ثمانون عامًا على وفاة السّير آرثر إدينغتون، عالِم الفلك والفيزياء المرموق الّذي أوجد الدّلائل على صحّة النّظريّة النّسبيّة العامّة
يُروى - فيما يُروى بين الفيزيائيّين - أنّ عالِم الفيزياء البولنديّ لودفيك زلبرشتاين (Silberstein)، الّذي اعتبر نفسه خبيرًا في النّظريّة النّسبيّة وألّف كتابًا عنها، تقدّم نحو عالِم الفلك آرثر إدينغتون (Eddington) في نهاية مؤتمر علميّ أقامته الجمعيّة الملكيّة البريطانيّة، وقال له: "بروفيسور إدينغتون، أعتقد أنّك واحد من ثلاثة أشخاص في العالم يفهمون النّظرية النّسبيّة". نظر إدينغتون نحوه دون أن يجيب فقال له زلبرشتاين: "لا تكن متواضعًا"، فأجابه إدينغتون: "على العكس تمامًا، إنّني أفكّر بمن هو ثالثنا"
قد لا تصف هذه الرّواية، فيما إذا كان قد حصل ما ترويه أم لم يحصل، شخصيّة إدينغتون على الوجه الصّحيح، فهو لم يُعرف بالكبرياء والتّكبّر، بل كان مزاجه مرِحًا. كان إدينغتون، عدا عن ذلك، أوّل من أوجد دليلًا مقترنًا بالمشاهدة على صحّة نظريّة أينشتاين النّسبيّة الّتي أحسن فَهمَها جيّدًا، كما أنّ له أعمالًا رائدة في علم الفلك، وكتبًا أثّرت كثيرًا على أبناء عصره، بما فيهم علماء مرموقون.
الشّخصان اللّذان فهما، دون أدنى شكّ، النّظريّة النّسبيّة . إدينغتون وأينشتاين | Royal Astronomical Society
الرّياضيّات والعلوم الفلكيّة
وُلد آرثر ستانلي إدينغتون في شمال شرق إنجلترا في الثّامن والعشرين من كانون الثّاني / ديسمبر سنة 1882. توفّي والده، الّذي كان مدير مدرسة، بعد عامين من ولادته، وذلك من مرض الحمّى النّمشيّة (التّيفوس)، فربّته أمّه مع أخته الكبرى. ظهرت الميول الرّياضيّة على شخص إدينغتون في صباه إذ حاول عدّ كلمات التّوراة. دمج فيما بعد ما بين الرّياضيّات والعلوم الفلكيّة، وحاول عدّ النّجوم في السّماء. اِمتاز في الرّياضيّات وآداب اللّغة الإنجليزيّة وهو طالب في المدرسة، وحاز على منحة لمتابعة تعليمه في كلّيّة أفانس، الّتي تحوّلت فيما بعد إلى جامعة مانشستر. تعلّم مواضيع عامّة في الكلّيّة أوّلًا، ثمّ سرعان ما اختار موضوع الفيزياء. حصل، وهو في العشرين من عمره، على اللّقب الأوّل بامتياز من الكلّيّة، ومنحة ماليّة لمتابعة تعليمه في جامعة كامبريدج. أنهى اللّقب الثّاني بامتياز سنة 1905، وكان أوّل طالب جامعيّ في التّاريخ يحصل على الامتياز في الرّياضيّات من الجامعة وهو ما زال في السّنة الثّانية من تعليمه.
اِنشغل في الأبحاث الفيزيائيّة بعد حصوله على اللّقب الثّاني وركّز على الانبعاث الحراريّ - اِنبعاث الجسيمات من قطب كهربائيّ (إلكترود) حارّ، النّاجم عن الطّاقة الحراريّة. تحوّل بعد ذلك بوقت قصير للعمل كمساعد كبير للفلكيّ الملكيّ البريطانيّ في غرينتش بعد أن شغرت الوظيفة. اِنتقل إدينغتون إلى مرصد النّجوم القائم جنب لندن وأجرى بحثًا شخصيًّا خاصًّا، إلى جانب عمله في المؤسّسة - مثل المشاهدات الّتي هدفت لحساب مقدار تشوّه الغلاف الجوّيّ وتأثيره على دقّة المِقرابات (التلسكوبات). تركّز البحث الّذي أجراه في السّنين الأولى على حركة النّجوم والكواكب، الّتي احتلّت صدارة العلوم الفلكيّة آنذاك. طوّرَ إدينغتون، بفضل براعته الرّياضيّة، أدوات إحصائيّة لبحث حركة النّجوم البعيدة، فحاز سنة 1907 على جائزة سميث المرموقة من جامعة كامبريدج تقديرًا له. تمهّدت له، في أعقاب حصوله على الجائزة، وظيفة في البحث والدّراسات الجامعيّة. قسّم إدينغتون وقته حتى سنة 1912 ما بين الجامعة وبين عمله في غرينيتش، ثمّ كرّس كلّ وقته للأكاديمية.
أصدر إدينغتون كتابه الأوّل سنة 1914، الحركات الكوكبيّة وبناء الكون. لخّص في هذا الكتاب أعماله الخاصّة، والمعلومات العلميّة المحدثة في هذا الموضوع، كما عرض فيه واحدة من صفاته الّتي لازمته طوال مسيرته: القدرة على عرض المواضيع العلميّة المعقّدة بشكل واضح، لعامّة الشّعب أيضًا.
ركّز إدينغتون سنة 1915، بعد أن نشر عددًا من المقالات الأخرى الّتي تناولت حركات الكواكب وتوزيع سرعتها، على موضوعين رئيسيّين: النّسبية العامّة والمبنى الدّاخلي للكواكب. تصدّر إدينغتون الأبحاث والدّراسات في كليهما، على الرّغم من أنّهما ليسا مترابطَيْن ترابطًا مباشرًا.
صبّ اهتمامه على موضوعين رئيسيّين: النّسبيّة العامّة والمبنى الدّاخليّ للكواكب. آرثر إدينغتون | ويكيميديا, Smithsonian Institution Libraries
اِنحناء الضّوء
أطلق ألبرت أينشتاين سنة 1915 النّظريّة النّسبيّة العامّة مُحدِثًا بذلك أحد أكبر الانقلابات في عالم الفيزياء. ربط أينشتاين ما بين المكان والزّمان، بعد أن وضّح في النّسبية الخاصّة أنّهما مَرِنان، واصفًا الكون كيانًا واحدًا سمّاه الزّمكان. قوّة جاذبيّة الجسم، وفقًا للنّظريّة النّسبيّة العامّة، هي عبارة عن تشوّه الزّمكان، التّشوّه الّذي ينجم عن كتلة الجسم. تزداد قوّة جاذبيّة الجسم مع ازدياد كتلته، ويزيد التّشوّه في الزّمكان النّاجم عن ذلك. شكّك جمهور العلماء في هذه النّظريّة الانقلابيّة، على الرّغم من أنّ أحد تطبيقاتها الفوريّة تمثّلَ في حلّ لغز غامض شغل علماء الفلك مدّة طويلة، والّذي يتطرّق إلى مسار كوكب عطارد (ميركيوري) الّذي هو منحرف في الواقع عن المسار الّذي تنبّأت به الفيزياء النّيوتنيّة. أدرك أينشتاين أنّه يجب إيجاد دليل أقوى ليقنع به العالم، وكانت لديه فكرة لكيفيّة فعل ذلك في مرحلة مُبَكّرة.
إدينغتون هو أوّل عالِم يعرض النّسبيّة العامّة لجمهور العلماء في بريطانيا. دارت رحى الحرب العالميّة الأولى في تلك الفترة، ونُشرت مقالات أينشتاين في ألمانيا، عدوّة بريطانيا. اِعتمد إدينغتون على المقالات الّتي نشرها عالِم هولنديّ، وأصدر مقالات باللّغة الإنجليزية شرح فيها ما تعنيه النّظريّة النّسبيّة، وسرعان ما أخذ يقدّم الاقتراحات والتّفاسير لِجوانبها الفلكيّة. أحد آثار ما تعنيه النّظريّة النّسبيّة هو أنّ بوسع الأجسام ذات قوّة الجاذبيّة الشّديدة التّسبّب في انحناء الشُّعاعات الضّوئيّة أيضًا، ممّا يجعل هذه الشُّعاعات تسير بشكل قوس وليس بخطّ مستقيم. ينحني الضّوء الّذي يمرّ بجانب الشّمس، لأنّها جرم كتلته كبيرة وقوّة جاذبيّته عالية، ما يجعلنا نرى موقع تواجد نجومٍ معيّنة مختلفًا قليلًا عن المعتاد، أقرب إلى حافّة الشّمس. لا يمكن توثيق مواقع النّجوم القريبة من الشّمس إلّا عند حدوث كسوف كامل للشّمس، عندما يحجب القمر سطح الشّمس حجبًا كاملًا، علمًا أنّه يتعذّر علينا توثيق مواقع هذه النّجوم بسبب شدّة الضّوء الصّادر من الشّمس المكشوفة.
اِنطلقت بعثة تصوير كسوف الشمس سنة 1919، مزوَّدةً بعتاد قليل الإتقان (تقنيّته ضعيفة) وألواح تصوير زجاجيّة. يظهر في الصّورة قسم من العتاد الّذي استخدمته البعثة | ويكيميديا, C. Davidson
نظّم أينشتاين بعثةً لِتصوير كسوف الشّمس الكامل في شبه جزيرة القرم في شهر آب / أغسطس سنة 1914، إلّا أنّ اندلاع الحرب أعاق وصول الطّاقم الألمانيّ إلى الإقليم الواقع تحت سيطرة روسيا. عُيّن إدينغتون رئيسَ بعثة تصوير كسوف الشّمس في شهر أيّار/ مايو سنة 1919 الّذي شوهد في البرازيل وغرب أفريقيا. أنقذ هذا التّعيين إدينغتون من العقاب على رفضه الخدمة في الجيش لأسباب ضميريّة ناجمة عمّا آمنت به جمعيّة الأصدقاء الدّينيّة (الكويكرز) الّتي كان عضوًا فيها، فقد أقنع الفلكيّ الملكيّ فرانك دايسون (Dyson) الحكومة أنّ مهمّته العلميّة ستعود بالفائدة على بريطانيا أكثر من خدمته في ساحة القتال. اِنطلقت البعثة أخيرًا، بعد الاستعدادات المتواصلة وبعد أن، ولحسن الحظّ، وضعت الحرب أوزارها ، مجهّزة بعتاد يفتقر للتّقنيّة وألواح تصوير مصنوعة من الزّجاج، في محاولة لتصوير أكبر عدد من الصّور خلال حدوث الكسوف. تموضع إدينغتون وطاقمه في جزيرة برينسيبي، وحاول الطّاقم الثّاني، برئاسة دايسون تصوير الكسوف في البرازيل. نجحت الطّواقم في التقاط بعض الصّور من بين الغيوم، في يوم الكسوف الّذي كان غائمًا وماطرًا. اِفتقرت بعض الصّور للوضوح، وتشوّهت لوحات التّصوير في البعض الآخر. نجح الباحثون، على الرّغم من ذلك وبعد أن عادوا إلى إنجلترا، في قياس الانحراف في موضع النّجوم بالمقارنة مع صور المنطقة ذاتها من السّماء عندما افتُقدت الشّمس منها. اِستنتج الباحثون صحّة تنبّؤات أينشتاين، وأنّ جاذبيّة الشّمس أدّت إلى انحناء الضّوء بمقدار 1.75 ثانية قوسيّة.
نجح الباحثون، بعد أن عادوا إلى إنجلترا، في قياس الانحراف في موضع النجوم بالمقارنة مع صور المنطقة ذاتها من السماء عندما افتُقدت الشمس منها. إحدى صور كسوف الشمس | European Southern Observatory
كان نشر هذه النّتائج في شهر تشرين الثّاني / نوفمبر سنة 1919 بمثابة أوّل مصادقة هامّة على النّظريّة النّسبيّة العامّة، كما حمل معه مدلولات فلكيّة ستتّضح لاحقًا، مثل حقيقة وجود الثّقوب السّوداء. واصل إدنغتون إصدار المقالات الّتي تناولت النّسبيّة العامّة ومدلولاتها، وأَتْبعها بمقالات مكمّلة. أصدر سنة 1920 كتاب "المكان والزّمان والجاذبيّة" الّذي تناول فيه مبادئ النّسبيّة العامّة، ولخّص ما هو معلوم عنها في كتاب "رياضيّات النّسبيّة العامّة" الّذي نُشر سنة 1923، والّذي أثنى عليه أينشتاين قائلًا: "إنّه أفضل عرض للموضوع، مهما كانت لغة العرض".
نشر إدينغتون تلخيصًا آخر في قصيدة قصيرة بأسلوب رباعيّات عمر الخيّام:
جَوْف النّجوم
أخذ إدينغتون يتعمّق في دراسة البنية الدّاخليّة للنّجوم، جنبًا إلى جنب مع انشغاله باِلنّسبيّة العامّة. توصّل العلماء في مطلع القرن العشرين إلى أنّ العامل الرّئيس المسؤول عن انتقال الحرارة والضّوء إلى الطّبقات الخارجيّة للكواكب هو الإشعاع الحراريّ، وليس الحمل الحراريّ كما سادَ الاعتقاد حتّى ذلك الحين. أدرك إدينغتون أنّه يمكن اعتبار النّجوم، من النّاحية الفيزيائيّة، كتلًا هائلة من الغاز تعمل الجاذبيّة على بقائها مجتمعة معًا.
أدّى ذلك الى شقّ الطّريق نحو تغيير ملحوظ في فهم بنية النّجوم وتطوّرها. طرح إدينغتون، من خلال مقالة رائدة عن بنية النّجوم، إمكانيّة أن يكون مصدر طاقة النّجوم هو عمليّة تحوُّل المادّة الى طاقة وفق معادلة أينشتاين الشّهيرة: E=mc2. كما طرح إدينغتون فكرة أنّ النّجوم مكوّنة من الهيدروجين بشكل رئيس، وأنّ ذرّات الهيدروجين تشكّل وقود هذه العمليّات، واتّضحت صحّة ذلك لاحقًا. هذا الاكتشاف مثير جدًّا نظرًا لأنّ العمليّات النّوويّة، مثل التّفجير والانصهار النّويَّيْن، لم تُكتشَف بعد. أدّت أبحاث ودراسات إدينغتون به إلى اقتراح نموذج يربط بين كتلة النّجم وبين درجة سطوعه - يبانُ النّجم أكثر سطوعًا كلّما زادت كتلته، حيث تنبعث منه كمّيّة أكبر من الضّوء.
جمع إدينغتون هذه المرّة أيضًا، كما فعل في المجالات الأخرى، المعلومات المتوفّرة في هذا المجال، من أعماله الخاصّة وأعمال غيره من الباحثين، في كتاب شامل مُلخِّص حول الموضوع. صدر كتاب "البناء الدّاخليّ للكواكب" سنة 1926، وسرعان ما أصبح واحدًا من الكتب الأساسيّة في هذا المجال، ونشأت عليه أجيال من علماء الفيزياء الفلكيّة.
بذل إدينغتون جهودًا جبّارة في محاولاته لِتطوير نظريّة فيزيائيّة توحّد النّظرية الكموميّة، والنّظريّة النّسبيّة، وعلوم النّجوم والكواكب، والجاذبيّة. اِعتمد توجّهه في هذا الشّأن على الرّياضيّات، بالاستناد إلى افتراض وجود ثوابت معيّنة لها أهمّيّتها في عدّة مجالات. لم تثمر جهوده في هذا المجال، وانضمّ بذلك لغيره من العلماء المرموقين، وأينشتاين على رأسهم، الّذين لم ينجحوا في إيجاد نظريّة موحّدة تجمع سائر النّظريّات تحت سقف واحد.
أثّرت الكتب التي ألّفها إدينغتون كثيرًا على معاصريه، ومنهم علماء مرموقون. ثلاثة من كتبه.
طبيعة العالَم
تداول إدينغتون فلسفة العلوم أيضًا. تناول في كتاب "فيزياء العالم الطّبيعيّ" الّذي صدر سنة 1928 مواضيع فيزيائيّة إلى جانب مسائل أخرى مثل ماهيّة الوعي، والطّريقة الّتي نرى بها العالم ونستكشفُه. كان لهذا الكتاب أيضًا تأثير كبير. كان من بين من قرؤوا الكتاب آلن تورينغ (Turing) وهو ما زال طالبًا في الثّانويّة، وأصبح لاحقًا رائد علوم الحاسوب. عندما طلبت منه عائلة صديقه، الّذي توفّي وهو ما زال في شبابه، أن يقترح عليها كتابًا يُمنح للفائزين في منحة على اسم ابنهم المتوفَّى، اختارَ تورينغ كتاب إدينغتون. أصدر إدينغتون في سنوات الثّلاثين من القرن العشرين كتابين آخرَيْن في فلسفة العلوم.
حاز إدينغتون على وسام الفروسيّة سنة 1930، فأُضيفت لاسمه مقدّمة السِّير - السيّد (السّير إدينغتون). أُضيف هذا الشّرف لمجموعة من الجوائز والأوسمة الّتي مُنحت له، من ضمنها عضويّته في أكاديميّة العلوم الأمريكيّة، والميدالية الذّهبيّة من الجمعيّة الملكيّة البريطانيّة للعلوم الفلكيّة، وميدالية أخرى من أكاديميّة العلوم البريطانيّة، وغيرها.
توفّي إدينغتون من مرض السّرطان في الثّاني والعشرين من تشرين الثّاني / نوفمبر سنة 1944 وهو ما زال صغيرًا نسبيًّا، بضعة أسابيع قبل ذكرى ميلاده الثّاني والسّتّين. لم يتزوّج ولم ينجب الأبناء. أُحرق جثمانه، تلبية لرغبته، ووري رماده في قبر أمّه في كيمبريدج. تمَّ تكريمه بعد وفاته أيضًا، من ضمن ذلك تسمية جرن على القمر على اسمه، ويحمل أحد الكويكبات اسمه، وأنفقت الجمعية الملكيّة البريطانيّة جائزةً على اسمه، وغيرها. اِسمه اليوم غير معروف، للأسف، كما عُرف في الماضي، وهو يُذكر خاصّةً بفضل الصّورة التي مثّلت انحناء الضّوء استنادًا إلى تنبّؤات أينشتاين. يخيّم هذا الإنجاز قليلًا على إسهاماته في الفيزياء الفلكيّة، الّتي تستحقّ أن يذكرها العلم دائمًا.