الّتي فيها كمّيّة مجسّات الاهتزاز محدودة.
إنّ الباحثين على قناعة بإمكانيّة تطبيق الطّريقة في مواقع أخرى، كما ويؤكّدون على أنّها اقتصاديّة من حيث نشر أجهزة الاستشعار. من شأن تطبيق هذه الطّريقة المساهمة في تنبّؤ الانفجارات البركانيّة وإنقاذ الكثير من الأرواح في جميع أنحاء العالم. يكمن نجاح هذه الطّريقة في قدرتها على تقليل التّشوّهات الّتي تحدث عندما تتفاعل الموجات الزّلزاليّة مع المكوِّنات تحت الأرضيّة المختلفة، وتنجم عن هذا التّفاعل قفزات في الإشارات الّتي يتمّ استيعابها بسبب اختلاف سرعة الموجات في الموادّ المختلفة. لقد أثبت الدّمج بين تصوير المصفوفة وبين أساليب تقليل التّشوّهات نجاعته وفاعليّته.
كتب الباحثون في دراستهم: "يمكن أن يتحوّل تصوير المصفوفة الى أداة انقلابيّة من حيث الطّريقة الّتي يدرس بها العلماء نماذج البراكين و يبنونها". كثيرًا ما فاجأت الانفجارات البركانيّة الحضارة الإنسانيّة عبر مرِّ العصور، كما حدث في الماضي في بومبي، وما زال يحدث في عصرنا هذا، في آيسلندا على سبيل المثال. قد يبشّر تطوير الطّرق والأساليب الحديثة بمرحلةٍ جديدة في متابعة الانفجارات البركانيّة ومراقبتها.