ذكرى ميلاد روزالين يالو ال 99، الّتي طوّرت طريقة لتمييز كمّيّة صغيرة من المواد البيولوجيّة في الدّم، وهي ثاني امرأة تفوز بجائزة نوبل في الطّبّ
"هي امرأة، يهوديّة ومن نيويورك". هذا ما كتبته جامعة بيردو (Purdue) في إنديانا للباحث النيويوركيّ الّذي أوصى بطالبته روزالين يالو (Yalow) للحصول على منحة دراسيّة للّقب الثّاني هناك. كانت روزالين أوّل من أنهى دراسة اللّقب الأوّل في الفيزياء في كليّة هانتر للنّساء، فأنهته بامتياز في جيل 19 فقط، ليس ذلك فقط: عام 1938، كان تعليم الفيزياء في الولايات المتّحدة بعيدًا عن مجالات معظم النّساء، فكم بالحريّ إذا كان الحديث يدور حول ألقاب متقدّمة. بدلاً من حصولها على منحة تعليميّة لدراسة اللّقب الثّاني في الفيزياء، تعيّنت سكرتيرة في كليّة الطّبّ في جامعة كولومبيا، على أن تتعلّم الكتابة الاختزاليّة مسبقًا. وقد وُعدت أنّه إذا أتقنت عملها، قد تتعلّم في بعض المساقات في كليّة الطّبّ. هذا الدّمج بين إصرارها ومثابرتها، وبين الفيزياء والطّبّ، أدّى إلى إحداث ثورة حقيقيّة في عالم الطّبّ؛ ممّا جعلها ثاني امرأة في التّاريخ تحصل على جائزة نوبل في الطّبّ.
عالِمة باهرة كانت من الممكن أن تبقى سكرتيرة. روزالين يالو في المختبر | المصدر: NATIONAL LIBRARY OF MEDICINE / SCIENCE PHOTO LIBRARY
جيّد جدًّا وما فوق
وُلدت روزالين سوسمان في حيّ برونكس في نيويورك، في تاريخ 19/7/1921، هي الابنة الثّانية لأسرة يهوديّة مهجّرة. كان والدها تاجرًا لمواد التّعبئة ووالدتها ربّة منزل. لم يلتحق كلاهما بالتّعليم بسبب الوضع الماديّ لعائلتيهما، وكانا عازمين على توفير جميع الفرص التّعليميّة لروزالين وشقيقها ألكسندر.
من ناحيتها، قرّرت روزالين أن تستغلّ هذه الفرص. فقد تمكّنت من القراءة قبل دخولها روضة الأطفال، وعزمت على أن تصبح عالِمة من صغرها. اعتقدت في البداية أنّه ستكون في عالم الرّياضيّات، وسرعان ما تحوّل ذلك في المرحلة الثّانويّة حيث أُغرمت في عالم الكيمياء بفضل مدرّسها الباهر. أمّا في الكليّة، الّتي قُبلت فيها بفضل منحة تفوّق، تحوّل تركيزها على الفيزياء - بفضل المحاضرين ذوي كاريزما عالية، وبعد قراءة السّيرة الذّاتيّة للعالِمة الرّائدة ماري كوري. وعند إنهاء دراستها مباشرةً، أُبهرت بمحاضرة الفيزيائيّ إنريكو فيرمي في نيويورك حول المجال الجديد للانشطار النّوويّ.
أرادت سوسمان دراسة الفيزياء النّوويّة أكثر من أيّ شيء آخر، لكنّها لم تتمكّن من الحصول على منحة دراسيّة أو منصب تعليميّ يسمح لها بذلك. كما ولم تساعدها رسائل التّوصية المميّزة من محاضريها، فقضت أيّامها في طباعة المكاتيب وصدّ توسّلات والديها بالتّخلّي عن حلمها في مجال العلوم والحصول على وظيفة واعدة كمدرّسة في المدرسة الابتدائيّة. في النّهاية، ما لم تحقّقه رسائل التّوصية تحقّق على يد النّازيّين واليابانيّين. حتّى قبل الانضمام الرّسميّ للولايات المتّحدة للحرب العالميّة الثّانية، بدأ العديد من الشّباب في التّجنّد للخدمة العسكريّة، ممّا أدّى إلى نقص في الطّاقم الأكاديميّ الشّابّ. في منتصف عام 1941، دُعيت سوسمان لتكون طالبة بحث في كليّة الهندسة في جامعة إلينوي - أكثر جامعة مرموقة توجّهت إليها - وعُرض عليها تمويل دراستها من خلال عملها كمدرّس مساعد في الفيزياء.
اكتشفت في أوّل يوم لها في إلينوي أنّها المرأة الوحيدة من بين 400 محاضر ومدرّس مساعد في الكلّيّة. واكتشفت أيضًا أنّه ينبغي عليها كامرأة أن تجتهد أكثر لإثبات قدراتها. عندما حصلت على علامة "جيّد جدًّا" (-A) في مساق المختبر، أخبرها رئيس قسم الفيزياء أنّ هذا دليلًا على أنّ النّساء غير مناسبات للعمل في المختبر.
في اليوم الأوّل التقت أيضًا بأهارون يالو (Yalow)، الّذي بدأ هو أيضًا دراسته للدكتوراة في الفيزياء، ويشاركها أنّه كان من عائلة يهوديّة متديّنة. أنهوا اللّقب الثّاني معًا، والتحقوا بدراسة الدّكتوراة، وعند إتمامهما الدّراسة عام 1945 كانوا قد تزوّجوا. عندما عادوا إلى نيويورك، عمل أهارون كباحث في مجال الفيزياء الطّبّيّة، بينما عملت روزالين في مختبر أبحاث تابع لشركة اتّصالات. ثم بدأت التّدريس بدوام كامل في كليّة هانتر، الّتي درست فيها اللّقب الأوّل.
حبّ بين عالمَيْ فيزياء كلاهما من عائلات متديّنة. روزالين وأهارون يالو في شبابهما. المصدر: nobelprize.org, Courtesy of Benjamin Yalow
شراكةٌ طويلة
على الرّغم من أنّها كانت تعمل في التّدريس بدوام كامل، كانت يالو تبحث عن فرصة للانخراط في عالم الأبحاث. ومن خلال معارف زوجها وصلت إلى مستشفى عسكريّ في برونكس، حيث أقامت في حينها مختبرًا لدراسة الاستعمالات الطّبّيّة للنّظائر المشعّة. بدأت العمل هناك كمستشارة بدوام جزئيّ، وبعد ثلاث سنوات، في عام 1950، قرّرت التّخلّي عن مهنة التّدريس وتكريس كلّ وقتها للأبحاث.
في نفس العام انضمّ د. سولومون بيرسون (Berson) إلى قسم النّظائر، بعد إنهاء تخصّصه في الطّبّ الباطنيّ، وتكوّنت علاقة مهنيّة فوريّة بينهما. في الحقيقة، كانت تنتظره وظيفة مضمونة في مكان آخر، لكنّه التقى بيالو من باب اللّطف، وبعد ساعة من اللّقاء بيّن كلّ منهما رغبته في العمل مع الآخر، فباشرا بعمل تعاونيّ وثيق استمرّ لمدّة 22 عامًا.
تناولت أبحاثهم الأولى موضوع استخدام المواد المشعّة لدراسة عمليّات امتصاص اليود، وتمييز وظائف الغدّة الدّرقيّة المختلفة. تكمن الفكرة في استخدام النّظائر المشعّة لليود لمراقبة العمليّات الّتي تحصل في الأنسجة. النّظائر هي إحدى أشكال العناصر الكيميائيّة ولها خصائص كيميائيّة متطابقة، لكن عددًا مختلفًا من النيوترونات في النّواة، ممّا يؤثّر على كتلة الذّرّة واستقرار النّواة. يؤدّي التّغيير في عدد النّيوترونات، في النّظائر المشعّة، إلى فقدان استقرار نواة الذّرّة ممّا يؤدّي إلى تفكّكها وانبعاث الأشعّة. يمكن قياس الأشعّة بمعدّات خاصّة بمستوى حساسيّة عالٍ، وبالتّالي يمكن تتبّع ذرّات اليود حتّى عندما يكون تركيزها في العيّنة منخفضًا جدًّا.
بدأوا فيما بعد باستخدام هذا الطّريقة لدراسة تركيز البروتينات المختلفة في عيّنات الدّم، و"تمييز" البروتين المطلوب بواسطة استخدام النّظائر المشعّة. الخطوة المنطقيّة التّالية هي محاولة تتبّع تركيز البروتينات الأصغر والمهمّة للغاية - ألا وهي الهورمونات. وهي مواد تفرزها الغدد إلى مجرى الدّم ولها تأثير على الفعاليّات الفسيولوجيّة. بعض الهورمونات هي بروتينات صغيرة، وقد سعى الثّنائي يالو وبيرسون لوضع "علامة" على هذه الهورمونات بواسطة النّظائر المشعّة ومتابعة مناطق تواجد الهورمونات في الجسم، على سبيل المثال لفحص هل ومتى أفرزت هورمونات في البول.
علاقة فوريّة وتعاون طال سنين. يالو وسولومون بيرسون في مختبر الأبحاث | تصوير: U.S. Department of Veterans Affairs
مستضدات وانقلاب
في أوائل سنوات ال 50، كان الإنسولين أكثر الهرمونات شيوعًا وتوفّرًا للأبحاث. الّذي يُفرَز من خلايا بيتا في البنكرياس، ويؤثّر على تنظيم السّكّر في الدّم. لدى مرضى السّكّري، لا ينتج البنكرياس كميّة كافية من الإنسولين (داء السّكّري من النّوع 1) أو خلايا الجسم لا تستجيب بشكل كافٍ للإنسولين المفرَز (داء السّكّري من النّوع 2)، لذلك يحتاج المرضى إلى تلقّي إنسولين مضافًا من خلال الحقن.
ربط يالو وبيرسون ذرّات اليود المشعّ للإنسولين المحقون ليتمكّنوا من مراقبته في الجسم. ووجدوا أنّه لدى المرضى الّذين تلقّوا أوّل حقنة من الإنسولين، تخلّصوا من الهورمون خارج الجسم بسرعة نسبيًّا، أمّا في العلاجات التّالية يمكث الإنسولين في الجسم لفترة أطول. بما أنّه كان الإنسولين آنذاك مستخلص من البقرة، استنتج الباحثون أنّ أجسام المرضى تنتج أجسامًا مضادّة للأنسولين. يجري الهورمون المرتبط بالجسم المضادّ ببطء في الدّم، ولهذا يمكث لفترة أطول في الجسم.
أحدث هذا الاكتشاف انقلابًا، فحتّى ذلك الحين لم تُطرح فكرة أنّ جهاز المناعة قادر على إنتاج لأجسام مضادّة ضدّ البروتينات الصغيرة كالإنسولين. حتّى أنّ ثنائي الباحثين طولبوا بحذف ادّعائهم حول الأجسام المضادّة من مقالهم الأوّل عن الموضوع. بالمقابل، أثبتوا لاحقًا أنّها كانت فعلًا أجسامًا مضادّة.
هذا الاكتشاف الخارق لم يكن سوى المرحلة الأولى. أدرك الباحثان فيما بعد أنّه إذا كان بيديهما أجسام مضادّة للإنسولين وأداة قياس ذات حساسيّة عالية، فيمكنهم تطوير طريقة لتحديد كميّة الإنسولين في العيّنة. من خلال الطّريقة الّتي طورّوها في عام 1959، يمكن وضع الأجسام المضادّة للأنسولين على شريحة، ومن ثمّ إضافة كميّة معروفة من الإنسولين المرتبط بالنّظائر المشعّة، الّذي يرتبط بالأجسام المضادّة. بعد ذلك تضاف قطرة من عيّنة الدّم الّتي تحتوي على الإنسولين غير المربوط بالنّظائر المشعّة. يرتبط الإنسولين "البارد" بالأجسام المضادّة بشدّة أكبر، ويتنافس مع الإنسولين المشعّ على الأجسام المضادّة ويفكّكه رباطه معها. عندما تبلغ المنظومة حالة اتّزان، يتمّ غسل الشّريحة ويبقى عليها الإنسولين المرتبط بالأجسام المضادّة المثبّتة. يتمّ قياس مستوى الأشعّة، وهكذا يمكن حساب كميّة المادّة المشعّة الّتي تمّ التّخلّص منها وغسلها وكمّيّة الإنسولين في العيّنة.
في شهر أيّار 1960، عرضت يالو هذه الطّريقة في مؤتمر علميّ مهمّ في أتلانتيك سيتي، وبعد أسابيع قليلة نشرت أوّل مقال لها عن هذه الطّريقة الخارقة، والّتي مكّنت لأوّل مرّة قياس مستويات الإنسولين في الدّم بدقّة، تشخيص المرضى بشكل أفضل وملاءمة العلاج الأمثل لهم. كما كان لدى ليالو دوافع شخصيّة من وراء البحث، إذ أنّ زوجها أهارون كان مصابًا بالسّكّري. سمّيت طريقة القياس هذه، الّتي تستخدم النّظائر المشعّة ومكوّنات من جهاز المناعة (الأجسام المضادّة) ب RadioImmunoAssay أو RIA للاختصار.
الطّريقة الّتي فتحت آفاقًا جديدة في عالم الطّبّ والأبحاث. يالو في المختبر | المصدر: U.S. Department of Veterans Affairs
تعاون في العلوم
سرعان ما أدّى النّجاح في استخدام RIA لتحديد تركيز الإنسولين في الدّم إلى استخدام هذه الطّريقة لفحص تركيز الموادّ الأخرى، والّتي كان شبه مستحيل قياسها في تركيز منخفض، مثل الهورمونات غير المكوّنة من بروتين، الفيتامينات وحتّى الفيروسات. قاد يالو وبيرسون الأبحاث لاستخدام الطّريقة المبتكرة للكشف عن فيتامين B12 وفيروسات التهاب الكبد (Hepatitis B) والعديد من المواد الأخرى. في كثير من الحالات، تنازلوا عن وعز براءة الاختراع لأنفسهم ليرفعوا من شأن طلّابهم. كما أنّهم رفضوا مرارًا تسجيل براءة اختراع على الطّريقة، على الرّغم من إمكاناتها الاقتصاديّة الهائلة، حتّى يمكّنوا الجميع من استخدامها.
اعتبر ال RIA لسنوات عديدة حدثًا مهمًّا في الطّبّ والأبحاث الطّبّيّة. مهّدت إمكانيّة الكشف عن فيروسات التهاب الكبد B في عيّنات الدّم الطّريق لإجراء فحص منهجيّ لوجبات الدّم المتبرَّع بها لمنع انتقال هذا الفيروس الخطير إلى متلقّي وجبة الدّم.
مع الوقت طُوّرت طرق أحدث وأكثر تركيبًا، وفي كثير من الحالات أكثر أمانًا، لا تتطلّب العمل مع الموادّ المشعّة. ومع ذلك، حتىّ بعد 60 عامًا من تطويرها، ما زالت ال RIA مستخدمة في بعض الأحيان، ولا تزال القواعد الّتي حدّدها يالو وبيرسون تُستخدم لغرض البحث والتّشخيص الطّبّيّ.
رفضت تسجيل براءة اختراع باسمها. يالو مع ميدالية جائزة نوبل بجانب تمثال ألفريد نوبل | المصدر: EMILIO SEGRE VISUAL ARCHIVES / AMERICAN INSTITUTE OF PHYSICS / SCIENCE PHOTO LIBRARY
فراق مفاجئ
في عام 1968، حصل بيرسون على وظيفة مرموقة كبروفيسور في "مستشفى جبل سيناء" التّابع للجامعة في نيويورك. إلّا أنّه استمرّ بتعاونه الوثيق مع يالو، لكنّ عملهم المشترك توقّف في عام 1972 عندما أُصيب بيرسون بنوبة قلبيّة حادّة وتوفّي في خضم مؤتمر علميّ. تكريمًا لذكراه، قامت يالو بتسمية مختبرها بالمستشفى العسكريّ باسمه، تخليدًا لاسمه في مقالاتها.
في عام 1977، حازت يالو على جائزة نوبل في الطّبّ لتطوير ال RIA، وهي جائزة استحقّها بيرسون أيضًا، ولكنّها لا تُمنح بعد الموت. تشارك يالو باحثان آخران بالجائزة، هما روجيه غيلمان (Guillemin) وأندرو شالي (Schally)، اللّذان اكتشفا عمليّة إنتاج الهورمونات البروتينيّة في الدّماغ. كانت يالو ثاني امرأة تُمنح جائزة نوبل في الطّبّ، بعد 30 عامًا من غيرتي كوري (Cori).
قبلها بعامٍ، كانت يالو أوّل امرأة تحصل على جائزة لاسكر المرموقة للأبحاث الطّبّيّة. في عام 1988، حازت على ميدالية العلوم الوطنيّة من الرّئيس الأمريكيّ رونالد ريغان. واصلت يالو العمل في نفس المستشفى في حي برونكس إلى أن تقاعدت في عام 1991. بعد ذلك بعام، توفّي زوجها أهارون، أمّا هي فقد عاشت عمرًا طويلًا حتّى عام 2011 ، وتوفّيت قبل بضعة أسابيع من عيد ميلادها ال 90.
خلال حياتها المهنيّة، شعرت يالو بالفجوة بين كونها باحثة ناجحة ورائدة، غالبًا كإمرأة وحيدة في مجالات سيطر عليها الرّجال، وبين رغبتها في أن تلعب دور الزّوجة والأمّ في عائلة محافظة. حاولت الابتعاد عن المنظّمات النّسويّة، إلّا أنّ بعد تقاعدها شرعت في جولة محاضرات تهدف إلى تشجيع النّساء والفتيات على دراسة العلوم، وقد شاركتهم بالصّعوبات الّتي واجهتها، والّتي أرغمتها على أن تصبح أحيانًا عدوانيّة ولا تقبل بالتّنازلات، وقالت أنّ المرأة بحاجة أن تكون حازمة أكثر من الرّجل لكي تنجح. "إنّ الاختلاف الوحيد بين الرّجال والنّساء في مجال العلوم هو أنّ النّساء يلدن أطفالًا" على حدّ قولها. "هذا الأمر قد يُصعب عليهنّ الطّريق ولكن من غير المفروض أن يعيقها. إنّه مجرّد تحدٍّ آخر يجب مواجهته".
محاضرة روزالين يالو عن الRadioImmunoAssay في سنة 1978 (بالإنجليزيّة):