لا تعلّمنا فيزياء تقطيع الورق أيّة مجلّات علميّة من المستحسن أن نقرأها عبر الحاسوب مباشرة فحسب، وإنّما نتعلّم مخاطر أوراق الطباعة القديمة
قد يكون تقطيع الورق مؤلمًا جدًّا، تمامًا مثل السكين الّتي تجرح جلد الإصبع الناعم. لكن ليس كلّ أنواع الورق متشابهًا- منه ما تكون حوافّ الورق حادّةً جدًّا، ومنه ما تكون أقلّ حِدّةً، كما أنّ هناك تقنيّات تتيح إنتاج ورق وديّ للمستخدِم. تحاول دراسة وردت تفاصيلها في مقال جديد، طُبعت قسم من نسخاته على الورق أيضًا، توضيح هذه المسألة.
نُشرت المقالة مؤخّرًا في مجلّة Physical Review E، وهي ثمرة جهود باحثين من القسم التقنيّ في الجامعة التقنيّة في الدنمارك. لاحظ الباحثون- ويقرُّ كلّ من جُرح بالورق أنّه على حقّ- أنّ الورق ذا الحوافّ الدقيقة جدًّا لا يجرح الإصبع، كما لا يجرحها الورق السميك. ذلك يعني أنّه يوجد نطاق متوسّط من سُمك الورق قد تؤدّي ملامسته إلى جَرح الجلد.
كيف يمكن فحص قدرة الأنواع المختلفة من الورق على التسبّب بالجروح، دون التسبّب بالألم للأشخاص ذوي الأصابع؟ يحبّ علماء فيزياء الموادّ المكثّفة الليّنة، والفيزياء الحيويّة والأنظمة المعقّدة، أحيانًا، اختراع آلات تؤدّي وظيفة محدّدة ولا تُستخدم في غيرها. ما صنعه الباحثون الدنماركيّون في هذه الحالة، هو آلة تُستخدم فيها قطع الورق كسكّين تحاول قَطْع كُتل من الجيلاتين، والّتي تحاكي أصابع الإنسان القابلة للإصابة.
تبيّن من عمل هذه الآلة أنّ الأوراق الرقيقة جدًّا، والّتي لا يتعدّى سمكها 0.05 ملم (ميليمتر)، انطوت عند ملامستها الجيلاتين، وبمصطلحات فيزيائيّة، انبعجت أو تحدّبت (انبعاج أو تحدُّب-buckling). الانبعاج هو فشل مَحلّيّ يحدث في هيكل المادّة؛ بسبب الضغط العامل عليها- في هذه الحالة من قبل الجيلاتين، والّذي يُثقِل عليها كثيرًا. طوّرعالِم الرياضيّات والفيزياء، ليونارد أويلر (Euler) المعادلة الرياضيّة الّتي تصف عمليّة الانبعاج، وذلك في القرن الثامن عشر. اتّضح أنّ هذه المعادلة تصلح لوصف تحدّب أعمدة من ورق، على الرغم من أنّها طُوّرت أصلًا لوصف انبعاج أعمدة الدّعم.
أما ردّ فعل الورقة الّتي يزيد سمكها عن 0.1 ملم، عندما لامست الجيلاتين فكان مختلفًا، فقد انحرفت الورقة جانبًا بدل أن تنطوي، أي، إنّها مرّت بإزاحة (indentation). يستخدم مصطلح الإزاحة، (المسافة البادئة)، عادةً في معالجة النصوص وذلك لوصف بُعد سطر خطّ الكتابة عن الهامش. هذا ما يحصل بالضبط للورقة السميكة: تُزاح عن سطح الجيلاتين ولا تستطيع اختراقه.
توجد أهميّة، عدا عن سُمك الورقة، لِزاوية التلامس بين حافّة الورقة وبين المادّة المُراد قطعها. يجب أن تكون هذه الزاوية حادّة- أقلّ من 20 درجة. لن تستطيع الورقة، أيًّا كانت درجة خطورتها، قطع أيّ شيء، إذا كانت الزاوية أكثر انفراجًا.
تنجم غالبيّة الجروح عن الورق الّذي يتراوح سمكه بين 0.05 و 0.1 ملم. أنواع من الورق ذات سُمك مختلف | تصميم: ليئات فيلي
رِجال السكاكين
يشمل نطاق خطر التعرّض للجروح من القطع الورقيّة الأوراق الّتي يتراوح سُمكها بين 0.05 و 0.1 ملم، على افتراض أنّ ردّ فعل أصابعنا لِحافّة الورقة لا يختلف جوهريًّا عن ردّ فعل الجيلاتين. هذا هو النطاق الوسطيّ، أوراق ليست أكثر سُمكًا، ولا أقلّ سُمكًا ممّا ينبغي. توجد ضمن هذا النطاق من السُّمك ثلاثة أنواع مؤذية من الورق، تستحقّ الوقوف على المنصّة والحصول على الميداليات الورقيّة.
الميدالية البرونزيّة هي من نصيب نوعيّة الورق الّذي تُطبَع عليه مجلّة Nature العلميّة الشهيرة- والّتي لم يحظَ كاتبو المقال، للأسف، بنشره فيها. يبلغ سُمك هذه النوعيّة من الورق 0.05 ملم. الميدالية الفضيّة هي من نصيب نوعيّة الورق الّذي تُطبَع عليه مجلّة Science العلميّة الشهيرة هي الأخرى، ولم تُنشَر فيها هذه المقالة ايضاً. سُمك هذا النوع من الورق هو 0.055 ملم. أمّا الميدالية الذهبيّة فهي من نصيب ورق الطابعات المتواصل القديم، الّذي توقّف استخدامه منذ عدّة سنوات: إنّه الورق المخروم من جانبيه، والبالغ سُمكه 0.065 ملم. نحن محظوظون بتوقّف إنتاج هذا النوع من الورق بسبب التطوّر الّذي حصل على تقنيّة الطابعات.
وعلى النقيض من علماء الفيزياء، فقد نقل الباحثون نتائجهم أيضًا إلى وجهة تجاريّة، وطوّروا الـ - Papermachete- وهي سكّين ورقيّة، استُنبِط اسمها من دمج كلمات "عجينة من الورق" (paper mache)، و "ماشتا" (machete)، وهي سكّين حادّة طويلة. يمكن لهذه السكّين، والّتي نَصْلها من ورق الطابعات المتواصل، أن تقطع ثمار الفاكهة والخضار وحتّى الدجاج، طبعًا بشرط استخدامها بالزاوية الصحيحة. سارِعوا بحجز دور لحقّ استخدام السكّين الورقيّة!
تُرسِل مُستقبِلات الإنذار (التنبيه) والمستقبِلات الميكانيكيّة، عندما تجرحنا الورقة، إشارات عصبيّة من الإصبع المجروحة إلى مراكز الحِسّ والمعالجة المناسبة في الدماغ. إصبع ملفوفة بضمّادة لاصقة | Csaba Deli, Shutterstock
الآلام الناجمة عن الورق
وأخيرًا، لا بدّ من السؤال الّذي لا يقلّ أهميّة عن النتائج الفيزيائيّة: لماذا تؤلمنا الجروح الناجمة عن الورق لهذه الدرجة؟
هناك مستقبِلات ألم كثيرة منتشرة في جلد الإنسان. يتيح الإحساس بالألم للكائن الحيّ، تمييز الخطر والإصابات والابتعاد عنها قبل تفاقمها، فهو، إذًا، سِمة مهمّة جدًّا للبقاء على قيد الحياة. يحدث ردّ فعل بعض مستقبِلات الألم، عند التعرّض لضغط ميكانيكيّ شديد وخطير، وتستشعر مستقبِلات أخرى الموادّ الكيميائيّة الضارّة، ومنها ما يستشعر الحرارة أو البرودة، ويوجد نوع آخر، وهو مستقبِلات الإنذار الّتي تردّ فعلًا عندما يتضرّر الجلد أو نسيج آخر موجودة به هذه المستقبِلات.
تبدأ مستقبِلات الإنذار، والمستقبِلات الميكانيكيّة في المنطقة المُصابة بالعمل عندما تجرحنا الورقة، فترسِل إشارات عصبيّة من الإصبع المجروحة إلى مراكز الحِسّ ومعالجة المعلومات المناسبة في الدماغ. تنفذ الحوافّ الحادّة للورقة عبر الجلد، وتُدخِل معها جسيمات غير مرغوب فيها، مصدرها من الورق، ما يؤدّي لتفعيل المستقبِلات الكيميائيّة أيضًا.
يساهم كون الجروح الناجمة عن الورق صغيرة وسطحيّة في زيادة حدّة الألم، ذلك لأنّ أنظمة الوقاية في الجلد لا تُشخِّص هذا الخدش بأنّه تهديد كبير، فتفرز القليل من موادّ تخثّر الدم إلى موقع الجرح. تؤدّي الحركة، ولو كانت خفيفة، بغياب المزيد من التخثّر، إلى فتح الجرح وزيادة الألم.
يُحذّر الشاعر ناتان ألترمان، في قصيدته "حافِظي على نفسِك"، ابنته ترتسا أتار، من العديد من الأخطار والتهديدات. كتب في هذه القصيدة: "حافظي على نفسِك…"، " من حجر المِقلاع، من السكّين، من الأظافر، حافظي على نفسِك ممّا يحرق وممّا يجرح"، وتابع في تعداد عوامل أخرى كثيرة يجب الوقاية منها. ربّما لم يرَ ألترمان في الورق تهديدًا، ولم يذكره في قصيدته بشكل صريح، وإنّما شكّلت الورقة أرضًا خصبة لكلماته الجميلة. أمّا أنتم فخذوا حِذركم من الورق أيضًا.
يصف أحد كاتبي المقال في فيديو من إنتاجه نتائج الدراسة (باللغة الإنجليزية):