يرسل عنكبوت المقلاع شبكته لاصطياد فريسته، ويتعرّف إلى الحشرات الطّائرة من خلال الاهتزازات الّتي يولّدها طنين أجنحتها
المقلاع أداة قتال تُستخدم لرمي الحجر سريعًا صوب الهدف. توجد في الطّبيعة مخلوقات لها قدرات مدهشة في استخدام الأدوات الطّبيعيّة لاصطياد فرائسها، فقد تطوّر لدى العنكبوت من الصّنف Theridiosoma gemmosum مثلًا، الّذي لا يتعدّى طوله ثلاثة ملّيمترات، أسلوب فريد لصيد الفريسة، يَستخدم فيه شبكة تشبه المقلاع.
ينتمي هذا العنكبوت لعائلة Theridiosomatidae. دعونا نُلَقّب هذه العناكب هنا بالمقلاعيّات. تختلف هذه العائلة من العناكب عن عائلة العناكب الغازلة المداريّة بالطّريقة الّتي يستخدم أفرادها ما يَحيكونه من خيوط في عمليّة صيد الفريسة: تسحب العناكب "المقلاعيّة" مركز شبكة الخيوط ،الّتي تحيكها، إلى الخلف، بواسطة خيط منسوج متين تُثبّته بغصن أو بصخرة، وتكتسب الشّبكة هيكلًا مخروطيّ الشّكل، ذلك بخلاف ما تفعله العناكب الغازلة المداريّة الّتي تحيك شبكة ساكنة مستقرّة، وتنتظر بصبر أن تقع فيها الحشرة صدفةً. يُفلت العنكبوت "المِقلاعيّ" المرساة في توقيت مثاليّ، فتنطلق الشّبكة بسرعة إلى الأمام والعنكبوت داخلها، وتوقع الفريسة فيها.
يُفلت العنكبوت "المِقلاعيّ" المرساة بتوقيت مثاليّ، وذلك عند اقتراب حشرة طائرة من الشّبكة، فتنطلق الشّبكة وتوقع الفريسة داخلها. من اليسار إلى اليمين: حركة الشّبكة والعنكبوت داخلها عند اقتراب الحشرة منها | من المقالة Han SI and Blackledge TI., 2024
التّصفية المستهدفة
جرت ضمن دراسة جديدة محاولة لكشف سرّ هذا العنكبوت، وفهم قدرته على تحديد موقع فريسته دون أن تلامس شبكته. جمعت الباحثة سارة هان (Han)، من جامعة أكرون في أوهايو، خلال عملها على أطروحة الدّكتوراه، عناكب من هذا النّوع، وجمعت أيضًا باعوضًا كفريسة لها، وربّتْها في المختبر. ربّت هان العناكب داخل أوعية مغلقة تسود داخلها ظروف تحاكي بيئة موطنها الأصليّ، وألصقت البعوضات إلى عصيٍّ من ورق داخل الأوعية، بحيث تكون أجنحتها طليقة لكنّها لا تقدر على الطّيران. قرّبت هان العصا الورقيّة وفي طرفها البعوضة إلى الشّبكة دون أن تلمسها، وراقبت ما يحدث باستخدام الكاميرا. اِفترضت الباحثة أن يشعر العنكبوت باهتزازات الهواء الّتي تنجم عن حركة أجنحة البعوضة، ولا ينجم ردّ فعله عن رؤية البعوضة بذاتها.
اِستخدمت هان شوكة رنّانة - وهي أداة صغيرة مصنوعة من عنصر فلزّيّ تهتزّ بوتيرة ثابتة فتصدر نغمة بتردّد معيّن تُحَدّد قيمته مسبقًا. ضُبطت الشّوكة الرّنّانة بحيث تُصدر نغمة مطابقة لطنين البعوضة. أفلتت العناكب خيط المرساة فعملت الشّبكة كالسّوط في اللّحظة الّتي اقتربت فيها الشّوكة الرّنّانة من الشّبكة. يدلّ ذلك على أنّه لا حاجة لأن يرى العنكبوت حركة أجنحة البعوضة، وإنّما يكفيه الشّعور بالاهتزازات النّاجمة عن طنينها ليفلت مصيدته ويوقع الفريسة فيها .
لم يَصدر أيّ ردّ فعل من قبل العناكب، ضمن تجربة أخرى أجراها الباحثون، عندما قرّبوا إلى الشّبكة بعوضة قيّدت حركة أجنحتها. أطلقت العناكب العنان للشّبكة عندما أفلت الباحثون أجنحة البعوضة فعادت تصدر طنينها - كما يظهر في الفيديو التّالي. تبيّن من فحص آخر أنّ ردّ فعل العنكبوت على الشّوكة الرّنّانة عند اقترابها من شبكته سبق ردّ فعله على اقتراب البعوضة الحيّة منها. يعتقد الباحثون أنّ العنكبوت احتسب الشّوكة الرّنّانة خطرًا يهدّد حياته ولم يحتسبها فريسة، في سلوك يمكن تفسيره دفاعًا عن النّفس وليس بالضّرورة اصطياد فريسة.
يُطلق العنكبوت خيوط المرساة في اللّحظة الّتي تُصدر فيها البعوضة طنينًا عند تحرير أجنحتها. من المقالة Han SI and Blackledge TI., 2024::
اِستعان الباحثون بتصوير الفيديو لحساب السّرعة الّتي تصطاد فيها الشّبكة، والعنكبوت داخلها، الفريسة المحتملة. تبين أنّ العنكبوت يصل إلى تسارع مذهل بلغ مقداره 504 مترًا في تربيع الثّانية، تسارع يوصله بطرفة عين إلى سرعة متر في الثّانية الواحدة، سرعة لا تدع للبعوضة أيّ أمل بالهروب.
تقول هان: " ما زالت هناك أسئلة وتساؤلات كثيرة تنتظر إجابات عليها". من ضمن هذه التّساؤلات: ليس من الواضح كيف تُشخّص العناكب الاهتزاز، ويفترض الباحثون أنّ اهتزاز الهواء يؤدّي إلى إثارة الشّعيرات الحِسّيّة الموجودة على أرجل العنكبوت بشكل مباشر، أو أنّه يشعر بها بشكل غير مباشر عندما تهتزّ شبكة الخيوط نتيجة لاهتزاز الهواء النّاجم عن طنين البعوضة. وقد يكون تفسير الأمر بكلا الاحتمالين معًا. تقول هان: "من المحتمل أنّ العناكب تستخدم شباكها أجهزة إشعار أكثر تقدّمًا ممّا كنّا نعتقد سابقًا، وقد تكون الشّبكة بالنسبة لها بمثابة أُذن صناعيّة".
لا يعرف الباحثون في الحقيقة كيف يُحدّد العنكبوت بُعد الحشرة من الشّبكة الكافي لاصطيادها، إلّا أنّه أصبح بحوزتنا الآن أوّل توثيق يجسّد قدرة العناكب على تشخيص فريستها دون أن تلمس شباكها، والأسئلة والتّساؤلات الّتي ما زالت مفتوحة معروضة أمام بحوثات ودراسات أخرى علّها تتعمّق في الأمر وتأتينا بِالتّفاسير المناسبة.