לא מפורסם

احتفل الممرِّضون والممرِّضات في أيّار الماضي بيومهم العالميّ، الذي توافَق مع الذكرى السنويّة لولادة الممرِّضة البريطانيِّة فلورنس نايتينجيل التي أسهمت في التغيير الجذريّ لعلاج المرضى والجرحى خلال حرب القرم في منتصف القرن التاسع عشر.

في سنة 1853م، ولأوّل مرّة في التاريخ، أرسلت صحيفة تايمز اللندنيّة مراسلين عسكريّين لتغطية حرب القرم بين روسيا والإمبراطوريّة العثمانيّة، بريطانيا، فرنسا وسردينيا. يُقال إنَّ الحرب اندلعت عقب التوتّرات بين تيّارات مسيحيّة مختلفة في مجمع كنيسة القيامة في القدس، ولكن في الواقع، وعلى المستوى السياسيّ، كان تفكّك الإمبراطوريّة العثمانيّة هو الذي دفع الأطراف إلى القتال، سعيًا للاقتطاع من أراضيها. كشفت التقارير الواردة من مناطق الحرب، القرّاء البريطانيّين على أهوال الحرب في وقتها الفعليّ، وصدمت المجتمع بشدّة، وأثارت نقدًا اجتماعيًّا شاعَ في جميع أنحاء المملكة.

שדה קרב במלחמת קרים, האיור פורסם בפריז ב-1857 | Marzolino, Shutterstock
ساحة المعركة في حرب القرم، تمّ نشر الرسم التوضيحيّ في باريس سنة 1857م| Marzolino, Shutterstoc
 

أمراض، تلوّث وموت

كانت حالة القوات البريطانية سيّئة للغاية. إلى جانب ظروف الصرف الصحّيّ في المعسكرات والعيادات العسكريّة السّيئة، لدرجة أنَّ عدد الموتى من بين الجنود كان أربعة أضعاف عدد الذين قتلوا أثناء المعارك أو ماتوا متأثّرين بجراحهم. وجديرٌ بالذكر، أن الحرب دارت قبل حوالي عشرين عامًا من نشرات لويس باستور وروبرت كوخ البحثيّة حول الصلة بين البكتيريا والأمراض، وقبل حوالي ثمانين عامًا من تطوير المضادّات الحيويّة.

تمّ تحميل الجنود الذين أصيبوا بالمرض، أو أصيبوا خلال المعارك في قوارب مزدحمة وقذرة، وتم نقلهم بأعداد كبيرة عبر البحر الأسود، إلى المعسكر البريطانيّ في مستشفى اسكودار القسطنطينيّة، إسطنبول في أيّامنا. لم ينجُ الكثير منهم خلال الرحلة. أولئك الذين نجوا، وصلوا إلى عيادات عسكريّة مزدحمة، ملوّثة، فيما انبعثت فيها روائح كريهة من علب البراز والبول التي لم يتمّ إخلاؤها. تلقّى المرضى تشخيصات عامّة، تمّ تصنيفها وفق حرارة "مرتفعة" أو "منخفضة". حدثت الحُمّى الشديدة أحيانًا بسبب الحُمّى النمشيّة، التي انتشرت بسهولة بين المرضى الذين رقدوا في أَسِرَّة منفصلة، كانت تبعد عن بعضها أقلّ عن نصف متر.

ربّما دفع النقد الاجتماعيّ الحادّ والرأي العامّ أو مبادرته الشخصية، وزير الحرب البريطانيّ آنذاك، سيدني هربرت، إلى تجنيد شخصيّة غير عاديّة، لتحسين ظروف الجنود وإعادة تأهيلها في الحرب. فقد أرسل رسالة عاجلة إلى ممرِّضة موهوبة اسمها فلورنس نايتنجيل.

פלורנס נייטינגייל במרכז. מתוך ספר משנת 1856| George Bernard, Science Photo Library
مستشفى اسكودار العسكريّ، القسطنطينيّة (إسطنبول)، فلورنس نايتنجيل (مركز الصورة). مأخوذة من كتاب في سنة 1856م | جورج برنارد، مكتبة الصور العلميّة
 

ممرِّضة بالفطرة

كانت فلورنس نايتنجيل، المعروفة أيضًا باسم "السيّدة حاملة المصباح" The Lady with the Lamp، ممرّضة مهنيّة، تعمل في أحد مستشفيات لندن في ذلك الوقت. ولدت سنة 1820م في مدينة فلورنسا الإيطاليّة لعائلة بريطانيّة رفيعة المستوى. بتشجيع من والدها، تلقَّت تعليمًا واسعًا، شمل دراسات في التاريخ، والفلسفة والأدب، وتفوَّقت بشكلٍ خاصّ في الرياضيّات واللغات. 

أظهرت طوال طفولتها، شغفًا بالتمريض ورعاية الضعفاء والمرضى من بين جيرانها وأقاربها، لكن عندما سعت لدراسة التمريض، واجهت معارضة شديدة من والديها، اللذيْن توقّعا أن تتزوّج شابًا ثريًّا وتكرّس حياتها لرعاية أسرتها، مثلما ينبغي للفتيات من ذوي مكانتها الاجتماعيّة.

خلال العصور الوسطى، كانت العديد من المستشفيات تابعة للكنيسة، وتعمل باعتبارها جزءًا من الأديرة. خلال فترة نايتنجيل، كان التمريض مجالًا خاصًّا بالراهبات بشكلٍ أساسيّ. مع ذلك، طفت رغبة نايتنجيل في أن تصبح ممرّضة فوق رغبتها في الالتزام بالمعايير الاجتماعيّة السائدة في عصرها. فقد رفضت عرض الزواج من الرجل الذي كان من المفترض أن تكون مهيّأة له، وخرجت لدراسة التمريض في المستشفى اللوثريّ للقسيس فليندر في مدينة كايزروارث في ألمانيا. تمكَّنت في النهاية من تجنيد عائلتها لدعمها، وفي سنة 1851م وجدت وظيفة في مجال التمريض في لندن.

بعد بضع سنوات من نشوب الحرب، وصلت أوصاف الفظائع الّتي حدثت في شبه جزيرة القرم إلى مسامع نايتنجيل. وبينما كانت رسالة سيدني هربرت تشقّ طريقها إلى نايتنجيل، أرسلت هي رسالة إلى زوجة هربرت، تطلب منها مساعدتها في الانضمام إلى الفرق الطبيّة العسكريّة في شبه جزيرة القرم. حصلت نايتنجيل على مرادها، وسرعان ما جنّدت نحو أربعين مُمرِّضة من أفضل الممرّضات من جميع أنحاء المملكة، شغلنَ مناصب جديدة في مستشفى القاعدة العسكريّة في اسكودار، في أوائل شتاء سنة 1854م.

اعتقدت فلورنس نايتنجيل أنَّ حالة العديد من المرضى ستكون أفضل، إذا تم توفير احتياجاتهم الأساسية، مثل التغذية السليمة، والتدفئة، والراحة، والأهمّ من ذلك - النّظافة. في حين أنَّ أساليب نايتنجيل المهنيّة لا تبدو في أيّامنا أكثر من منطق سليم، إلا أنهم لم يدركوا في تلك الأيّام أهمّيّة هذه الأساليب. تحت إدارة نايتنجيل، خضع الجنود الذين وصلوا إلى العيادة لعمليّة تنظيف شاملة، وأُرسلت ملابسهم الملوّثة للتعقيم، وغُسلت جروحهم بالماء وأعطوا زيًّا نظيفًا. من خلال القيام بذلك، منعت فلورنسا انتقال العدوى بين المرضى، وهو ما كان شائعًا بسبب إعادة استخدام نفس الملابس التي يرتديها المرضى الآخرون. كما أنها أمرت بإخلاء فضلات المرضى من أجنحة استشفاء المرضى، وبتركيب النوافذ في الأجنحة، وبمباعدة المسافة بين أَسِرَّة المرضى.

أنشأت فلورنس نايتنجيل مطبخًا فريدًا لصنع الحساء، والهلام، ومرقة اللحم البقريّ والحبوب للمرضى ووجبات حربيّة مغذّية للجنود الأصحّاء. وبفضل الأموال التي جمعتها من خلال صحيفة التايمز، أصلحت العديد من المخاطر الصحّيّة في المستشفى. كما أنها تعهَّدت بكتابة رسائل لأهالي الذين ماتوا والمحتضّرين والأمّيّين. وشرحت في الرسائل سبب وفاة المريض، وأرفقت معها تذكارًا. كانت نايتنجيل تسير بين أَسِرَّة المرضى في الليل، وتتمنّى لهم السلامة وهي تحمل مصباحًا، ما أكسبها لقبها المعروف.

צבע כחול מייצג מוות ממחלות מידבקות, אדום מייצג מוות מפציעה ושחור מייצג מוות מסיבות אחרות | מקור: British Library, Science Photo Library
تظهر في الرسم البيانيّ أسباب الوفيّات في الجيش البريطانيّ خلال حرب القرم في السنوات 1854-1856م الذي أنشأته فلورنس نايتنجيل. يمثّل اللون الأزرق الوفاة بسبب الأمراض المعدية، ويمثّل اللون الأحمر الوفاة جراء الإصابة ويمثّل الأسود الوفاة لأسباب أخرى | المصدر: المكتبة البريطانية، مكتبة الصور العلميّة
 

بطلة حرب في موطنها 

بعد مرور بعض الوقت في اسكودار، أصيبت نايتنجيل بمرض عُرف حينها باسم الحُمّى المالطيّة، ويسمّى اليوم بداء البروسيلات (Brucellosis)، على ما يبدو جراء شرب حليب ملوث ببكتيريا البروسيلا. اضطرت للعودة إلى إنجلترا، حيث تمّ استقبالها كبطلة حرب وثائرة في مجال الصّحّة. في غياب العلاج المناسب، عانت نايتنجيل من المرض لسنوات عديدة قضت معظمها في سريرها.

أُنشِئَت مدرسة نايتنجيل للتمريض في مستشفى سانت توماس في لندن، بواسطة الأموال التي جمعها صندوق نايتنجيل الذي أُقيمَ تكريمًا لنشاطها، وسُمِّي على اسمها، وهكذا أصبحت مهنة التمريض جديرة ومقبولة كمجال عمل للنساء.

استمرّت نايتنجيل لسنوات عديدة في توثيق انطباعاتها ورؤيتها للعالم بكلّ ما يتعلّق بالطبّ، والتمريض ورعاية المرضى. كما طوّرت نماذج إحصائيّة مركّبة، لقياس آثار العلاجات الطبّيّة المختلفة. في كتابها الشهير "ملاحظات عن التمريض: ما يمثّله، وما لا يمثّله" - "Notes on Nursing: What it is and What it is Not" - الذي نُشر في طبعات جديدة حتى عهدٍ قريب، ووضعت فيه الأسس التي تقوم عليها مهنة التمريض الحديثة. توفيت فلورنس نايتنجيل في سنة 1910م، لكنَّ إرثها وعطاءَها مستمران في التأثير والحفاظ على حياة العديد من المرضى وإنقاذهم.

 

0 تعليقات