الرّيادة التّكنولوجيّة، الثّقافة العلميّة، والعقل اللّامع هي المزايا الّتي ارتقى بواسطتها غوردون مور ليغدو من أكثر الأشخاص تأثيرًا على تطوّر قطاع التّكنولوجيا والحوسبة في القرن العشرين، والّذي ستخلّد ذكراه في هذا المجال بالأساس بفضل "قانون مور" الّذي وضع خارطة الطّريق لوتيرة ازدهار قوّة الحوسبة
قبل بضعة أشهر، في 24 مارس 2023 وعن عمر ناهز 94 عامًا توفّي جوردون مور، أحد الآباء المؤسّسين لعالم التّكنولوجيا الفائقة (المتقدّمة) (الهايتك) (High tech) ومؤلّف "قانون مور" وأحد مؤسّسي شركة إنتل العملاقة للشّرائح الإلكترونيّة.
وُلد جوردون إيرل مور في الثّالث من يناير 1929 في بلدة بيسكاديرو (Pescadero) الواقعة جنوب مدينة سان فرانسيسكو لوالديه: والتر الّذي كان يشغل منصب مأمور شرطة آنذاك، وفلورنس ليبيت ويليامسون ربّة المنزل. عند بلوغ جوردون التّسعة أعوام، تمّ ترقية والده، وانتقلت العائلة بأكملها عقب ذلك إلى مدينة ريدوود سيتي، في ضواحي سان فرانسيسكو.
لم تهيّء حياة الضّواحي وظروفها لجوردون، ذلك الطّفل المنعزل وهاوي الصيد، أيّة مقوّمات تدفعه نحو العلوم. إلّا أنّ شرارة فضوله اندلعت بفضل هدية تلقّاها بمناسبة عيد الميلاد (Christmas) عام 1940 بضعة أيّام قبل عيد ميلاده الثّاني عشر، عندها تلقّى جوردون مجموعة من المتفجّرات الّتي أشعلت خياله، ولولا بعض الحظّ لكادت أن تشعل منزله أيضًا.
تفوّق جوردون في المدرسة الثّانويّة في الرّياضة بشكل خاصّ، لكنّه التحق بدراسة الكيمياء في كلّيّة سان خوسيه فور تخرّجه من المدرسة. اِنتقل جوردون عام 1948 إلى جامعة كاليفورنيا في بيركلي، حيث ضمّت هيئة التّدريس الباحثين غلين سيبورغ (Seaborg) وميلفين كالفين (Calvin) ، اللّذين قُدِّرَ لهما الحصول على جائزتي نوبل في الكيمياء في وقت لاحق.
بعد أن تزوّج من صديقته بيتي ويتاكر(Whitaker)، التحق مور في برنامج الدّكتوراه في الكيمياء الفيزيائيّة في المعهد التّكنولوجيّ لكاليفورنيا (كالتك). تمركزت أبحاثه هناك حول الكيمياء الضّوئيّة لأكسيد النيتريك، أي ردود فعل أكسيد النيتريك الكيميائيّة تجاه أمواج الضّوء. اِنتقل جوردون لاحقًا إلى جامعة جونز هوبكنز، حيث بحث في مجال الصّواريخ الباليستيّة بإطار دراسة ما بعد الدّكتوراه.
من الرّياضة إلى الكيمياء، وعبر الكيمياء الضّوئيّة إلى وقود الصّواريخ. جوردون مور عام 1978 | المصدر: Intel, Wikipedia
في أوائل الخمسينيّات سطع نجم الفيزيائيّ ويليام شوكلي (Shockley) في طليعة الابتكار العلميّ والتّكنولوجيّ، عندما طوّر مع زملائه والتر براتين (Brattain) وجون باردين (Bardeen) الترانزيستور الأوّل (محوّل المقاومة الكهربائيّة)، ذلك الابتكار الّذي منحهم جائزة نوبل في الفيزياء. لاحقًا، أدخل شوكلي ابتكارهم إلى مجال صناعة التّكنولوجيا فأسّس شركة "مختبر شوكلي لأشباه الموصلات" (Shockley Semiconductor Laboratory) لإنتاج شرائح السّيليكون. وخلال سنوات قليلة نشأت شركات تكنولوجيّة جديدة حول شركة شوكلي، فتحوّلت المنطقة على أثر ذلك إلى مركز للتّكنولوجيا المتقدّمة. تبعًا لذلك وعلى مرّ الزّمن، أصبح شوكلي يُعرف بأنّه الرّجل الّذي جلب السّيليكون إلى وادي السّيليكون، وهو الاسم الذي أُطلق على أكبر منطقة لصناعة التّكنولوجيا الفائقة (High tech) في كاليفورنيا.
عام 1956، جنّد شوكلي مور ليُشغل منصب باحث في شركته. تعلّم مور في عمله الجديد تقنيّات تجريبيّة معقّدة لإنتاج الصّمامات الثّنائيّة والترانزستورات. ولكن بالرّغم من التّقدّم المهنيّ الّذي حظي به، تبيّن للباحث الشاب مور مدى صعوبة العمل مع شوكلي الذي كان مديرًا قاسيًا ومسيئًا في تعامله مع الموظّفين، يشكّ فيهم بلا سبب، ولا يتيح لهم مجالًا للتّقدّم وتوظيف كفاءاتهم ومهاراتهم في العمل.
سبّبت قسوة شوكلي في نهاية المطاف تمرّدًا في صفوف موظّفي الشّركة، تبعته استقالة جوردون مور ومعه سبعة علماء ومهندسين آخرين من الشّركة، ومن ثمّ تأسيسهم شركة منافسة، فأطلق عليهم شوكلي لقب "الخونة الثّمانية"، الأمر الّذي لم يسهم في إصلاح علاقته بهم. وهكذا تأسّست شركة "فيرتشايلد لأشباه الموصلات" عام 1957 وكانت تعمل كقطاع مستقلّ ضمن شركة التّصوير التّابعة للمستثمر شيرمان فيرتشايلد (Fairchild). نجحت الشّركة وازدهرت لتصبح واحدة من ركائز صناعة الشّرائح السّيليكونيّة والدّوائر المتكاملة (شرائح إلكترونيّة، Chip) وكان لجوردون مور الّذي تمّ تعيينه مديرًا للأبحاث والتّطوير في الشّركة دور مركزيّ في نجاحها.
مدير الكوابيس الّذي أسفرت قسوته عن تمرّد موظّفيه. شوكلي وال"خونة الثمانية" (من ضمنهم جوردون مور من اليسار) | المصدر: Chuck Painter / Stanford News Service, Wayne Miller - Magnum Photos for Fairchild Semiconductor (fair use), Wikipedia
قانون مور
عام 1965، وفي ذروة مسيرته المهنيّة في شركة فيرتشايلد، كتب مور مقالة قصيرة بعنوان "تكديس مكوّنات إضافيّة على الدّوائر المتكاملة" لمجلّة غير أكاديميّة تُدعى "Electronics". لم يُفصح عنوان المقالة آنذاك عن أهمّيّتها وتأثيرها، فهي كانت محاولة منه للتّنبّؤ بوتيرة التّطوّر المستقبليّ للدّوائر الإلكترونيّة الّتي تعتمد على الترانزيستورات. حدّد مور في مقالته أنّه بناءً على التّكلفة الإنتاجية المنخفضة، سوف تتضاعف كثافة الترانزيستورات في الدّوائر المتكاملة كلّ سنة ونصف إلى سنتين. بكلمات أخرى يمكن القول إنّه توقّع أن تتضاعف قدرة الحساب للمكوّنات الإلكترونيّة الجديدة كلّ سنتين على الأكثر دون أيّ تغيير في تكاليف الإنتاج أو السّعر للمستهلك.
رغم توقّعات مور بخصوص التّطوّرات الّتي سوف تطرأ في مجال الشّرائح الإلكترونيّة في العقد القادم فقط، إلّا أنّ توقّعاته أصبحت نبوءة مُحقّقة، إذ بدأ رجال الصّناعة يعتمدون عليها في بناء خطط عملهم وطبّقوها فعليًّا. وبمرور السّنين أخفض المُصنّعون التوقّعات نظرًا للعديد من العقبات والعراقيل الّتي صادفتهم في طريقهم، ولكن بقي تنبّؤ مور صالحًا ونافذًا لسنوات طويلة بعد ذلك وأصبح يُعرف باسم "قانون مور" . في الواقع ما زال قانون مور ساري المفعول في بعض جوانبه حتّى اليوم، وذلك على الرّغم من أنّ قدرة تصغير التّرانزستورات قريبة جدًّا من مستواها النّظريّ الأدنى، ويُقصد بها قريبة من حجم ذرّات منفردة.
لا يزال هذا القانون ساري إلى حدّ ما حتّى يومنا هذا، وفي كلّ شريحة من هذه الشرائح يوجد الملايين من الترانزستورات المجهرية. اللوحة الأمّ للكمبيوتر المنزليّ | المصدر: Denis Dryashkin, Shutterstock
طريق جديد
بعد ثلاثة أعوام على نشر "قانون مور"، رصد مور وروبرت نويس (Noyce)، شريكه في "الخونة الثّمانية" والرّئيس التّنفيذيّ لشركة فيرتشايلد، الثّورة التّالية الّتي كانت قد لاحت في الأفق، وهي ثورة شرائح لتخزين الذّاكرة المكوّنة من أشباه الموصلات. سعيًا منهما للاستفادة القصوى من الفرصة الّتي لاحت لهما، انسحب الاثنان من فيرتشايلد وأسّسا شركة شرائح جديدة. في بداية الأمر فكّرا في تسميتها "مور- نويس" نسبةً لاسميهما، لكنّهما سرعان ما تراجعا عن الفكرة بسبب التّشابه الخطير مع التّعبير"More Noise" (المزيد من الضّوضاء) نظرًا لما يحمله مصطلح "الضّوضاء" من معانٍ ودلالات سلبيّة في صناعة الإلكترونيّات، فاختارا بدلًا من ذلك اسم "NM إلكترونيّات"، الّذي تمّ استبداله بعد بضعة أسابيع بالاسم الأكثر شهرة، إنتل، اختصارًا لـ "Integrated Electronics" (الإلكترونيّات المتكاملة).
تولّى مور دور نائب رئيس إنتل وقاد مهندسي الشّركة لتطوير وابتكار مادّة البولي - سيليكون الّتي كانت المحرّك الرّئيسيّ لإنتاج جيل جديد من الترانزيستورات الّتي يسهل التّحكّم بها. اِنتقلت الشّركة لاحقًا من إنتاج مكوّنات الذّاكرة إلى إنتاج المعالجات، وأصبحت رائدة في صناعة الحوسبة مع مطلع عصر الكمبيوتر الشّخصيّ.
من مشروع ناشئ إلى قوّة عالميّة عظمى. مور (من اليسار) مع روبرت نويس في بداية الطريق، ومدخل متحف إنتل في كاليفورنيا | المصدر: JHVEPhoto, Shutterstock, Intel, Wikipedia
قُدّرت قيمة الشّركة اليوم وبعد 55 عامًا من تأسيسها بحوالي 136 مليار دولار، يعمل فيها مائة ألف موظّف حول العالم وفي العديد من الشّركات التّابعة. تأسّس أوّل مركز تطوير لإنتل خارج الولايات المّتحدة في إسرائيل عام 1974، وحتّى عام 2020 تمّ توظيف حوالي 14 ألف موظّف في مراكز التّطوير التّابعة للشّركة في القدس وحيفا وبيتح تكفا وفي مصنع الإنتاج في كريات جات.
عُيِّن مور عام 1975 رئيسًا لإنتل، ومن ثمّ تولّى منصب المدير العامّ عام 1979. كان مور حتّى اعتزاله في عام 1987 معروفًا بكونه مديرًا فعّالًا ومراعيًا لموظّفيه، ومختلفًا تمامًا في طبيعته وأسلوبه عن ويليام شوكلي. نجح في التّعامل خلال فترته كمدير مع أزمة شديدة كادت أن تهّدد بإفلاس الشّركة بسبب المنافسة الشّديدة مع صناعة الشّرائح اليابانيّة. تمّ تعيينه لاحقًا رئيس مجلس الإدارة لإنتل حتّى اعتزل نهائيًّا من الشّركة عام 2001 عندما استقال من مجلس الإدارة وتقاعد.
في العقدين الأخيرين من حياته، استثمر مور جهده في الأعمال الخيريّة إذ أسّس هو وزوجته عام 2000 "مؤسّسة جوردون وبيتي مور" الّتي تمنح أكثر من 400 مليون دولار سنويًّا للمشروعات الّتي تُسهم في تعزيز العلم والصّحّة والبيئة. حصل مور على العديد من الجوائز والتّكريمات خلال حياته بما في ذلك وسام الحرّيّة الرّئاسيّ الّذي تسلّمه عام 2002 من الرّئيس جورج بوش، وجائزة دان دافيد لأبحاث المستقبل عام 2010، الّتي تسلّمها في جامعة تل أبيب.
في حين شهدت الأجيال الّتي وُلدت قبل الحرب العالمّية الثّانية تطوّرات وتحوّلات تكنولوجيّة هائلة خلال حياتها، كان جوردون مور من ضمن القلّة القليلة من الشّخصيّات الفذّة الّتي أحدثت التّغيير بأيديها. توفّي مور في منزله في هاواي في مارس من هذا العام، بعد حياة حافلة بالإنجازات، تاركًا وراءه زوجته بيتي، طفلين وأربعة أحفاد.