هناك العديد من العوامل المسؤولة عن الاضطرابات المرتبطة بالإحساس بالزّمن. كيف يدرك دماغنا الزّمن؟ وما هي عواقب ذلك على أجسادنا؟
الزّمن هو مفهوم بعيد المنال بشكل خاصّ. ويبدو أنّه لا توجد صعوبة في تمييزه: فالسّاعات الملموسة متوفّرة في العديد من الأماكن حولنا، وتتيح لنا معرفة الوقت الحاليّ، وقياس الزّمن "بالضّبط"، إلّا أنّ إدراكنا للوقت لا يتأثّر فقط بالمقاييس الموضوعيّة، فنحن نشعر أنّ سنة كاملة قد مرّت في غمضة عين، وأنّ الدّقائق الثّلاث المنتظرة لانتهاء الميكروويف تمرّ وكأنها دهر من الزّمن. منذ نشر النّظريّة النّسبيّة لأينشتاين، تشابك مفهوم الزّمن مع مفهوم المكان، بحيث يتحرّك الاثنان معًا ويتأثّر كلّ منهما بالآخر، لكنّ الارتباط بينهما لا يقتصر على مجال الفيزياء. يربط دماغنا أيضًا الزّمان والمكان: هناك، على سبيل المثال، خلايا دماغيّة متخصّصة في تسجيل مرور الوقت، وتقع في منطقة الحصين - وهي منطقة في الدّماغ مسؤولة، من بين أمور أخرى، عن الإدراك المكانيّ.
يعمل جسمنا في دورات طوال اليوم تقريبًا: يتمّ إفراز هرمونات مثل الميلاتونين والكورتيزول يوميًّا، وهي تعطي إشارة للجسم بأنّ يكون نائمًا أو مستيقظًا، على التّوالي. ولكن كيف يعرف الجسم متى يفعل ذلك؟ تتولّى مسؤوليّة ذلك آليّة معقّدة تُسمّى السّاعة البيولوجيّة (Circadian)، والّتي تطوّرت عند الكائنات الحيّة حتّى قبل اختراع السّاعات الّتي صنعها الإنسان، وهي متزامنة مع طول اليوم. عندما تتعرّض المستقبلات في أعيننا للضّوء، فإنّها تنقل المعلومات إلى منطقة ما تحت المهاد - وهي منطقة في الدّماغ تعمل كنوع من "مركز التّحكّم"، والمسؤولة عن تنظيم العديد من العمليات الجسديّة - وهي بدورها "تحفّز" إفراز الهرمونات المناسبة. ومع ذلك، فإنّ السّاعة البيولوجيّة ليست دقيقة بما يكفي لتفاعلنا اليوميّ مع الوقت، الأمر الّذي يتطلّب تمييزًا أشدّ دقّة وأكثر لطفًا. إنّ القدرة على إدراك التّغيّرات الصّغيرة في الوقت - على سبيل المثال، الشّعور بمرور دقيقة ونصف دون النّظر إلى السّاعة - تعتمد في الواقع على خلايا متخصّصة في تقييم الوقت الّذي مضى، وتوجد، كما ذكرنا، في منطقة الحصين.
النّقطة المهمّة هي أنّ خلايا تقييم الزّمن تتأثّر بسهولة بالتّلاعب، وكذلك بتجاربنا الذّاتيّة والعاطفيّة. يعرف الكثيرون، على سبيل المثال، الشّعور بأنّ الوقت يمرّ بشكل أسرع عند التّركيز على نشاط معيّن، خاصّة إذا كان نشاطًا ممتعًا. لكن اتّضح أنّ هناك عوامل أخرى تؤدّي إلى الاضطرابات في الإحساس بالزّمن: يلعب العمر أيضًا دورًا في التّجربة الذّاتيّة للوقت. على سبيل المثال، كشفت دراسة قائمة على الاستبيان، والّتي سُئل فيها المشاركون من عدّة فئات عمريّة عن كيف جرّبوا أو يجرّبون مرور الوقت، أنّه في سنّ أكبر يشعر المرء أنّ الوقت يمرّ بسرعة أكبر. ومع ذلك، أظهرت دراسة أخرى أنّ التّقدير الذّاتيّ للوقت في فترات زمنيّة قصيرة من الثّواني يتحسّن بالفعل لدى البالغين. لذلك، من الممكن أن يُنظر إلى الإحساس بالوقت الّذي مضى في ذاكرة البالغين على أنّه أسرع عند الرّجوع إلى الماضي فقط. وفي كلتا الحالتين، فمن الواضح أنّ إدراكنا للوقت يتأثّر بعوامل خارجيّة. والمثير للدّهشة أنّ الدّراسات أثبتت أنّ الإحساس بالوقت لا يؤثّر فقط على تجربتنا العقليّة. التّغييرات في تصوّر الوقت يمكن أن تؤثّر على المؤشّرات الفسيولوجيّة، واستشفاء الجلد حتّى على مستوى السّكّر في الجسم.
هناك خلايا دماغيّة تقع في الحصين متخصّصة في تسجيل مرور الوقت، وهي المنطقة المسؤولة، من بين أمور أخرى، عن الإدراك المكانيّ. منطقة الحصين في الدّماغ البشريّ | Gray's Anatomy, Wikipedia
بلاسيبو الزّمن
في عالم الأبحاث، تتراكم الكثير من الأدلّة على العلاقة بين الجسم والعقل. أحد أبرز الأمثلة هو البلاسيبو - وهو علاج وهميّ. تكشف الأدلّة المستمدّة من العديد من الدّراسات أنّ مجرّد تناول الدّواء وتوقّع أن يفيدنا يحسّن الحالة البدنيّة، حتّى لو لم يكن للمادّة الّتي تلقّيناها أيّ تأثير علاجيّ موضوعيّ. في بعض الأحيان تحدث ظاهرة مماثلة بعد التّلاعب بالأبحاث الّتي تعطّل إدراك الوقت.
على سبيل المثال، وجدت دراسة نُشرت في مجلة PNAS أنّ الاضطرابات المتعمّدة في إدراك الوقت أثّرت على مستويات السّكّر في الدّم لدى مرضى السّكّري من النّوع الثّاني. قام الباحثون بتقسيم المشاركين إلى مجموعات، وقاسوا مستويات السّكّر في الدّم وضغط الدّم، وطلبوا منهم الانتظار حوالي ساعة ونصف. أثناء الانتظار، لعب المشاركون ألعاب حاسوب، وقد عُلّقت على السّبّورة أمامهم ساعة حائط، يتباين معدّل عملها بين المجموعات: شاهدت مجموعة من الأشخاص ساعة تتقدّم بسرعة مضاعفة عن الوقت الحقيقيّ، في أمام مجموعة أخرى، تمّ وضع ساعة تتقدّم ببطء مضاعف، وبالنّسبة للمجموعة الضّابطة أظهرت السّاعة معدّل تقدّم طبيعيًّا. وبعد ذلك، تمّ قياس مستويات السّكّر في الدّم لدى المشاركين مرّة أخرى. تبيّن أنّ المشاركين الّذين اعتقدوا مرور وقت أطول كانت لديهم مستويات سكّر أقلّ كأنّ معدّل إفراغ السّكّر من الدّم يتسارع.
المشاركون الذين ظنّوا أنّ المزيد من الوقت قد مرّ، كانت مستويات السّكّر في الدّم لديهم أقلّ. اِمرأة تقيس مستويات السّكّر في دمها | Dulin, Shutterstock
كم نمت، أو كم كنت تعتقد أنّك نمت؟
تناولت دراسة أخرى كيفيّة تأثير إدراكنا لوقت النّوم - أي طول نومنا ليلًا على إدراكنا - على الانتباه ونشاط الدّماغ. تمّ تقسيم المشاركين في الدّراسة إلى مجموعات، وناموا جميعًا في مختبر النّوم لمدّة ليلتين متتاليتين، في غرفة بها ساعة تتحرّك بشكل أسرع أو أبطأ من الوقت الحقيقيّ. في اللّيلة الأولى، نام جميع المشاركين فعليًّا ثماني ساعات، لكن قيل لأعضاء إحدى المجموعات إنّهم ناموا بالفعل ثماني ساعات، بينما قيل للمشاركين في المجموعة الأخرى إنّهم ناموا خمس ساعات فقط. في اللّيلة الثانية، نام جميع المشاركين فعليًّا لمدّة خمس ساعات، ومرّة أخرى، هذه المرّة تمّ إعطاؤهم معلومات مختلفة: قيل لأعضاء إحدى المجموعات إنّهم ناموا لمدّة ثماني ساعات، بينما تمّ إخبار أعضاء المجموعة الأخرى بالوقت الفعليّ لنومهم. في كلّ يوم، بعد قضاء اللّيلة السّابقة في مختبر النّوم، خضع المشاركون لاختبارات معرفيّة لقياس الانتباه، وتمّ اختبار نشاط أدمغتهم باختبار تخطيط كهربيّة الدّماغ (EEG)، الّذي يقيس النّشاط الكهربائيّ للدّماغ باستخدام أقطاب كهربائيّة خارجيّة، ويسجّل ما يعرف باسم "موجات الدّماغ".
كشفت الاختبارات أنّ وقت ردّ الفعل لدى المشاركين كان أسرع إذا ظنّوا أنّهم ناموا ثماني ساعات، حتّى لو كانوا في الواقع قد ناموا خمس ساعات فقط. في المقابل، كان وقت ردّ الفعل أبطأ عندما اعتقدوا أنّهم ناموا خمس ساعات فقط، على الرّغم من أنّهم ناموا بالفعل ثماني ساعات. وكان مؤشّر نشاط الدّماغ المرتبط بالشّعور باليقظة أعلى أيضًا لدى أولئك الّذين اعتقدوا أنّهم ناموا ثماني ساعات، بغضّ النّظر عن مدّة النّوم الفعليّة، وتبيّن أنّ مقياس نشاط الدّماغ الّذي يدلّ على التّعب كان أعلى بعد خمس ساعات من النّوم مقارنة بثماني ساعات من النّوم لدى جميع المشاركين، لكن الزّيادة كانت أقلّ شدّة عندما ظنّوا أنّهم ناموا ثماني ساعات.
وثّق المشاركون شكل جلدهم بعد العلاج الذّاتيّ بالحجامة الّتي تسبّبت في ظهور علامة تشبه النّزيف. شخص يخضع للعلاج بالحجامة | Alex Vog, Shutterstock
تسليط الضّوء على الجلد
تُظهر دراسة نُشرت نهاية عام 2023 دليلًا على تأثير إدراك الوقت على معدّل تعافي الجلد من النّزيف البسيط. طلب باحثون من جامعة هارفارد من مجموعة من الأشخاص أن يعالجوا أنفسهم في المنزل بواسطة الحجامة، وهو علاج من مجال الطّبّ التّكميليّ، الّذي يخلق فراغًا على الجلد وبالتّالي يسبّب توسّعًا موضعيًّا للأوعية الدّمويّة. وفي المكان الّذي وضعت فيه الكؤوس تبقى علامة تشبه النّزيف في الأيّام الّتي تلي العلاج. لمدّة أسبوع، اِعتنى الأشخاص بأنفسهم يوميًّا وفقًا للتّعليمات، وطُلب منهم توثيق صورة النّزيف مباشرة بعد العلاج وبعد حوالي نصف ساعة، وإدخال الصّور في تطبيق مخصّص. سمحت الوثائق للباحثين بقياس درجة تعافي تدفّق الدّم بعد نصف ساعة، والأهمّ من ذلك إنشاء توقّعات معيّنة لدى الأشخاص فيما يتعلّق بوقت التّعافي المتوقّع.
بين العلاج والصّورة الثّانية في العدد، طُلب من المشاركين الانتظار لمدّة 28 دقيقة، في ثلاث حالات مختلفة: في إحداها تتحرّك السّاعة بمعدّل طبيعيّ؛ وفي حالة أخرى تتحرّك بسرعة مضاعفة؛ وفي الحالة الثّالثة ببطء مضاعف. وبعد فترة الانتظار - 28 دقيقة والّتي كانت في بعض الحالات 56 دقيقة أو 14 دقيقة - تمّ تصوير تدفّقات الدّم، وأرسلت الصّور لتقييم درجة الاستشفاء من قبل حكّام لم يكونوا على علم بظروف التّجربة. ومن أجل التّأكّد من أنّ هذه ظاهرة شاملة بالفعل، تمّ اختبار جميع المشاركين في جميع الحالات الثّلاث بترتيبٍ متفاوت. في الجلسات الّتي مرّت فيها 56 دقيقة وفقًا للسّاعة، قدّر الحكّام أنّ تدفّق الدّم قد تعافى بشكل أسرع قليلًا مقارنة بالجلسات الأخرى، على الرّغم من أنّ الوقت نفسه قد مرّ في جميع الجلسات - 28 دقيقة. أي أنّ درجة تعافي الكدمات تأثّرت بإدراك المشاركين للوقت الّذي مضى.
تثير هذه النّتائج العديد من الأسئلة. ففي نهاية المطاف، إذا كان الجسم يستطيع إشفاء نفسه بشكل أسرع، فلماذا لا نفعل ذلك بغضّ النّظر عن إدراكنا للوقت؟ ما هي ميزة البقاء الموجودة في تكييف عمليّات التّعافي، أو عمليّة التّمثيل الغذائيّ، مع إدراك الوقت؟ هل تحدّ السّاعة البيولوجيّة من التّلاعب المحتمل بالوقت، أم أنّه من الممكن نظريًّا إبطاء إيقاع السّاعة، وبالتّالي ربما إطالة حياتنا؟ بطريقة أو بأخرى، إدراكنا للوقت له تأثير كبير على العمليّات الجسديّة، وهذا ما يوضّح أهمّيّة الوعي، أو العقل، في عمليّة الشّفاء الجسديّ.