يكذبُ بنو البشر من الطّفولة حتّى الشّيخوخة. فلماذا تحظى هذه العمليّة واسعة الانتشار بمعاملة سلبيّة؟
يشكّل الخداع قيمة من قيم صراع البقاء عند الكثير من الكائنات الحيّة. فهو قد يحسّن فُرصها في العثور على شركاء، أو إنقاذها من فكيّ حيوان مفترس، أو مساعدتها في التّفوّق على منافسيها في طريقهم إلى تناول وجبة. يبدو أحيانًا أنّه حيثما وُجِدت الحياة، وُجِد الكذب. يكذب البشر أيضًا، ويستخدمون الأكاذيب لحاجاتٍ مختلفة. إن كان الأمر كذلك، فهل الكذب متأصّل فينا منذ الولادة؟
يدّعي الصحفيّ إيان ليسلي (Leslie) في كتابه "أكاذيب منذ الولادة"، أنّ الإنسانيّة ليست فقط غير قادرة على العيش في عالمٍ خالٍ من الأكاذيب، بل إنّ الخداع كان أداة مهمّة في مسيرة الإنسان. وفقًا لأقواله، فإنّ اختراع الكذب يعتمد على قاعدتين أساسيّتيْن في جوهر الإنسان: الحاجة إلى البقاء والحاجة إلى المجتمع.
الدماغ البشريّ، كأعضاءٍ أخرى في الجسم، يساعد الفرد على التّكاثر. كانت هناك أولويّة للقدرات الذهنيّة أثناء مسيرة الإنسانية لمساعدتنا على نشر جيناتنا، وتمّ التّخلّص من تلك التي وُجد أنّها غير مفيدة.
وفقًا لِلفيلسوف والباحث في الطّبيعة البشريّة ديفيد ليفينغستون سميث (Livingstone-Smith)، مؤلّف كتاب لماذا نكذب، فإنّ صّدق عمليّة التّكاثر ونجاحها لا يسيران دائمًا جنبًا إلى جنب. بما أنّ الخداع ساعدنا في صراع البقاء ونشر جيناتنا، فإنّ التّكاثر الطبيعيّ جعله جزءًا لا يتجزّأ من وجودنا. وكتب كذك: "نحن كائنات حيّة مخدوعة بسبب الثّمار التي حصدها الخداع لأسلافنا، وتلك التي ما زلنا نحصدها حتّى يومنا هذا".
تقوم الحيوانات بالخداع عن طريق الألوان، أو الخدع البصريّة أو انتحال شخصيّة. يخادع بنو البشر عن طريق الوسيلة الإنسانيّة الخاصّة لديهم وهي اللّغة. لكنّ التطوّر قادنا إلى نوعٍ من التّناقض. لقد أعطتنا وسيلة اتّصال يبدو أنّها تفتح لنا طريقًا أسهل بشكل خاصّ لعمليّة الاستغلال والتّلاعب، وفي نفس الوقت لا يسمح لنا باستخدامه بكامل إمكانيّاتنا، لأسباب أخلاقيّة أو اجتماعيّة.
من الواضح أنّ الكذب قد يؤدّي إلى خيانة الأمانة ومشاكل جديّة مع من كذبنا عليهم، لكنّنا نكذب مع كل ذلك. ما الذي يدفعنا إلى تعريض أنفسنا لاحتماليّة موقف عدم الثّقة والإساءة إلى اسمنا وسمعتنا الطيّبة التي اكتسبناها، وتعريض علاقاتنا المهنيّة والشّخصيّة للخطر؟ وبالتأكيد لو أخرجنا من النّقاش أيضًا عمليّات الاحتيال وانتحال الهويّة والجرائم، فنحن جميعًا نكذب- فالكذب ظاهرة طبيعيّة أكثر ممّا كنّا نفضّل أن نظنّ.
تشير الدّراسات إلى أنّ أسباب الكذب عديدة ومتنوّعة، ولكن يمكن تقسيمها إلى فئتين رئيستيْن: مكافأة وعقاب. نحن نكذب لتحقيق نتيجة إيجابيّة قد تفيدنا، على شكل تقدير، أو نجاح أو جائزة، أو لتفادي نتيجة سلبيّة مثل الشّعور بعدم الرّاحة والإحراج أو الضّرر بمكانتنا أو العقوبة. كما أنّ إخفاقات التّفكير تشجّعنا على الكذب. على سبيل المثال، التحيّز للحاضر، أي الميل البشريّ إلى تفضيل اليقين على المدى القصير على نتيجة أفضل في المستقبل، تستدعي اختيار الكذب وتفضيل الكسب الفوريّ الذي يمنحنا أيّاه الكذب، على المخاطرة في اكتشاف الكذب في وقت لاحق.
كان الخداع أداة حيويّة في تطوّر البشر | غلاف كتاب " أكاذيب منذ الولادة" الصادر في سنة 2011 من قِبَل Quercus
ابتعد.. أنت كاذب!
من هم الكاذبون؟ في كلمة واحدة، جميعهم.
مع أنّنا لا نكذب كلّ الوقت، لكنّنا نكذب كثيرًا- أكثر بكثير ممّا نرغب في الاعتراف به حتّى لأنفسنا. يسمح لنا الكذب أن نُبحر في مياه العالمِ الاجتماعيّ والمهنيّ العاصفة. يتمتّع الكاذبون المَهرة بثقة عاليةٍ بالنّفس، ويكسبون المزيد من المال، ويصلون إلى مكانة اجتماعيّة أعلى، بل ويتمتّعون بنجاحات أكثر مقارنةً مع الكاذبين السيئين.
نبدأ بمهارات الخداع لدينا في مرحلة الطّفولة، وقد وجدت الدّراسات أنّه في جيل ستّة أشهر يتظاهر الأطفال بالبكاء، وَيفحصون محيطهم لمعرفة ما إذا كان ذلك الأمر مُجديًا. وهكذا نبدأ في صَقل مهارة الكذب حتّى في غياب اللّغة والكلمات. وعلى مدار الأيّام نبدأ في إتقان مهارات الخداع لدينا، لدرجة أنّنا نتمكّن من خداع أنفسنا ونصدّق أكاذيبنا. نقول لأنفسنا أحيانًا إنّ هذه السّيجارة ستكون الأخيرة، وأنّنا سنبدأ غدًا في اتّباع نظام غذائيّ صحيّ، والمزيد من ذلك.
يمكن العثور على علامات المهارة العالية في الكذب حتّى عند القردة الكبرى. وَصَف الباحثون في عِلم الرئيسات ريتشارد بيرن (Byrne) وأندرو ويتن (Whiten)، حادثة على سبيل المثال شوهد فيها اثنان من حيوانات الشمبانزي الصّغار يحفران في الأرض بحثًا عن طعام قد دفناه في وقت سابق. عندما لاحظا اقتراب شمبانزي بالغ منهما، توقّفا عن الحفر، وابتعدا وحكّا رأسيهما في محاولة لإظهار السّلوك الطبيعيّ. عندما ابتعد القدر الأكبر سنًّا، عاد القردان الصّغيران إلى الحفرة وأخرجا الطّعام من المخبأ بسرعة.
في واقعة أخرى، تورّط رُبّاح (بابون) صغير في معركة مع عدّة بابونات أكبر سنًّا وهرب منهم. عندما لاحظ أنّ ملاحقيه يقتربون منه، وقف في مكانه وحدّق في الأفق باهتمام، كما لو أنّه قد لاحظ حركة مشبوهة. استنتجت البابونات أنّه لاحظ اقتراب دخيلٍ عليهم فاستداروا للنّظر في نفس الاتّجاه أيضًا. على الرّغم من عدم وجود أي عدوّ حقيقيّ هناك، إلّا أنّ القردة الكبرى شُتّتت، ونسيت أن تعاقب البابون الصّغير.
لو كان بإمكان القردة الكبرى الكلام، فهل ستستخدم هذه القدرة على الكذب؟ قامت إخصّائية النّفس التطوّري بيني باترسون في سنة 1972م ببحث علميّ على الغوريلا، للإجابة على هذا التّساؤل. أرادت باترسون إظهار أنّ للغوريلا قدرات لفظيّة مركّبة، على الرّغم من فقدانها القدرة الميكانيكيّة لإصدار أصوات الكلام، لذلك درّست كوكو رموز لغة الإشارة الأمريكيّة. في أحد الأيام، دخلت الباحثة إلى غرفة كوكو، واكتشفت أنّ الغوريلا اقتلعت مغسلتها من مكانها. عندما سألت الغوريلا من الذي اقتلع المغسلة، فألقت كوكو اللّومَ على القطّة. وهذا يعني أنّ الغوريلا كذبت عن وعي، ربما لتجنّب العقاب.
نبدأ في الكذب في سنّ الطّفولة ونطوّرها، ونطوّرها لتصبح جزءًا منّا. يخفي الرّجال والنّساء الحزينون والغاضبون مشاعرهم الحقيقيّة بمساعدة الأقنعة | GoodStudio, Shutterstock
دماغ الكاذبين
يبدو أنّ عمليّة التّطوّر توجّههنا إلى استخدام الأكاذيب، لكن، وعلى الرّغم من ذلك، فإنّ الكذب ليس بالأمر السّهل علينا. عندما نكذب، يعاني دماغنا من عبء ذهني يؤثّر في الذّاكرة العمليّة، ويبطئ زمن ردّة الفعل لدينا، كما لو كان عليه أن ينظّم نشاطًا معقّدًا للتنقّل بين المَهام، من الكذب إلى الحقيقة ومن الحقيقة للكذب. هذا العمل شاقّ بشكلٍ خاصّ عند الأطفال والمراهقين، لأن الفصّ الأمامي من دماغنا، الذي يتمثّل دوره في التّعامل مع مهام تعالج معلومات معقّدة، يصل إلى ذروته فقط في جيل 25 سنة.
تتأثّر منطقة اللّوزة الدّماغيّة كذلك بالكذب، وهي مبنى دماغيّ يُشارِك في إدراك وتقييم العواطف. يتّضح أنّه على عكس الصّعوبة التي يفرضها الكذب على آليّات التّفكير لدينا ومعالجة المعلومات على مدار الحياة، فإنّ العبء العاطفيّ الذي يسبّبه ينقص عندما يعتاد الدّماغ على الكذب. عندما نكذب، فإنّنا نشعر بمشاعر سلبيّة جراء التّوتّر، وضغط نفسي وشّعور بالذّنب. بينما عندما نكذب كثيرًا، تضعف هذه المشاعر السلبيّة وتصبح جانبيّة، حينها نطوّر نوعًا من المقاومة العاطفيّة.
يُظهر عادة الأشخاص الموجودون في مواقع السّلطة ثقة عالية بالنّفس وعواطف إيجابيّة، ومن الممكن أن يمنحهم ذلك مقاومة نفسيّة، وقدرة على الكذب بطريقة لا تسلب منهم الكثير من الموارد الذهنيّة. هنالك أدلّة عصبيّة على أنّ هؤلاء الأشخاص يحصل لديهم ارتفاع في مستوى هرمون التستوستيرون الذكريّ في قشرة الدّماغ الأماميّة، وأنّ هذه الزّيادة تدفع اللّوزة الدّماغيّة لديهم إلى عدم التّعبير عن المشاعر السلبيّة عندما يكذبون. كشفت دراسة أخرى أنّ بنية دماغ الكذّابين القهريّين تختلف عن بنية دماغ باقي الناس، وتتميّز بروابط متعدّدة بين الخلايا العصبيّة وقدرة تفكير أسرع من المتوسّط.
يبدو أنّ الأشخاص في مناصب القوّة الّذين يُظهرون ثقة كبيرة بالنّفس قادرون على الكذب بسهولة أكبر، ودون "الدّفع" بمشاعر سلبيّة. يشير الرّجل من خلف ظهره كإشارة على الكذب | ravipat, shutterstock
أكاذيب اجتماعيّة
من المتوقّع تفهّم وتقبّل هذا السّلوك الطبيعيّ والمنتشر، ولكن تقريبًا كلّ من يُسأل سيدّعي أنّ الحقيقة هي نبراسًا يهتدي به، وليس من شيءٍ يكرهه أكثر من الأكاذيب. كيف نتعايش مع هذا التّناقض؟ نحن نكذب على أنفسنا بأنّنا أناس مخلصون وصادقون.
وفقًا للينجستون سميث، فإنّ الحقيقة تتمتّع بعلاقات عامّة جيّدة بدون أساس حقيقيّ. القدرة اللّفظيّة على الكذب متاحة لنا جميعًا، لكن يُنظر إلى استخدامها بشكلٍ عام بشكل سلبيّ، ويرجع ذلك إلى أنّنا نميل إلى معاملة من تمّ ضبطه يكذب على أنّه شخص انتهازيّ، يقوم بالترويج لنفسه على حساب الآخرين. بالإضافة إلى ذلك، من الممكن أن نردّ على الكذب بطريقة عاطفيّة؛ إذ نشعر بالإهانة لمعرفة أنّه قد تمّ الكذب علينا، وبسبب عمليّة الاحتيال الّتي تعرّضنا لها، وبسبب إدراكنا أنّنا وقعنا بالفخ، وهو ما يُشعرنا بالنّقص والسّوء تجاه أنفسنا.
العقوبة الاجتماعيّة الّتي تُطبّق عادةً على الشّخص الذي يتمّ القبض عليه متلبّسًا بالكذب هي تشويه سمعته الطيّبة: يتمّ التّعامل معه على أنّه شخص لا يمكن الوثوق به، وبالتّالي قد يواجه معاملة مثل عدم الثّقة من قِبل البيئة حوله. ومع ذلك، ليست كل الأكاذيب متساوية- الأكاذيب البيضاء، أي الأكاذيب غير المؤذية التي تقال دون حقد، يميل إلى تقبّلها بفهم أكبر. زيادة على ذلك، فإنّ التّصريح بالحقيقة في بعض الحالات قد يبدو عملًا غير مهذّب- مثلًا، إخبار المضيف أنّ الطّبق الذي جهّزه بجدّ تبيّن أنّه بالكاد صالحًا للأكل. لذلك يمكن القول إنّ الأكاذيب حتميّة، في السّياقات المناسبة، ولكن عندما يتمّ استخدامها بشكلٍ مفرط وفي سياقات غير مناسبة، فإنّها تُقابل بالرّفض والإدانة الاجتماعيّة.
يمكن إجراء نقاش حول ازدواجيّة المعايير لدينا تجاه الحقيقة والكذب، لكنّ السّؤال الكبير هو ما إذا كان ممكنًا العيش بدون الكذب؟ فالكذب جزء من السّلوك البشريّ منذ الطّفولة، ومع مرور الوقت عندما نكبر ونبدأ حياتنا المهنيّة، نبدأ بتزوير الحقيقة بشكل طبيعيّ جدًّا.
كشفت دراسة أجرتها شركة الموارد البشريّة SHRM في الولايات المتّحدة، أنّ 53% من المتقدّمين إلى الوظائف يكذبون في سيرتهم الذاتيّة أو في مقابلة العمل- على سبيل المثال، ما يتعلّق بالراتب الذي تقاضوهُ، والموصينَ عليهم، والمشاريع التي قاموا بها، وأقدميّتهم في العمل والمناصب التي أشغلوها. لا تتوقّف الأكاذيب عند التّوظيف، فهي شائعة على جميع المستويات في التّسلسل الهرميّ التنظيميّ. يكذب النّاس بخصوص الأيام المرضيّة، والتأخيرات، وتقديرات الزمن، وأكثر الكذب شيوعًا ما يخصّ الكذب على الزّبائن وقت التأخيرات والخلل، أو التّقارير الكاذبة حول التّقدّم الذي لم يحصل أبدًا ولم يحدث في المشروع.
يُعتبر الكذب أقدم من التّاريخ المكتوب، الذي يتكوّن في حدّ ذاته من أكاذيب صغيرة وكبيرة: من الفراعنة في مصر القديمة الذين بالغوا في تسجيل هزائم مريرة في المعركة وكأنّها انتصارات لهم، إلى الدّول الغربيّة في القرن الحادي والعشرين، التي تصاب بالذّعر عندما يهدّد أحد مواقع الإنترنت بفضح أكاذيب دبلوماسِيّيها. وكذلك أيضًا إدانة الكذب قديمة جدًّا، ويشير إليها كاتبو الأخلاقيّات على مرّ العصور على أنّها سلوك يعرّض المبنى الاجتماعيّ بأكملها للخطر. ومع ذلك، بيّنَ العديد من المفكّرين أيضًا مدى فعاليّته التي لا نقاش فيها.
تمت الترجمة بتصرّف