لماذا لا تُتاح إصابة النّاس بعدوى الكورونا، وبالتّالي حماية الفئات الأكثر عرضة للمرض من خلال ما يسمّى ب"مناعة القطيع"؟ نظريًّا تبدو هذه الفكرة جيّدة - إلّا أنّها في الواقع قد تكون وصفة للمصائب.
قبل بضعة أشهر فقط، أصيب الإنسان لأوّل مرّة بفيروس الكورونا المستجدّ، SARS-CoV-2. تمكّن الفيروس من إصابة مجموعة كاملة من أشخاص عرضة للمرض، حيث أصيبوا به بسهولة ثمّ نقلوه. منذ حينها، انتشر المرض في كلّ العالم تقريبًا، أصاب الملايين بمرض ال COVID-19 وأودى بحياة حوالي ربع مليون شخص.
لمحاولة الحدّ من انتشار الفيروس، إنقاذ حياة النّاس ومنع انهيار جهاز الصّحّة الّذي يحمل عبء المرضى، اتّخذت الدّول المختلفة تدابير تقييديّة مانعة للحدّ من الإصابة بالعدوى، مثل زيادة الوعي بالنّظافة الشّخصيّة، الحفاظ على التّباعد الاجتماعيّ، إغلاق المدارس والحضانات، إتاحة العمل من المنزل حتّى الحجر الصّحّيّ.
تكمن في هذه الخطوات صعوبة، نفسيّة واقتصاديّة، ولا يمكن تنفيذها بشكل دائم. لذلك، فإن الدّول الّتي تمكّنت من خفض وتيرة الإصابة بالفيروس بشكل كبير بدأت بتحرير القيود. قامت بعض الدّول بفعل ذلك بتأنٍّ وحكمة، واتّخذت خطوات صغيرة ووقتًا كافيًا لمتابعة العواقب، وهناك دول أخرى عجّلت في المصادقة على التّسهيلات وبدت أنّها متفائلة. كلّ من هذه الدّول مدركة لاحتمال انتشار الفيروس مجدّدًا ولخطر الموت النّاجم عنه في أيّ لحظة- إمّا لأنّه ما زال متواجدًا في الدّولة نفسها أو سيقدم من خارجها. لذا فإنّ الطّريقة الأكثر أمانًا للحدّ من انتشار الفيروس هي التّطعيم، الّذي سيوفّر الحماية لمتلقّيه.
ومع ذلك، يبدو أنّ إيجاد لقاح ناجع وآمن ضدّ الفيروس بعيد المنال. حتّى حينها، هناك من يدعو لإتاحة انتشار الفيروس بين النّاس عامّةً أو بين النّاس الّذين يفترض أن يكونوا أقلّ عرضة للإصابة بالمرض. وفقًا لداعمي هذه الفكرة، سيصيب الفيروس في نهاية المطاف العديد من الأشخاص وستتطوّر في أجسامهم مناعة، مما يصعّب عليه إصابة الأشخاص الأكثر عرضة للإصابة. بالتّالي، ستنخفض وتيرة الإصابة وربّما يختفي المرض. تسمّى هذه الظّاهرة ب"مناعة القطيع" أو "مناعة المجتمع".
إيقاف التّناقل
تبدو فكرة "مناعة القطيع" لأوّل وهلة بسيطة. تخيّلوا سباق التّتابع، فيه العدّائون يتناقلون الفيروس بينهم، بدلًا من العصا. يحاول العدّاء الأوّل تمرير الفيروس إلى عدّائين آخرين إلى أن يُصاب العدّاء الأخير. إذا لم يقدر بعض العدّائين المشاركة بالسّباق- ربّما لكونهم مكتوفي الأيدي، أو أنّهم ركضوا من قبل وهم الآن متعبون جدًّا- سيكون من الصّعب على المتسابقين الّذين يحملون الفيروس إيجاد شركاء لنقله. قد يكون من الصّعب إيجاد عدّائين آخرين لدرجة أنّ المشاركين سيتعثّرون أو يتعبون في الطّريق ، ولن يصيبوا العدّاء الأخير بالعدوى.
في كل مرّة نخرج فيها من المنزل، أو نتواجد في مكان العمل أو في مكان عامّ، تُجرى عدّة سباقات تتابع كهذه في الوقت نفسه، حيث يمكن لكلّ عدّاء أن ينقل الفيروس إلى عدّة أشخاص. كلّما قلّ عدد العدّائين المشاركين، لأنّهم محصّنون ضدّ الفيروس، مثلًا، ولا يمكنهم أن يصابوا به ويتناقلوه، قلّ احتمال إصابتنا بالعدوى. هكذا نحمي أنفسنا، نسبيًّا، من الفيروس عندما نُحاط بأشخاص محصّنين.
لتحقيق "مناعة القطيع"، يجب أن تكون نسبة كبيرة من السّكّان محصّنة ضدّ المرض الّذي ينتقل بين النّاس، وتمنعه من الوصول إلى الأشخاص العرضة للإصابة . تتعلّق نسبة المحصّنين المطلوبة بنوع المرض، بطريقة انتقاله وبالظّروف البيئيّة. كلّما كان المرض أكثر معديًا، زادت نسبة الأشخاص المحصّنين. لمعرفة ما هي نسبتهم، علينا معرفة "رقم التّكاثر الأساسيّ" ، أو ( R0 (R-zero للمرض، وهو معدّل عدد الأشخاص الّذي يمكن أن يعديهم شخص واحد مريض من بين الأشخاص المعرّضين للإصابة ، والّذين لم يطعَّموا أو تعرّضوا للمرض.
عندما يكون R0 يساوي 3 مثلًا، سيصيب كلّ مريض (أو "عدّاء") بالمعدّل ثلاثة أشخاص آخرين. المريض الأوّل سيصيب 3 أشخاص، وهم بدورهم سيصيبون 9 أشخاص، ومن ثمّ 27، 81 وهكذا دواليك، فينتشر المرض في دالّة أُسّيّة، ويمكن أن يتحوّل بسرعة إلى وباء. عندما لا يشارك ثُلثا النّاس في سباق التّتابع، ، لأنّهم محصّنون ضدّ الفيروس (ذوو مناعة)، لن ينتقل الفيروس بالتّالي في ثلثين من الحالات. في مثل هذه الفئة، يصيب كلّ حامل للفيروس شخصًا واحدًا بالمعدّل فقط. عندما ترتفع نسبة المحصّنين، يبدأ المرض في الاختفاء.
إذا عرفنا قيمة R0 لمرض معيّن يمكن بسهولة حساب نسبة المحصّنين (ذوي المناعة) ضدّ المرض لمنع انتشاره. على سبيل المثال، لتقليل عدد حالات الإصابات الجديدة من ثلاث إلى واحدة، يجب تقليل حالتين عدوى، وبالتّالي فإنّ معدّل المحصّنين (ذوي المناعة) المطلوب هو 2/3، وهو %66 من السّكّان. في مرض الحصبة، وهو أكثر الأمراض المعدية شيوعًا، يتراوح R0 عادةً بين 12 إلى 18، ممّا يعني أنّه في الفئات العرضة للإصابة، مصاب واحد بالحصبة يصيب بين 12 إلى 18 شخصًا. لحماية الأشخاص غير المحصّنين من الحصبة، يجب أن تكون نسبة المحصّنين بين 11/12 إلى 17/18. لهذا، للقضاء عليه، يجب أن يكون %94-93 على الأقلّ من السّكّان محصّنين ضدّ الحصبة.
الطّريقة المتّبعة لرفع نسبة المحصّنين وحماية النّاس من الأمراض هي إعطاء اللّقاحات/التّطعيمات. فهي آمنة، تحمي متلقّيها مباشرة من الأمراض، وعندما يتلقّاها عدد كافٍ من النّاس، هم يوفّرون بشكل غير مباشر حماية للأفراد غير المحصّنين (دون مناعة)، مثل الأشخاص الّذين يعانون من نقص المناعة، الأطفال غير المطعّمين، بعد، المسنّين، الأشخاص الّذين لا يمكن تطعيمهم لأسباب صحّيّة، وحتّى "مستغلّي الموقف" الّذين بكامل إرادتهم لا يتطعّمون. من خلال تطعيم %80 من سكّان العالم والحصول على "مناعة القطيع"، تمكّنت البشريّة من القضاء على مرض الجدري الفتّاك.
عندما يصيب كلّ شخص ثلاثة أشخاص بالعدوى ينتشر الوباء. وقف العدوى يوقف الوباء. رسم توضيحيّ: نوعام لفياثان وماريا جوروحوفسكي ،, Shutterstock
المخاطرة بالكثيرين من أجل الكثيرين
عندما لا يتوفّر اللّقاح، وخاصّة عندما يتعلّق الأمر بمرض خطير مثل COVID-19، فإنّ طريق الوصول إلى "مناعة القطيع" معقّدة وإشكاليّة، فهي تتطلّب الإصابة بالعدوى وتعريض نسبة كبيرة من السّكّان للخطر. هذه ليست طريقة للوقاية من المرض وإنّما وصفة لانتشاره. بالإضافة إلى ذلك، عندما لا يتوفّر اللّقاح، يبقى الأشخاص الّذين لم يصابوا بعد بالفيروس عُرضة للإصابة. يمكن أن تؤدّي "مناعة القطيع" إلى إبطاء انتشار الفيروس، وقد تقضي عليه مع الوقت في بعض الحالات، ولكن بما أنّه مستمرّ في الانتشار، فيمكنه أن يصيب الأشخاص، أن يسبّب مرضًا خطيرًا وأن يؤدّي إلى الموت.
وفقًا للتّقديرات المقبولة، فإنّ R0 لفيروس SARS-CoV-2 يساوي حوالي 3-2.5، رغم أنّ باحثين من الولايات المتّحدة قد قدّروا مؤخرًا أنّه من المحتمل أن يكون R0 = 5.7. بالمقارنة، R0 للإنفلونزا الموسميّة يساوي 1.3. إذا كان هذا الرّقم حقيقيًّا، فمن أجل الوصول إلى "مناعة القطيع" ضدّ فيروس الكورونا المستجدّ، يجب أن تكون نسبة المحصّنين (ذوي المناعة) 4.7/5.7 على الأقلّ، ممّا يعني أنّ أكثر من %82 من السّكّان سيصابون بالفيروس ويكتسبون الحصانة.
في إسرائيل، هذا يعني أنّه يجب على ملايين الأشخاص الإصابة ب SARS-CoV-2. من بين مجمل عدد المصابين، المشخّصين وغير المشخّصين ، سيموت (في أفضل حال، وفقًا للتّقديرات) %0.66، أي عشرات الآلاف من النّاس. حوالي 3،000 منهم تحت سنّ ال 60.
سيتمّ إدخال مئات الآلاف من المصابين إلى المستشفى، ومن بينهم ستكون حوالي 100،000 حالة صعبة. من المتوقّع أن تكون نصف الحالات الصّعبة دون سنّ ال 65. جهاز الصّحّة غير قادر على استيعاب الكثير من الحالات الصّعبة، خاصّةً حالات أولئك الّذين في غضون ستّة أسابيع سيلقون حتفهم أو يتماثلون للشّفاء. سوف ينهار جهاز الصّحّة، وسوف يرتفع مجمل عدد الوفيات أكثر بسبب حاجة النّاس للعناية المكثّفة لأسباب أخرى وعدم إمكانيّة تلقّيها. بالإضافة إلى ذلك، قد يُلحق المرض ضررًا طويل الأمد للرّئتين والقلب، حتّى بعد التّعافي.
التّباعد الاجتماعيّ يمنع انتشار الوباء بنجاعة، ويمنع حاملي المرض من إصابة الآخرين | رسم توضيحيّ: superoke ، Shutterstock
لا توجد حلول سحريّة
الطّريقة الوحيدة لمنع انتشار المرض وحالات الوفاة وانهيار جهاز الصّحّة هو ضمان عدم إصابة معظم السّكّان بالفيروس. بدون تطعيم ناجع وآمن، لن توفّر "مناعة القطيع" حلًّا. بكلّ الأحوال، الحماية الّتي تُكسبها "مناعة القطيع" جزئيّة، وتعتمد على إحاطة الأشخاص المعرّضين للإصابة بأشخاص محصّنين (ذوي مناعة). ولذلك، يجب على الأشخاص الّذين لم يطوّروا بعد مناعة ضدّ الفيروس توخّي الحذر. إذا تواجدوا في بيئة فيها نسبة المحصّنين منخفضة، ثمّ التقوا بسيّاح من دول ما زال الفيروس منتشرًا فيها، أو زاروا هذه الدّول، أو لسوء حظّهم التقوا بشخص مصاب بالفيروس، فقد يصابون بالمرض حتّى وإن كانت بيئتهم القريبة محصّنة.
بالإضافة إلى ذلك، تفترض "مناعة القطيع" أنّ المحصّنين منتشرون بصورة موحّدة بين السّكّان، إلّا أنّ الوضع مختلف على أرض الواقع. هذا هو السّبب الّذي يفسّر
تفشّي مرض الحصبة من جديد عام 2018 في إسرائيل، رغم تلقّي أكثر من 96 % من السّكّان جرعتين من لقاح الحصبة، فقد أصاب الفيروس فئات فيها نسبة المحصّنين منخفضة لدرجة أنّه لا يمكن الحصول على "مناعة القطيع". كان معظم المرضى متديّنين متزمّتين، فقد رفض البعض منهم فكرة التّطعيم لأسباب دينيّة - أيديولوجيّة، بالإضافة إلى وجود العديد من العائلات الّتي يصعب عليها الوصول إلى الصّحّيّة وتطعيم أطفالها بالتّطعيمات المطلوبة. بالإضافة إلى ذلك، فقد أُلحق الضّرر بالمناطق الّتي يتركّز فيها معارضو التّطعيم.
لهذا السّبب، عَزْلُ السّكّان المعرّضين لخطر الإصابة ب COVID-19، مثل الأشخاص الّذين أعمارهم فوق سنّ ال 70، إلى أن نحصل على "مناعة القطيع"، على ما يبدو، لن يجدي نفعًا. حتّى وإن حمى الحجر الصّحّيّ المسنّين من العدوى، سيصبحون فئة داخل فئة غير محصّنة، ويبقون في خطر دائم وينعزلون عن بقيّة السّكّان لأشهر حتّى سنوات. بالإضافة لذلك، يلتقي كبار السّنّ في دور المسنّين طوال الوقت بالفئات صغيرة السّنّ - العمّال ومقدّمي الرّعاية - الّذين من الممكن أن يصيبوهم بالعدوى. في السّويد مثلًا، حيث فرضوا على المسنّين الالتزام بالعزل ومنعوا زيارتهم، فإنّ معظم حالات الوفاة من COVID-19 كانت لدى المسنّين. وبطبيعة الحال، لن يمنع عزل المسنّين من دخول صغار العمر المستشفى ووفاتهم، وليس من المؤكّد أنّه سيمنع انهيار جهاز الصّحّة.
لا توجد طرق مختصرة حتّى الآن
بسبب الثّمن الّذي يدفعه النّاس في حياتهم وصحّتهم لتحقيق "مناعة القطيع"، فمن الواضح أنّها ليست الحلّ المطلوب لمواجهة الكورونا. يمكننا تحقيق هذه المناعة عندما يتوفّر تطعيم ناجع، أو عندما يتوفّر علاج رخيص وناجع من شأنه أن يمنع معظم الحالات الصّعبة للمرض والوفيات . بالإضافة لذلك، يعتبر ال SARS-CoV-2 مسبّب مرض جديدًا وخطيرًا، ولا يزال من غير الواضح أن يطوّر جميع المتعافين منه المناعة، وإذا كان الأمر كذلك، فإلى متى تستمرّ. تُكسب فيروسات الكورونا الّتي تسبب نزلات البرد، وفيروسات الكورونا الفتّاكة الأخرى، الحصانة، ولكنّها تستمرّ فقط لبضعة أشهر وليس أكثر من بضع سنوات. لذلك، من المرجّح أن يكون معظم المتعافين من COVID-19 محصّنين ضدّ الإصابة المجدّدة، لفترة قصيرة على الأقلّ. ولكن إذا خفّت مناعتهم لسببٍ ما، سيكونون عُرضة للخطر مرّة أخرى، ولن يساهموا في تحقيق "حصانة القطيع".
حتّى لو أكسبت الإصابة بفيروس الكورونا المناعة لمدى الحياة، فإنّ دولة إسرائيل والعالم كلّه بعيدون جدًّا عن وضع يصاب فيه %82 من السّكّان بال SARS-CoV-22. وفقًا لفحوصات أوّليّة للأجسام المضادّة ، يبدو أنّ %3-2 فقط من سكّان العالم أصيبوا بالفيروس، وقد توفّي مئات الآلاف من المرضى حتّى الآن. للوصول إلى "مناعة القطيع"، من المحتمل أن يموت ملايين آخرون .
طالما أنّ معظم السّكّان ليسوا محصّنين ضدّ الفيروس، يجب الوقاية منه بطرق أخرى تبطئ انتشاره. الالتزام بقواعد التّباعد الاجتماعيّ، الحفاظ على النّظافة الشّخصيّة، تشخيص سريع للمصابين وعزلهم، وفرض الحجر الصّحّيّ إذا لزم الأمر، تمنع كلّها الإصابة بالعدوى، وتنقذ من الموت، وتمنع جهاز الصّحّة من الانهيار. تنفيذ هذه الخطوات يترك مجالًا للباحثين في العالم لتطوير العلاجات واللّقاحات ضدّ فيروس الكورونا المستجدّ. إلى أن يتوفّر لقاح فعّال، يجب أن نحافظ على قواعد التّباعد الاجتماعيّ إلّا إذا قرّرنا التّضحية بحياة عشرات الآلاف من الإسرائيليّين على مذبح "مناعة القطيع".
الترجمة للعربيّة: د. ريتا جبران
التدقيق والتحرير اللغوي: د. عصام عساقلة
الإشراف والتحرير العلمي: رقيّة صبّاح