ضُمّت إلى أشعار الشّاعرة الأمريكيّة إميلي ديكنسون الّتي تعجُّ بأوصاف الطّبيعة، مؤخّرًا، وسيلة إيضاحٍ فريدة من نوعها: نسخة رقميّة من مجموعة النّباتات المُجفّفة خاصّتها، تثير جودة حفظها الإعجاب.
مهور من النّرجس -قصب من العطر-ֿ
ممالك -واسعة مثل النّدى -
أكياس من الدّبلونات* -أتاني بها نحلٌ مُغامر-
من بحار سماويّة-
والقرمزيّ من البيرو
شعر إميلي ديكنسون في واحدة من قصائدها- الّتي لم تُنشر في حياتها، مثل غالبيّة قصائدها البالغ عددها حوالي 1800 قصيدة
* الدّبلونات: قطع نقديّة ذهبيّة استُخدمت سابقًا في إسبانيا، والمقصود هنا صَفٌّ ذهبيّ من الزّهور
(ترجمة خالد إبراهيم مصالحة)
ما زالت الحياة القصيرة لواحدةٍ من أعظم شاعرات الولايات المتّحدة الأمريكيّة غامضة كاللّغز: حياة من العُزلة والخصوصيّة الغيورة، والقليل القليل من العلاقات الاجتماعيّة الّتي غالبًا ما أُنشئت ومورست بالمراسَلة. تُعزفُ سيرتها الشّخصيّة كما لو أنّها سيمفونيّة غير مكتملة، تَغزل روح العصر -أواسط القرن التّاسع عشر، بكلّ ما حصل خلاله من تقلّبات في الولايات المتّحدة- بحظٍّ وافر من الفحوى الشّخصيّة الغِنائيّة والمفعمة بالعاطفة. تشذّ أشعارها عن إيقاعات الشِّعر المعهودة، تكثُر فيها علامات التّرقيم وأوصاف الطّبيعة. تركت الشّاعرة، الّتي تُوفّيت وعمرُها لم يتعدّ الخامسة والخمسين، أُصولًا ثقافيّة ثمينة للعالم أجمع- إلّا أنّها لم تترك مفاتيح التّشغيل وتعليماته لقُرّائها ومُعِزّيها.
لم تُعرَف ديكنسون كشاعرة في حياتها، حيث نشرت عددًا قليلًا من قصائدها، أمّا غالبيّة قصائدها فقد كشفت عنها أختها بعد وفاتها من التهاب في الكلى. صدر مَجمَع قصائدها الكامل بعد عقود من وفاتها. هناك من يقول، على الرّغم من ذلك، أنّها عُرفت بين من كانوا حولها بدوْر البُستانيّة الموهوبة.
لم تُعرَف كشاعرة في حياتها، إلّا أنّ هناك من يقول إنّها عُرفت بين من كانوا حولها بدور البُستانيّة الموهوبة. إميلي ديكنسون |ؤيكيميديا، Yann
"يوتوبيا للفراشات"
أحبّت إميلي الأزهار في صباها. عاشت في مدينة مولدها، أمهرست في ولاية ماساشوستس شرقيّ الولايات المتّحدة، طوال حياتها، ما عدا السّنة الّتي تعلّمت فيها في ندوةٍ للبنات. كان والداها من أبناء الطّبقة الاجتماعيّة الرّفيعة، إذ شغل والدها منصب عضو في مجلس النُّوّاب في الولايات المتّحدة الأمريكيّة. تكشّفت أمامها في إطار تعليمها مجالات من المعرفة، مثل: عِلم النّباتات والبستنة، الّتي لم يحظ بها سوى أبناء المكانة الاجتماعيّة الرّفيعة.
نالت الحديقة الّتي عملت إميلي وأختها لافينيا على رعايتها في فناء عزبة العائلة الثّناء، وكانت معروفة في المنطقة برمّتها. لم يبقَ أثر للحديقة في العزبة الّتي تُشكّل اليوم متحفًا لتخليد الشّاعرة وعائلتها. شهدت مارتا ديكنسون بيانتشي، ابنة أخت إميلي، على جمال الحديقة الضّائعة، وهي تتذكّر "بُسُط من زنبق الوادي والفيولا والبازلاء العطِرة والياقوتيّة، الّتي قد تكون قد سبّبت اضطرابات هضميّة للنّحل طوال فصل الصّيف. كانت هناك أسوار من زهور الفاوانيا وأكوام من أزهار النّرجس الموسميّ، وأزهار القطيفة الخلّابة- حقًّا إنّها كانت بمثابة يوتوبيا (مكان خياليّ) بالنّسبة للفَراش".
اعتنت البُستانيّة إميلي بِمَعْشَبتها (هيرباريوم) الخاصّة عناية فائقة، فكانت بمثابة كنز- ألبوم من النّباتات المجفّفة، جمعتها "وكتلجَتها" بدقّة مُتناهية واعتنت بها طوال سنوات صباها وشبابها. تشمل مجموعة أعشاب ديكنسون ما لا يقلّ عن 424 صنف مختلف من نباتات شمال شرق الولايات المتّحدة، رُتِّبت في 66 صفحة. ألصقت الشّاعرة مُلصقة لكلّ نبتة، وكتبت على قسمٍ من المُلصقات، بخطِّها الأنيق باللّاتينيّة، الأسماء العلميّة الدّقيقة لكلّ نبتة حسب التّصنيف المقبول لِكارولوس لينيوس (Linnæus)، وكتبت الاسم الشّعبيّ الدّارج للنّبتة على القسم الآخر. صُرَّت الصّفحات في مجلّد أخضر غامق، مزخرفٌ بعيّنة من الأوراق والأزهار.
كان عدد قليل فقط من الأشخاص على علمٍ بحقيقة وجود هذا الألبوم الّذي نُسيَ مع مرور الزّمن. لقد احتُقظَ به في أرشيف جامعة هارفارد، ولم يُسمّح لأيّ شخص الاقتراب منه لِرقّته ونعومته. نشرت الجامعة قبل حوالي عقديْن من الزّمن نسخة مطابقة للأصل (نسخة ناسوخ- فكسيميليا) من الكتاب، تبيّن منها أنّ النّباتات حُفظت بشكلٍ ممتاز. لم تتلاشى ألوان النّباتات الّتي ظهرت في النّسخة الّتي نُشرت، والّتي شكّلت نافذة صادقة يُنظَر منها للاطّلاع على مجموعة ديكنسون الأصليّة. تمّ مؤخِّرًا تدوين الكتاب رقميًّا، وهو متاحٌ الآن للجمهور.
من الكنوز الّتي اعتنت بها واحتضنتها ديكنسون كانت مَعْشَبتها (هيرباريوم) الخاصّة- ألبوم النّباتات المجفّفة الّتي جمعتها وكتلَجتها بدقّة متناهية. إحدى صفحات الألبوم | Houghton Library, Harvard University
حدائق إميلي
أصدرت الشّاعرة والباحثة جوديت فار (Farr)، الّتي كرّست قدرًا كبيرًا من الموارد لِديكنسون وإنتاجها المبدع، كتابًا اسمه "حدائق إميلي ديكنسون" (The Gardens of Emily Dickinson)، وصفت فيه ارتباط إميلي بالطّبيعة وصفًا مفصّلًا، الارتباطَ الّذي انعكس من أشعارها ومن مجموعتها النّباتيّة. تقول فار في كتابها: "تعرِض صور فاكسيميليا المعشبة [...] ديكنسون الشّابة بصورة مؤثّرة: كمن ارتكبت أخطاء إملائيّة، ورتّبت النّباتات المجفّفة بأسلوب فنّيّ، واعتبرت الطّبيعة [...]، بلُطف ومحبّة، صديقتها الطّيِّبة".
عُرِضت في إحدى صفحات الكتاب الأكثر إثارة للإعجاب ثماني عيّنات مختلفة من زهرة البنفسج، الّتي قدّرتها ديكنسون تقديرًا خاصًّا بسبب "روعتها غير المتوقّعة، الّتي تفاجئ المتجوّل في الحقول"، كما كتبت في إحدى قصائدها. احتلّ ما تعنيه النّباتات، وفق ما ذكرته فار، مكانةً عاليةً في حياة ديكنسون، إذ ورد ذكرها في ثلث قصائدها ونصف رسائلها- 600 مرّة بالإجمال، تتطرّق 350 منها إلى الأزهار. تتكلّم قصائدها وألبوم معشبتها بنفس اللّغة- لغة الأزهار، الّتي لاقت الاهتمام من قبل غيرها من المؤلِّفات في ذلك العصر.
ليست بوابّة الكتاب أقلّ إثارة، إذ تظهر فيها، على ما يبدو، أوّل زهرة جفّفتها ديكنسون. إنّها زهرة الياسمين- الّتي لم تكن نموذجًا لعالم النّباتات في ماساتشوستس على الإطلاق. تقول فار في كتابها إنّه إلى جانب التّزمُّت الدّينيّ الذي رافق تربيتها فإنّها، أي ديكنسون، "انجذبت إلى ما هو غريب، إلى الإقليم الاستوائيّ أو الإقليم شبه الإستوائيّ خاصّةً، والّذي قرأت عنه [...] مثلما عكس عشقها لِلحَوْذان (كَفّ السّبع)، النّفل، شقائق النّعمان والكوشاد (الجِنثيانا) حبّها للبساطة والمعهود، فقد عكس ذوقها بما يخصّ الزّهور الغريبة انجذابها نحو الغريب والمجهول، نحو الجُرأة والأناقة".
يبدو أنّ أوّل زهرة جفّفتها ديكنسون هي الّتي ظهرت في بوابّة الكتاب. الصّفحة الأولى من الألبوم | Houghton Library, Harvard University
ترتبط كلمات فار بعنصر آخر من حياة ديكنسون. يدّعي الباحثون أنّ ديكنسون مرّت بأزمة عاطفيّة استمرّت فترة طويلة، وقد نجمت هذه الأزمة عن علاقتها الوثيقة مع سوزان هانتينجتون جيلبرت ديكنسون، الّتي كانت صديقة الرّوح منذ الطّفولة، ثمّ أصبحت زوجة أخيها؛ ويدّعي قسم من الباحثين أنّ العلاقة كانت ذات طابعٍ رومانسيّ. تَعرّف المؤرِّخون والباحثون في مجال الآداب إلى نوعيّة العلاقة بين الفتاتيْن عن طريق رسائل إميلي إلى سوزان، الّتي اكتنَفها الحزن والتّلّهُف وخيبة الأمل. الزّهرة الثّانية في الألبوم، بشكلٍ رمزيّ جدَّا، هي برايفت (الخصوصيّة)، ما قد يرمز إلى غيرتها على خصوصيّتها وتشبّثها بها طوال عمرها.
ما زالت إميلي ديكنسون، حتّى بعد مرور سنوات على رحيلها، مصدر إلهام وإيحاء للأدب والموسيقى.
هكذا تمخّضت أغنية جديدة عن ألبوم النّباتات القديم، حيث لحّنت المُطربة جوان واسر (Wasser)، باسم الشُّهرة Joan As Police Woman، قصيدة من قصائد ديكنسون، وأنتجت مقطع فيديو مستنبّطًا كلّه من مجموعة النّباتات الرّائعة.