70 عامًا على وفاة الطبيب والكيميائيّ فريدريك بانتنغ، الذي اكتشف كيفيّة إنتاج الأنسولين وتحويل السُّكَّريّ من مرض مُميت إلى مرض مُزمن

حصل بانتنغ على درجات تعليميّة عديدة، منها: عالم في الكيمياء الحيويّة وطبيب بشريّ، إضافةً لحيازته على وسام البطولة تقديرًا لأدائه في الحرب العالميّة الأولى - لكنّه اشتهر في الأساس بسبب اكتشافه للأنسولين وفوزه بجائزة نوبل للطبّ عام 1923. عُرِفَ بانتنغ بأنّهُ هو الشخص الذي حوَّلَ مرضًا مستعصًا إلى مرض مُزمن، وذلك بالرغم من عدم توفّر الإمكانيّات المادّيّة، أدوات عمل أو أيّ مساعدين له ولشركائه.  

ولِد فريدريك بانتنغ (Banting) في 14 تشرين الثاني 1891 في مدينة أليستون - كندا. كان الأصغر سنًا في عائلة مكوّنة من 5 أطفال. إحدى الحقائق المثيرة للدهشة، في بداياته لم يكن المسار العلميّ المهنيّ محض اهتمام عنده: دراسته الأولى كانت في مجال علوم اللاهوت، لكن على أثر فشله الذّريع في نهاية عامه التعليميّ الأوّل، انتقل إلى دراسة الدراسات الطبّيّة، متخصّصًا في جراحة العظام. 

بعد إنهاء تعليمه، وفي أوج الحرب العالميّة الأولى، انضمّ فريدريك إلى القوّات الطبّيّة الكنديّة كجرّاح عسكريّ وتمركز في فرنسا. في عام 1918 أُصيب خلال إحدى المعارك، لكنّه بالرغم من ذلك استمرّ في علاج مصاب لساعات طويلة. بعد عام من الحادثة حصل على وسام البطولة تقديرًا لأداء مهامه خلال الاشتباكات مخاطرًا بحياته. عند عودته من الحرب قرأ مقالًا عن السكّريّ، في حينه لم يُطلق عليه بعد اسم "مرض السكّريّ"، ومنذ تلك اللحظة أثار الموضوع اهتمامه. في النهاية، دفعه اهتمامه ليس فقط لاكتشاف مسبّب المرض وإنّما أيضًا لإيجاد علاج له.    

مرضان، اسم واحد

السكّريّ هو مرض، لا ينجح فيه السكّر الموجود في الدم الدخول للخلايا التي تحتاجه بهدف تنفيذ عمليّات حيويّة. لذلك تكون مستويات السكّر في دم المرضى مرتفعًا جدًا، بالمقابل مستواه في خلايا الجسم منخفضًا جدًّا ممّا يمنع وصول المواد اللازمة إليها. وكما معروف لدينا اليوم أنّ هناك مادّة تساعد في نقل السكّر من مجرى الدم إلى داخل الخلايا، وهو الأنسولين، الذي يفرزه البنكرياس، وهي غدّة موجودة في مركز البطن، خلف المعدة وبين الإثنى عشر والطحال. وظيفة البنكرياس الأخرى هي إفراز عصارات هضميّة، تُنقل للاثنى عشر بواسطة أنابيب، وظيفتها تفكيك النشويات، البروتينات والدهنيات. 

يُنتجُ الأنسولين في منطقة معيّنة في البنكرياس، تسمى جُزَيْرَات لاَنْغَرْهَانْس، وهي خلايا سُمّيت على اسم العالم الألمانيّ پاول لانگرهانس الذي اكتشفها، وعندما نظر إليها بواسطة المجهر كانت شبيهة بمبنى الجزر. تنقسم الخلايا في هذه الجزر إلى نوعين: خلايا ألفا وخلايا بيتا، الأخيرة هي التي تقوم بإنتاج هرمون الأنسولين، أمّا خلايا ألفا، فهي مسؤولة عن إنتاج هرمون الغلوكاغون الذي يقوم بدور معاكس للأنسولين، فهو يدفع إلى إفراز سكّر الجلوكوز إلى داخل مجرى الدم، ممّا يؤدّي إلى ارتفاع مستوياته في الدم. النشاط المشترك الذي يقوم فيه الانسولين والغلوكاغون يساهم في المحافظة على مستويات مستقرّة للسكّر في الدم والخلايا.  

ينقسم مرض السكّريّ إلى نمطين: سكّري النمط الأوّل - سُمي سابقًا بسكّري الأطفال، وهو مرض يعتمد على الأنسولين والذي يتميّز بضعف في إنتاج الهرمون في خلايا بيتا في البنكرياس. في هذا النمط: أو يتم إنتاج كمّيّات قليلة جدًّا من الأنسولين، أو يكون الأنسولين ذاته معطلًا وغير فعال. في المحصلة، سيكون لدينا هرمون غير قادر على نقل السكر من الدم إلى الخلايا.  

السكري النمط الثاني، وهو لا يعتمد على الأنسولين، الخلل ليس بالهرمون ذاته إنما بمستقبلات الخلايا. على سطح جميع خلايا الجسم عند الكائنات الحية هناكَ مستقبلات خاصّة، أحد وظائفها هو إدخال المواد الضرورية فقط للخليّة. لذلك، لكلّ مادّة هناك مُستقبل خاصّ لا يستجيب إلّا له. المشكلة لدى مرضى السّكّري من النمط الثاني بأنّ المستقبلات على سطح الخلايا غير قادرة على التقاط السكّر، وبالتالي على الرغم من توفّر الأنسولين، لا يمكن للسكر الدخول إلى الخلايا، ممّا يؤدي إلى بقائه في الدم.

الإجازة التي أدّت إلى الاكتشاف المثير

في بواكير القرن التاسع عشر، في وقت لم يُعرف كثير ممّا نعرفه اليوم وقبيل ظهور بانتنغ، قام العديد من الباحثين بفحص العلاقة بين البنكرياس والسكّريّ. كان معلومًا لديهم بأنّ هناكَ مادّة معيّنة موجودة في جُزَيْرَات لاَنْغَرْهَانْس لها تأثيرًا على مسار المرض، وحاولوا استخلاصها وفحص كيفيّة تأثيرها على ظهور أعراضها.

حاول بانتينج التفكير في طريقة لعزل جُزَيْرَات لاَنْغَرْهَانْس واستخلاص المواد التي تنتجها لفحصها بهدف بحثها. بحث بانتنغ عن طريقة لضبط البنكرياس ومنعه من إفراز عصارات هضميّة دون تعطيل عمله، لأجل ذلك، اقترح القيام بربط القنوات الغديّة. سعى إلى التعاون مع البروفيسور جون ماكلويد، العالم من جامعة تورنتو، والذي بحث في ذلك الوقت مرض السكّريّ وعمليّة تبادل المواد لدى مرضى السكّريّ. لم يتعامل ماكلويد مع طلب بانتينج بجدّيّة، لكن بسبب إصراره وتزامن ذلك مع موعد إجازته، وافق على طلبه وترك له مختبرًا مع حدّ أدنى من المعدّات المخبريّة، عشرة كلاب للتجارب ومساعد بحث اسمه "تشارلز بست"، والذي كان في حينها طالبًا للطبّ في الجامعة. 

على الرغم من الصعوبات والنقص الجدّيّ في الميزانيّة، الطاقم والأدوات المخبريّة المتقدّمة - نجح بانتنغ وبست في استخلاص مادّة والتي سُمّيت لاحقًا "أنسولين". نجحوا في إثبات فاعليّتها عندما حقنوها في الكلاب المصابة بالسكّريّ، ممّا تسبّب في انخفاض مستويات السكّر في دمائهم. خلال التجربة، اكتشف بانتنغ وبست أنّه من الممكن إنتاج الأنسولين من البنكرياس السليم وليس ضروريًّا الإضرار به بواسطة ربط قنواته.

نجح بانتنغ وبيست في استخلاص الأنسولين وإثبات فاعليّته دون توفّر ميزانيّة وظروف كافية بانتنغ (من اليمين) وبيست | المصدر: ويكيبيديا
نجح بانتنغ وبيست في استخلاص الأنسولين وإثبات فاعليّته دون توفّر ميزانيّة وظروف كافية بانتنغ (من اليمين) وبست | المصدر: ويكيبيديا

اكتشاف طلائعيّ 

عاد ماكلويد من عطلته وأدرك أنّه أمام اكتشاف رائد. كرّر بانتنغ وبست التجارب عدّة مرّات، وفي كلّ مرّة انتجوا الأنسولين بتراكيز مختلفة وبدرجات نقاوة متفاوتة. طلب ماكلويد ضمّ عالم الكيمياء الحيويّة جيمس كوليب إليهم، والذي ساعد في عزل الهرمون ذي القيمة الثمينة وتنقيته. بعد ستّة أسابيع من العمل نجحوا في الحصول على منتج نهائيّ يمكن تجريبه على مريض بشريّ. 

كان ليونارد طومسون ابن ال-14 عامًا أوّل متعالج لديهم، والذي كان يحتضر في حينه على إثر اصابته بمرض السكّريّ. تلقّى الحقنة الأولى لكنّه طوّرَ رد فعلٍ تحسّسيًّا. بعد 12 يومٍ من ذلك، نجح بانتنغ وطاقمه إنتاج أنسولين أكثر نقاءً، وتمّ على إثر ذلك إنقاذ الفتى.

في عام 1923، بعد عامٍ من نجاح العلاج الأول، حصل ماكلويد وبانتنغ على جائزة نوبل للطب أو علم وظائف الأعضاء (فسيولوجيا) لاكتشافهما الأنسولين وإيجاد علاج لمرض السكّريّ. أصرّ بانتنغ تقاسم الجائزة مع بست وليس مع ماكلويد، لكن في النهاية تقاسم نصف الجائزة الخاصّ به مع بست وتقاسم ماكلويد النصف الآخر مع كوليب. بعد ذلك، قام أربعتهم في تسجيل الأنسولين كبراءة اختراع لكنّهم نقلوا الأحقّيّة عليه لجامعة تورنتو، حيث استثمرت في عائدات البيع لتمويل أبحاث جديدة. تاريخ ميلاد فردريك بانتنغ والذي يصادف 14 تشرين الثاني تمّ اعتباره يوم السكّريّ العالميّ.

 

0 تعليقات