كان لاكتشافات جورج غرين أثرٌ عميقٌ على الرّياضيات والفيزياء – وقد اكتشفها دون أن يكون قد تلقّى التّعليم حتّى في مدرسة ابتدائيّة

حساب مساحة الأشكال الهندسيّة – مثلّثات، مربّعات، دوائر وأشكال أخرى أكثر تركيبًا – كان أمرًا شاغلًا للبشرية منذ عهد اليونان القديم، إلّا أنّه ليس لجميع الأشكال نفس الدّرجة من الانتشار. بينما طوّر علماء الرّياضيات معادلات بسيطة لحساب مساحات الأشكال الأساسيّة نسبيًّا، كان هناك أشكال أخرى أكثر تعقيدًا لم تحظَ باهتمام مشابه، وبقيت مهملة طوال أجيال عديدة. ولكن لا ينبغي الاستنتاج من ذلك أنّها لم تكن مفيدة: بالإمكان استخدامها لحساب مساحات زراعيّة أو تجاريّة، لحلّ المعضلات في الهندسة والفيزياء، وطبعًا لاحتياجات رياضيّة بحتة.

منذ سنوات بعيدة، كان قد عُثرَ على حلّ تكنولوجيّ لمشكلة حساب مساحة الأشكال غير المألوفة. وذلك بواسطة جهاز يُدعى بلانيمتر – أداة ميكانيكيّة، سهلة التّشغيل نسبيًّا، وشكلها يشبه الفرجار. لاستخدامها، يجب تمرير الرّأس المدبّب فوق المحيط الخارجيّ للشّكل، فيُترجم المحيط فورًا إلى المساحة المحصورة بداخله. يربط مبدأ عمل البلانيمتر بين محيط الشكل، كيفما كان، ومساحته. إن هذا مثالٌ واضح على مبرهنة غرين - النّظرية الّتي تربط التّكامل المطبّق على محيط الشّكل، والتّكامل الّذي يحسب المساحة المحصورة ضمنه، وتسمح لنا بالاستنتاج من أحدهما عن الآخر. أمرٌ بديهيٌّ لنا أن تكون هذه النّظريّة هي واحدة من العديد من النّظريّات الرّياضيّة، ولكن للرّجل الّذي يقف وراءها قصّة حياة استثنائيّة، وإن لم يكن ذلك كافيًا، فمن المرجّح أنّه في ظروف مختلفة قليلًا لم نكن لنحظى بمعرفة أعماله على الإطلاق.


جهاز بسيط نسبيًّا يسمح بحساب مساحة الأشكال غير المألوفة. פלנימטר | Stefan Kühn, Wikimedia

ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان

تمّ تعميد بطل قصتنا، جورج غرين (Green)، في ١٤ تموز ١٧٩٣ في نوتنغهام، في إنجلترا. كان والده خبّازًا ناجحًا. بالعادة، في هذه المرحلة تنتقل القصة لوصف مسار تطوّر الباحثين المعروفين: من أطفال أذكياء إلى شباب متعلّمينّ، ثم طلّاب متفوّقين وهكذا. لكن غرين وُلد ونشأ في بيئة صعّبت عليه جدًّا الحصول على تعليم رسميّ. في تلك الفترة، كان جزءٌ قليلٌ فقط من أولاد المدينة قد حظوا بالتّعليم أصلًا في إطارٍ ما، وحتّى هؤلاء القلّة من الأولاد الّذين تعلّموا، كانوا قد أُرسلوا إلى "مدارس يوم الأحد" – وهي نوع من مدارس كنسيّة، كان يستمرّ التّعليم فيها لمدّة سنة أو سنتين على أقصى حدّ. غرين الأب، علّم أبناءه كسب قوت يومهم بأنفسهم منذ سن مبكرّة جدًّا: حيث بدأ جورج بالعمل في مجال الخبز في سنّ الخامسة. لكن اهتمامه بالحرفة اليدويّة كان قليلًا جدًّا، وأظهر بدلًا من ذلك فضولًا وذكاءً متطوّرًا.

اقتنع الأب بتسجيل ابنه بمدرسة يوم الأحد، حيث تلقّى جورج فيها التّعليم لمدّة سنة واحدة، عندما كان بعمر الثامنة. كان مدير المدرسة يدعى روبرت جوديكار (Goodacre)، وهو يعتبر في عصره النّسخة البشريّة من معهد دافيدسون اليوم: كان ميسّر علوم ومعلّمًا معروفًا، وأثّر على مسيرة غرين خلال فترة تعارفهما القصيرة تلك. مع انتهاء تعليمه في مدرسة جوديكار، عاد جورج للصّنعة العائليّة. في عام ١٨٠٧ اشترى والده قطعة أرض في سنينتون (Sneinton) القريبة من نوتنغهام، وقام ببناء طاحونة قمح عصرية فيها – والتي تطلّبت صيانةً على مدار الساعة. استمرّت طاحونة القمح بإعالة عائلة غرين، ولكن الأمر تطلّب أن يقوم الشاب جورج بالكدح في أعمال العائلة بلا توقّف، دون أن يحقّق طموحه بالحصول على تعليم رياضيّاتي.

حواليّ عام ١٨٢٣ التقى غرين بشريكة حياته، جين سميث، والّتي كان والدها يعمل مديرًا لطاحونة القمح. أنجب جورج وجين سبعة أولاد، بالرّغم من أنّهما لم يتزوّجا قط. في العام الّذي تعرّف فيه على جين، تسجّل غرين في مكتبة نوتنغهام، والتي كانت قد افتتحت قبل ذلك ببضعة أعوام. على الرّغم من أنه لم يكن يملك ما يُسمّى في وقتنا الحاضر "الدّراسات الأساسيّة"، إلّا أنّه كانت لديه رغبة قوية في دراسة الرّياضيات. إلى جانب العمل الكثير في طاحونة القمح، قام باستعارة كتب الرّياضيات من المكتبة، وأصرّ على إيلائها اهتمامه الكامل. قرأ أكثر فأكثر، أحيانًا أثناء جلوسه على سطح الطاحونة، عمّق معرفته في مختلف فروع الرّياضيات والفيزياء، وبدأ بصياغة استنتاجاته وأفكاره الخاصة وتحويلها إلى مقال. مقال بالرّياضيات وفقًا لجميع القواعد – ولكن من دون أن يكون قد حصل على تعليم في مدرسة، أو تعليم أكاديميّ رسميّ، ولا نعرف بوضوح إن كان قد رافقه مشرفٌ أو مدرِّسٌ أو محاضرٌ أو راعٍ لتطوير تعليمه الرياضيّ.

المقال، تحت عنوان "مقالة عن تطبيق التّحليل الرّياضيّ على نظريّات الكهرباء والمغناطيسيّة"، نُشر في جريدة نوتنغهام في آذار ١٨٢٨، بعد مضيّ خمس سنوات فقط من إتاحة الوصول المنظّم لغرين إلى الكتابات الرّياضيّة. تمّ تقاسم تكاليف نشر المقال بين ٥١ متبرعًا كانوا مشتركين في مكتبة نوتنغهام مثل غرين؛ نوعٌ من التّمويل الجماعيّ في نسخة القرن التّاسع عشر، إذا صحّ التعبير.


يربط بين التّكامل المطبَّق على محيط الشّكل والتّكامل الّذي يحسب المساحة المحصورة ضمنه. عرض بياني لنظريّة غرين | المصدر: ويكيميديا

من الكهرومغناطيسيّة إلى الحساب التّفاضليّ

آنذاك، اتّسمت تلك الفترة بالرّغبة العلميّة في النظريّة الكلاسيكيّة للكهرومغناطيسيّة، والّتي بدأت في التّطوّر منذ القرن الثّامن عشر. بفضل شخصيّات مثل ألساندرو فولتا (Volta)، ومايكل فاراداي (Farady)، وشارل-أوغستان دي كولوم (de Coulomb)، وجوزيف هنري (Henry)، وجورج أوم (Ohm)، وأندريه-ماري أمبير (Ampère)، تأسّست مكانة القوّة الكهربائيّة كقوّة دفع مهمّة، يجب البحث فيها واكتشاف أسرارها، من أجل تطوير استخدامها لصالح الإنسان. نعرف اليوم أسماء هؤلاء الباحثين كوحدات قياس أساسيّة في الكهرباء والمغناطيسيّة.

انضمّ إلى تلك المجموعة غرين. في ذلك المقال الأوّل الّذي كتبه، اقترح اسم "الجهد" لوصف القدرة على نقل الشّحنات الكهربائيّة من نقطة إلى أخرى، وحدّد صيغة عامّة لحساب الجهد الكهربائيّ في أيّ نظام. من أجل الحساب، تمّ استخدام التّكاملات على الأسطح والأجسام المختلفة. باختصار، تُوَسِّع التّكاملات مفهوم المجموع، وهي بمثابة أداة رياضيّة أساسيّة لحساب طول المنحنيّات والمساحات المحصورة تحتها، وكذلك لحساب الأحجام والمشتملات الأخرى. في مبرهنة غرين تمّ لأوّل مرّة وصف العلاقة بين التّكامل الخطّيّ على مسار أو منحنى، وبين التّكامل الّذي يحسب المنطقة المحصورة ضمنه. اقترح غرين استخدام هذه العلاقة بين التّكاملات من أجل حساب المجال المغناطيسيّ، الذي ينشأ حول سلكٍ يحمل تيّارًا، وهو ما يُعرف اليوم باسم قانون أمبير.

اقترح غرين أيضًا استخدام دالّة جديدة، والّتي سيُطلق عليها لاحقًا اسم دالّة غرين، كأداة لحساب الجهد وفقًا لتوزيع الشّحنات الكهربائيّة في منطقة مفتوحة. على الرّغم من أنّه اقترح طريقته كأداة محدّدة، لحلّ مشكلة معيّنة في الكهرومغناطيسيّة، ولكنّه عمليًّا قد أنشأ وعن غير قصد، أداة عالميّة لحلّ المعادلات التّفاضليّة. تُستخدم مثل هذه المعادلات في الفيزياء كأداة رسميّة لوصف العديد من العمليّات الدّيناميكيّة في الطبيعة، بدءًا من قانون نيوتن الثّاني إلى معادلة شرودنغر. لذلك، فإنّ أداة غرين القويّة جدًّا، مفيدة للغاية حتّى اليوم في حلّ مشكلات في مجالات عديدة في الفيزياء، من بينها تحليل ظاهرة الموصليّة الفائقة. وصل تأثيره واسع المدى أيضًا إلى ميكانيكا الكم، والّتي طُوِّرت بعد أجيال عديدة من زمن غرين.


مقال غرين حول تطبيقات التحليل الرياضي لنظريات الكهرباء والمغناطيسية من عام ١٨٢٨| المصدر: ويكيميديا، للعامة

دفعة خفيفة من الأصدقاء

ليس سهلًا اكتشاف العبقرية دائمًا في الوقت الّذي تحدث فيه، خاصةً إذا كان ذلك العبقريّ يعيش في مدينة نائية، ويكسب قوته من طاحونة قمح. كان معظم قرّاء مقال غرين يفتقرون إلى التّعليم الرّياضيّاتي اللّازم لمعرفة أهمّيّته – ففي النّهاية، معظمهم كانوا قرّاء من البلدة وليسوا باحثين أو علماء. فقط عالم الرياضيات السّير إدوارد برومهيد (Bromhead)، أحد المستثمرين الأصليّين فيما نشره غرين، أدرك الإمكانيّات الكامنة في الرّجل وأفكاره. لكن غرين، الّذي صدم من أن يكلّف أيّ شخص نفسه عناء التطرّق إلى عمله، تجنّب الاتصال ببرومهيد لمدّة عاميْن تقريبًا.

في هذه الأثناء، في عام ١٨٢٩ توفّي والد غرين، ووقع حينها عبء تشغيل الطاحونة كحجر رحىً على عنق جورج. وعلى الرّغم من ذلك، فقد سمح الوضع المادّيّ المستقرّ للعائلة بأن يسعى إلى طموحِه. في عام ١٨٣٠ بدأ أخيرًا بالاتّصال ببرومهيد، وقام الأخير بتشجيعه على مواصلة البحث في مجالات أخرى في الفيزياء الرّياضيّة، في مواضيع الكهرومغناطيسيّة والدّيناميكا المائيّة. يبحث كلا الموضوعين في تدفّق الموائع، ويتمّ وصفهما باستخدام هياكل هندسيّة متشابهة، لذا فهما مرتبطان ببعضهما البعض ارتباطًا وثيقًا. في إطار بحثه في الدّيناميكا المائيّة، طوّر غرين "قانون غرين"، والّذي يتعامل مع تقدّم الأمواج في المياه الضّحلة ويتمّ استخدامه في مجال علم المحيطات. قبل ذلك بعقود من الزّمن كان قد سبق ابتكارُ تقريب WKB في ميكانيكا الكم، والّذي يقوم على نفس الفكرة.

في السّنوات التّالية، نشر غرين عدة مقالات أخرى بدعم من برومهيد؛ ومنذ المقال الثالث تمّ نشر المقالات كجزء من منشورات الجمعيّة الملكيّة في إدنبرة.

في نفس الفترة تقريبًا، كان عالم الفيزياء والرّياضيات المعروف أكثر بكثير، كارل فريدريش غاوس، يعمل بشكل موازٍ لغرين وقام بنشر اكتشافات مماثلة لاكتشافاته. فيما بعد، تمّ إدراج نظريّة غرين ونظريّة غاوس تحت نفس السّقف الرّياضيّ - مبرهنة ستوكس، والّتي يعتمد عليها مجال الهندسة التّفاضليّة بالكامل.

برومهيد الذي كان يعرف جيّدًا أسس الرّياضيات والفيزياء في بريطانيا، كان صديق غرين الروحيّ وأكبر داعميه. مع ذلك، كان واضحًا أنّ غرين لم يستعجل دخول الأبواب التي فتحتها له هذه الصّداقة. في حزيران ١٨٣٣، اقترح برومهيد على غرين أن ينضمّ معه إلى ما يشبه اللقاء الدّوريّ، لكن غرين، وبتواضعه الشّديد، ردّ على النّحو التّالي: "لقد كنتَ كريمًا جدًا معي عندما ذكرت رحلتك إلى كامبريدج من أجل مقابلة أصدقائك هيرشل وباباج وغيرهما، والذين همّ بمثابة فرسان العلوم البريطانية. ولكن كوني ما زلت مبتدئًا، فأنا أعتقد أنه ليس لدي الحق في الذهاب إلى هناك، ويجب عليّ أن أؤجِّل الحصول على هذه البهجة، إلى وقت أُصبح فيه عالمًا محترمًا في أدنى حدٍ، إن كنت سأحظى بذلك." مع ذلك، فقد التقط غرين فرصةً أخرى أعطاه إياها برومهيد، وقام بعد بضعة أشهر بالتّسجل للّقب الأول في الرّياضيّات في جامعة كامبريدج. سار التعليم بسلاسة نسبيًّا من ناحيته، ولكن كانت الدّراسات الكلاسيكيّة التي رافقت الرّياضيّات، مثل الدّراسات اللاّتينيّة واليونانيّة، هي الّتي صعّبت الأمر بالنّسبة له. على أيّة حال، أنهى غرين دراسته في عام ١٨٣٧ بنجاحٍ كبير، حيث تُوِّج الرّابع على طلاب فصله الدّراسيّ.


مطحنة القمح التي كان يمتلكها والد غرين في سنينتون، اليوم ضاحية نوتنغهام | المصدر: Kev747, Wikimedia

في الخِتام

في العامين التّاليين، استمرّ في الازدهار والعمل في الأبحاث، بل أنه كتب بضع مقالات في موضوعيّ الضّوء والصّوتيّات. تمكّن من نشر عشر مقالات في حياته، وكان من المتوقّع أن يكون له مستقبلٌ مشرقٌ. في عام ١٨٤٠، بعد عام من حصوله على منحة دراسيّة وقبوله في الجمعيّة الفلسفية لكامبريدج، وقع غرين طريح الفراش وعاد إلى مواطن شبابه في سنينتون. توفّي بعد عام من ذلك، وهو بعمر السّابعة والأربعين.

من منظور تاريخيّ، من المعتاد تعريف غرين على أنه فيزيائيّ وعالم رياضيات، ولكن خلال فترة حياته لم يكن مجال الفيزياء يُعرّف كمجال معرفيّ وفكريّ منفصل، لذلك فإن هذه التعريفات مفتعلة إلى حدٍ ما. كما ذكرنا، فإن اكتشافات غرين مثّلت حلولًا لمشاكل فيزيائيّة معيّنة، لكنّها تضمّنت دائمًا ابتكارًا رياضيًّا مجرّدًا بالإمكان تطبيقه في مجالات عديدة، وفي هذا الأمر يكمن جزءٌ من عظمته.

أعظم إرثه الرّياضيّ، وهو المقال الأوّل من عام ١٨٢٨، تمّ إعادة اكتشافه من جديد في عام ١٨٤٥ بفضل ويليام طومسون (Thomson)، اللورد كلفن لاحقًا (Kelvin)، أحد أعظم علماء الفيزياء والرّياضيات في القرن التّاسع عشر؛ بفضله اكتسب عمل غرين شهرة عالميّة. في أيّامنا، لن تجد طلابًا في قسم الرياضيات أو الفيزياء لم يصادفوا نظرية غرين، وإن كان هناك كهؤلاء - فيوصَى بسدّ الفجوات في أسرع وقت ممكن.

 

0 تعليقات