في أحد شواطئ البحر الكاريبي الضّحلة اكتُشِفت مستعمرة كائنات أحاديّة الخليّة تتميّز بقدرتها على الحركة المنسّقة كجسم واحد استجابةً للضّوء: فهل تطوّرت الكائنات متعدّدة الخلايا على هذا النّحو؟

لطالما تساءل علماء الأحياء التّطوّريّين عن كيفيّة نشوء الكائنات الحيّة المعقّدة من كائنات أحاديّة الخليّة أبسط منها. فأجساد الكائنات الحيّة متعدّدة الخلايا، كالبشر والحيوانات مثلًا، تتكوّن من أنسجة متعدّدة ومتنوّعة. وعادةً ما تتمتّع خلاياها بالقدرة على تغيير هيئتها (أثناء التّطوّر الجنينيّ على سبيل المثال) وعلى الانتظام لأداء وظائف مشتركة. في المقابل، تقوم الكائنات أُحاديّة الخليّة بجميع وظائفها الحيويّة بذاتها، إمّا على حدة أو على هيئة مستعمرة ثابتة في الحالات القصوى.

عادةً ما يسهل تصنيف الكائنات الحيّة إلى إحدى المجموعتين، إلّا أنّ هذا الأمر لا ينطبق تمامًا بالنّسبة للمجموعة المدهشة المعروفة باسم الطّلائعيّات. فهي مجموعة غير متجانسة تحصي حوالي 200000 نوع من المخلوقات أحاديّة الخليّة حقيقية النّواة، أشهرها البراميسيوم والطّحالب. وبسبب صفاتها الفريدة وعدم تجانسها لا يتمّ تصنيفها كحيوانات أو نباتات، ولا حتّى كفطريات وإنّما كمجموعة خاصّة بطريقة التّصنيف السلبيّ. 

 تضمّ مملكة الطّلائعيّات عائلة تُدعى ب Choanoflagellate (من اليونانية: "القمع السّوطيّ")، وهي الطّلائعيّات الأقرب جينيًّا للحيوانات المعقدة. من ميزات هذه العائلة الّتي تحصي ما يقارب 380 نوعًا مشخّصًا حتّى الآن بأنها تعيش في بيئة مائيّة على شكل مستعمرات كثيفة الخلايا وتعتمد على البكتيريا كمصدر رئيسيّ للغذاء. كما تتّسم هذه العائلة بسياط قصيرة (أعضاء تستخدم للحركة تشبه الذّيل) تصطفّ كالطّوق حول سوط آخر مركزيّ وطويل. تعتبر هذه الكائنات البسيطة مصدرًا قيّمًا لاستكشاف وتعلّم المبادئ البيولوجيّة لسلوكيّات الكائنات متعدّدة الخلايا، بل وحتّى لتقصّي مجرى تطوّر الكائنات متعدّدة الخلايا من تلك الأبسط منها.

جمع فريق الأبحاث برئاسة نيكول كينج من جامعة كاليفورنيا في بيركلي من خلال دراستهم لهذه العائلة عيّنات Choanoflagellate من برك المياه الضّحلة الواقعة قبالة جزيرة كاراكاو الكاريبية الصّغيرة. نشرت كينج وزملاؤها حصيلة دراستهم في ورقة بحثية في مجلة Science حيث قامت بالكشف عن تشخيص نوع مستجدّ من ال Choanoflagellate، والّذي أطلق عليه اسم Koanoeca flexa. يشكّل أعضاء النّوع الجديد مستعمرات تشبه الكأس تتكوّن جدرانه من طبقة واحدة من مئات الخلايا. ومن أبرز الميزات الّتي تمّ كشف النّقاب عنها هي توجّه أسياط هذه الكائنات نحو باطن الكأس. وهو أمر معهود عند خلايا الجدران الدّاخليّة لأنابيب التّغذية في العديد من الاسفنجيّات. إلّا أنّ دراسة المستعمرات هذه من خلال المجهر أدلت بخاصيّة مدهشة للغاية، حيث شوهدت خلايا المستعمرة تنقلب من الدّاخل إلى الخارج لتصبح المستعمرة كرويّة الشّكل -في غضون 30 ثانية- حيث تمّ توجيه السّياط نحو الخارج لتسمح لها بالحركة والسّباحة. وقالت كينج في مقابلة مع ScienceNews: "لقد كان ذلك سلوكًا مجنونًا لم نشهده عند عائلة ال Choanoflagellate من قبل، وكان علينا أن نفهم كيف فعلوا ذلك".

يُظهر مقطع الفيديو الوارد عن معهد هوارد هيوز بجامعة بيركلي كيفيّة تحوّل مستعمرات Choanoflagellate من كرة إلى أخرى:

 

الأكل معًا، والسّباحة معًا

وجد الباحثون من خلال دراسة سلوك المستعمرة أنّها تكاد لا تتحرّك عندما تكون وُجْهة السّياط نحو باطنها، في حين تبيّن أنّ المستعمرة تسبح بسرعة عند توجيه السّياط نحو الخارج. أمر مدهش آخر تمّ توثيقه هو أن أكثر من 90% من الخلايا لا تتغذّى على الإطلاق عندما تكون المستعمرة في حالة الحركة، بينما تتغذّى أكثر من 75% من الخلايا على البكتيريا عندما تكون المستعمرة ساكنة. وقد وجد الباحثون أنّ السّياط تلعب دورًا مركزيًا في تغذية المستعمرة. فالسّياط تُحدث من خلال تمركزها في باطن المستعمرة مجرى من السّوائل يحمل معه البكتيريا ومواد غذائية أخرى لداخل المستعمرة.

وفي مشاهدة علميّة مستجدّة لعائلة ال Choanoflagellate وجد الباحثون أنّ مستعمرات الKoanoeca flexa تبدّل ما بين حالتي الحركة والسّكون استجابةً للتغيّرات في شدّة الإضاءة، وأنّ مستعمرات هذا النّوع عادةً ما تسبح من المناطق المظلمة إلى المناطق المضاءة. أشارت سلسلة من الاختبارات الجينيّة والكيمياء الحيويّة على اعتماد هذا النّوع من المستعمرات على بروتينات رودوبسين، وهي عائلة من البروتينات الحسّاسة للضّوء تتواجد في العديد من الكائنات من البكتيريا وحتّى في العين البشريّة. فمع تغيّر ظروف الإضاءة، تثير هذه البروتينات سلسلة من الإشارات الجزيئيّة الّتي تنتهي إمّا بانقباض الهيكل الخليويّ الّذي يحيط بالسّوط أو بانبساطه. كما شخصت نيكول كينج وزملاؤها منظومات مماثلة في أنواع أخرى من ال Choanoflagellate، إلّا لأن خلايا هذه الأنواع تستخدم منظوماتها للحركة بشكل فرديّ وليس لحركة جماعيّة منسّقة للمستعمرة بأكملها كما هو الحال في النّوع المستجدّ.

ونظرًا لتواجد آليات انقباض مشابهة للهيكل الخليويّ في خلايا الكائنات متعددة الخلايا، يُرجح الباحثون احتمالية تطور هذه الآلية في أحد الأسلاف المشتركين لل Choanoflagellate والكائنات الأخرى. كما يسلّط سلوك مستعمرات ال Koanoeca flexa الضّوء على الفرضيّة القائلة بأنّ أسلافنا الأوائل قد نشأوا كمستعمرة من الخلايا الّتي طوّرت القدرة على الحركة بشكل منسّق، ممّا أدّى فيما بعد إلى تطوّر كائنات حيّة معقّدة. رسالة مهمّة أخرى بيّنتها هذه الدّراسة هي أنّ البحث عن كائنات مجهريّة جديدة، قد يمكننا من إلقاء الضّوء والكشف عن حيثيات تطوّر الكائنات الحيّة بشكل عامّ.

0 تعليقات