ما الفرق بين الإنفلونزا الموسميّة العاديّة وبين وباء الإنفلونزا الّذي يقتل عشرات ملايين البشر؟ جينان اثنان ،على ما يبدو.

من المعروف لدى الجميع أنَّ الإنفلونزا الموسميّة - وهو المرض الّذي يصل كل شتاء ويسبّب أعراضًا مزعجة مثل الحُمَّى، السُّعال، الصُّداع وضعف العضلات. على الرّغم من أنَّ الإنفلونزا الّتي نعرفها لا تهدّد حياة معظم النّاس، إلّا أنَّ هناك أنواعًا من الإنفلونزا تكون معدية وخطيرة جدًّا. قبل 103 أعوام، انتشرت الإنفلونزا الإسبانيّة، على شكل جائحة إنفلونزا معدية ومميتة بشكلٍ كبير. في غضون عام، أُصيب ثلث سكّان العالم بالمرض، ووفقًا لتقديرات مختلفة، تُوُِفِي 100-20 مليون شخص نتيجة الإصابة بها.

لسنا متأكّدين من كيفيّة ظهور وباء الإنفلونزا الإسبانيّة؛ وذلك يعود إلى حقيقة أنّها انتشرت في عام 1918، عشيّة انتهاء الحرب العالميّة الأولى. على الرّغم من معدّلات الإصابة والوفيات العالية؛ فقد مرّ وقت طويل حتّى انتشرت الأنباء في وسائل الإعلام حول وجود الوباء - حيث أنَّ الدّول الّتي كانت في خضم الحرب فرضت رقابة على النّشر الإعلاميّ خوفًا من الإضرار بمعنويّات المواطنين وتقديم المساعدة المجانيّة للعدو. أُطلِق على المرض اسم "الإنفلونزا الإسبانيّة"؛ كون إسبانيا المحايدة لم تفرض الرّقابة على وسائل الإعلام ونُشِرت المقالات عن المرض في الصّحف. ساهم الاكتظاظ في ساحة المعركة وانتقال الجنود بين القارّات المختلفة بشكلٍ كبير في انتشار المرض، الّذي كان معديًا ومُؤذيًا أكثر من أنواع الإنفلونزا الّتي كانت معروفة حتّى ذلك الوقت.

ضربت الإنفلونزا الإسبانيّة العالم في ثلاث موجات. لم تكن الموجة الأولى قاتلة بشكلٍ خاصّ وكانت مشابهة في خصائصها للمرض النّاتج عن الإنفلونزا العاديّة، إلى جانب الحقيقة أنّها جاءت بين الرّبيع والصّيف بدلًا من الشّتاء. بعد عدّة أشهر من الهدأة (التّراجع)، بدأت الموجة الثّانية، والّتي كانت أكثر فتكًا؛ إذ تُوُفِي خلال شهر واحد حوالي 200000 شخص بسبب الإنفلونزا في الولايات المتّحدة وحدها. على عكس الإنفلونزا الموسميّة الّتي كانت تصيب بشكلٍ أساسيٍّ كبار السّن والأطفال، فإنَّ معظم ضحايا موجة الإنفلونزا الثّانية كانت من الشّباب والأصحّاء الّذين تتراوح أعمارهم ما بين 20 و 40 عامًا، والّذين لا يعانون عادة من مضاعفات خطيرة جرّاء الإصابة بالإنفلونزا. قدمت الموجة الثّالثة في الشّتاء وكانت أضعف قليلاً من الموجة الثّانية؛ ربّما لأنَّ الأشخاص الّذين نجوا خلال الموجة الثّانية طوّروا مناعةً، وبالتّالي كانوا أكثر مقاومةً للفيروس الّذي جاء في الموجة الثّالثة.

לפחות 20 מיליון בני אדם מתו במגפה. חולי שפעת ספרדית בבית חולים בארה"ב, 1918 | צילום: Science Photo Library
مات ما لا يقلّ عن 20 مليون شخص في أعقاب الجائحة. مرضى الإنفلونزا الإسبانيّة في مستشفى بالولايات المتّحدة، عام 1918 | الصّورة: مكتبة الصّور العلميّة
 

البحث في ألاسكا
لفهم ما جعل الإنفلونزا الإسبانيّة معدية ومميتة للغاية؛ انطلق قبل حوالي 20 عامًا فريقٌ من الباحثين العسكريّين الأمريكيّين إلى ألاسكا بهدف الحصول على عيّنة من رئة محفوظة لشخص مات بسبب هذه الإنفلونزا عام 1918. قام الباحثون بعزل الفيروس وسلسلة مادّته الوراثيّة، ممّا أعطاهم بعض المعلومات حول الميزات الّتي جعلت من الإنفلونزا الإسبانيّة مرضًا معديًا وخطيرًا للغاية. يختلف التّسلسل الجينيّ لفيروس الإنفلونزا الإسبانيّة اختلافًا كبيرًا عن تسلسل فيروسات الإنفلونزا البشريّة الاخرى، وهو يشبه إلى حدٍّ ما إنفلونزا الطّيور

على الرّغم من التّشابه النّسبيّ، فنحن لا نتحدّث عن إنفلونزا الطّيور، وحتّى يومنا هذا، من لا يُعرَف أيّ حيوان نقل هذه الإنفلونزا إلى الإنسان. يُفسِّر الاختلاف الجينيّ بين الإنفلونزا الإسبانيّة والإنفلونزا العاديّة حقيقة أنَّ الفيروس كان قادرًا على الانتشار بسرعة، لم تكن أجهزة المناعة لدى المرضى قادرة على استخدام "الذّاكرة" الّتي تكوّنت عقب الإصابات السّابقة في الإنفلونزا لكي تسرِّع عمليّة القضاء على الفيروس الحالي.

مكّنَ عزل التّسلسل الجينيّ للفيروس الباحثين من إعادة بناء فيروس الإنفلونزا الإسبانيّة وفحص تأثيره على الفئران وعلى مزرعة خلايا رئة بشريّة. ابتكر الباحثون فيروسات ذات مزيج من الجينات المختلفة، تمّ أخذ بعض الجينات من فيروس الإنفلونزا الموسميّة العاديّة، وبعضها الآخر من الفيروس المُعاد بناؤه. 

قارن الباحثون تأثيرات توليفات الجينات المختلفة، ووجدوا أنَّ فيروس الإنفلونزا الإسبانيّة الكامل هو الأكثر عدوى وخطورة، لكن من بين الجينات الثّمانية للفيروس المُسترَدّ، هناك اثنان، كانا كافيَيْنِ لجعل الإنفلونزا العاديّة أكثر خطورة. أحدهما هو HA (اختصار لـ Hemagglutinin)، وهو جين هيكليّ يسمح للفيروس بالارتباط بمُستقبِلات الخليّة واختراقها. الجين الثّاني هو بوليميراز الحمض النّوويّ الرّيبوزيّ (RNA polymerase) الّذي يستخدمه الفيروس لمضاعفة المحتوى الجينيّ عندما يتكاثر داخل الخليّة.

שני גנים בלבד הופכים את נגיף השפעת לאלים ומדבר במיוחד. פינוי חולי שפעת ספרדית | צילום: Science Photo Library
جينان فقط يجعلان فيروس الإنفلونزا عنيفًا ومُؤثّرًا بشكلٍ خاصّ. إخلاء مرضى الإنفلونزا الإسبانيّة | الصّورة: مكتبة صور العلوم
 

منع الجائحة القادمة
أظهرت دراسة أخرى أنَّ دمج جين ال-HA المأخوذ من الإنفلونزا الإسبانيّة في داخل فيروس الإنفلونزا الموسميّة العاديّة، جعل الإنفلونزا الموسميّة خطيرة بشكلٍ خاصّ؛ لأنَّ الاختراق السّريع للخلايا يمنع جهاز المناعة من اكتشاف الفيروس في المراحل المُبكّرة من الإصابة، والضّرر الملموس ضئيل نسبيًّا، حتّى يتمكّن الفيروس من التّكاثر في العديد من الخلايا. بعد عدّة جولات من الاستنبات داخل الخلايا، تخترق كميّة كبيرة من الفيروسات الأنسجة دفعةً واحدة وتُسبّب فرطًا في نشاط الجهاز المناعيّ؛ ممّا يسبّب صدمة ومزيدًا من الضّرر للأنسجة.

كانت الإنفلونزا الإسبانيّة أحد أقسى الأوبئة المُوثّقة في التّاريخ، وكان الضّرر النّاجم عنها مشابهًا في نطاقه للضّرر النّاجم عن الطّاعون الأسود سيئ السّمعة. ساهمت الحرب العالميّة الأولى وعدم إلمام المؤسّسة الطّبّيّة بالمرض إلى تأخير عمليّة مواجهته بشكلٍ كبير. لا يزال خطر انتشار جائحة إنفلونزا عالميّة جديدة قائمًا، ولكن بالمعرفة الّتي تراكمت لدينا على مدار 100 عام الماضية، يمكننا العمل على منع تفشّي الإنفلونزا القادمة، أو على الأقلّ مواجهتها بشكلٍ أفضل.

0 تعليقات