نحن لا نرى الهواء ولكنّنا نتنفّسه، ونحمل وزنه على أكتافنا. نظريّة التّطوّر والفيزياء معًا يفسّران لنا هذه الظّاهرة

الغلاف الجوّيّ المحيط بالكرة الأرضيّة هو محيط من الهواء نعيش في قاعه. يربض علينا الهواء الغنيٌّ بالموادّ الّتي نستنشقها ونزفرها في كلّ لحظة من حياتنا. كتلة الهواء الّتي تضغط على الإنسان العادي تقارب الطّنّ، ويبدو لنا الهواء شفافًا بالرّغم من ذلك. تشعر بالهواء وتراه يؤثّر بقوّةٍ على مختلف الأجسام، ولكنّك لا تراه مباشرةً. 

لماذا؟ علينا أن نُفَسّرَ أوّلًا لماذا تبدو لنا أجسامٌ معينةٌ شفّافةً؟ تكمن الإجابة في سلوك الضّوء المرئيّ. يمكن للضّوء الّذي يصطدم بمادّة ما أن يمرّ من خلالها، أو أن يرجعَ منها، أو أن يُمتَصَّ فيها. نحن نرى المادّة إذا رجع الضّوء منها، أو إذا امتُصَّ فيها، وتكون المادّة شفّافة إذا مرَّ الضّوء منها بدون إعاقة. لا تكون الموادّ عادةً شفّافةً أو مُعتمةً تمامًا، وإنّما تكون بين هاتين الحالتين - فنحن نستطيع مثلًا رؤية الأجسام من خلال الزّجاج الملوّن، وتمييز وجود الزّجاج في آن واحد. 

تطوّر الضّوء

يبدو لنا الهواء شفّافًا بسبب حالته الرّكاميّة الغازيّة. تكادُ لا تُكوّن جسيمات المادّة - جزيئاتها - روابط فيما بينها عندما تكون في الحالة الغازيّة، وتكون متباعدةً عن بعضها، بالمقارنة مع الحالتين السّائلة والصّلبة، فيمرّ الضّوء من بينها دون أيّة إعاقة تقريبًا. 

هذا جزءٌ من التّفسير. هناك غازات غير شفافة، فيمكننا مثلًا رؤية بخار الماء أو بعض الأكاسيد النّيتروجينيّة الّتي تشارك في تكوين الضّباب الدُّخانيّ. السّبب الثّاني والمركزيّ لكون الهواء شفّافًا هو أنَّ الأشعّة الكهرومغناطيسيّة الّتي يمكننا رؤيتها تُشكّلُ جزءًا من مجالٍ ضيّقٍ نسبيًّا من الأمواج الّتي تتمكّن من اختراق الغلاف الجوّيّ للكرة الأرضيّة. 

تنبعث من الشّمس أشعّة تمتدّ على نطاق واسع من الأمواج الكهرومغناطيسيّة، بدءًا بأشعّة جاما وأشعة رنتجن (الأشعة السّينيّة) القويّة ذات الأمواج القصيرة جدًّا، وانتهاءً بأمواج الرّاديو الطّويلة الّتي قد يصل طولها إلى عِدّة كيلومترات. مجال الضّوء المرئيّ، بالمقابل، هو ضيّقٌ جدًّا: يبدأ الضّوء المرئيّ بالضّوء الّذي نراه بنفسجيًّا، وتبدأ أطوال أمواجه من  350 نانومترًا (جزء المليار من المتر)، ويمتدّ حتّى اللّون الأحمر الّذي تبلغ أطوال أمواجه 750 نانومترًا. يٌشكّلُ هذا جزءًا بسيطًا من مجمل الضّوء الّذي يصل إلى الكرة الأرضيّة.

 

הטווחים של אורכי הגל שהאטמוספרה מסננת (בחוּם) ושעוברים דרכה ומגיעים אל פני כדור הארץ | איור: (ESA/Hubble (F. Granato
نطاق أطوال الأمواج الّتي يُصَفّيها الغلاف الجوّيّ (في الحرّ) وتمرّ من خلاله، وتصل إلى سطح الكرة الأرضيّة | التّخطيط التّوضيحيّ: (ESA/Hubble (F. Granato

يحجب الغلاف الجوّيّ للكرة الأرضيّة غالبيّة أطوال أمواج الأشعّة الكهرومغناطيسيّة الواردة من الشّمس، فلا تصل إلى سطح الأرض. تَحجب طبقة الأوزون، في أعالي الغلاف الجوّيّ وبخار الماء في الهواء، الأمواجَ القصيرة جدًّا (مثل أشعّة جاما والأشعّة السّينيّة (رنتجن)، وغالبيّة الأشعّة فوق البنفسجيّة)، والأمواج الطّويلة (مثل الأشعّة تحت الحمراء). معظم الأشعّة الّتي تصلُ سطح الأرض، لهذا السبب، هي في المجال المرئيّ أو في مجال أمواج الرّاديو الطّويلة جدًّا. 

لماذا نرى هذا المجال من أطوال الأمواج بالذّات، ولا نرى جميع التّردّدات الضّوئيّة الّتي تصل إلى الكرة الأرضيّة؟ يتعلّق ذلك بتطوّر جهاز البصر عند الإنسان. يوجد في شبكيّة العين زلال (بروتين) اسمه رودوبسين، وهو مسؤول عن استيعاب الضّوء وتحويله إلى إشاراتٍ كهربائيّة يلتقطها الدّماغ، ويُمَكِّننا من التّمييز بين أطوال الأمواج الضّوئيّة ومشاهدة الألوان. يتواجد الرّودوبسين في العين البشريّة بثلاث هيئات حسّاسة للّون الأحمر والأخضر والأزرق، وبهيئة أخرى تستخدم في الرّؤية اللّيليّة. 

تتطابق زلاليّات الرّودوبسين البشريّة تطابقًا تامًّا تقريبًا مع تلك الّتي لدى الكائنات الحيوانيّة الأخرى، الّتي يمكنها أن تشاهد وترى الأجسام مثل الأسماك المذهّبة والدّجاج والذّباب. ويتواجد الرودوبسين لدى أنواع معيّنة من البكتيريا الّتي تستعين به للتّحرّك نحو مصدر الضّوء أو لتجنّبه. يقود ذلك إلى اعتقاد البعض بأنّ هذه الأنواع من البكتيريا هي مصدر جميع زلاليّات الرّودوبسين في عالم الأحياء. يعني ذلك، من النّاحية التّطوّريّة، أنَّ الرّودوسبين كان قد تطوّرَ، على ما يبدو، مرةً واحدةً ووحيدةً لدى أب قديم مشترك لجميع الكائنات متعدّدة الخليّة، ولم يحدث عليه أي تغيير على مرّ السّنين. يتيح مبنى الرّودوبسين على اختلاف أنواعه رؤية الضّوء المرئيّ فقط، ولا نستطيع رؤية أطوال الأمواج الأخرى.

مشاهدة الأشياء المخفيّة

توجد في الطّبيعة، مع ذلك، ظواهر طبيعية تُمكّننا من تمييز وجود الهواء. تعتمد هذه الظّواهر على كون الهواء الموجود بدرجات متفاوتة من الضّغط أو الكثافة يُكَوّن طبقاتٍ منفصلةً، وقد ينحني أو ينكسر الضّوء عندما يمرّ من طبقة إلى أخرى. 

السّراب هو ظاهرة مشابهة. يتكوّن السّراب (الفيتا مورجانا أو الميراج) في الأيّام شديدة الحرارة، حيث يتواجد هواء ساخنٌ تحت هواء بارد، مثل طبقة الهواء الّتي تتواجد فوق شارعٍ شديد الحرارة، والّتي تكون أكثر سخونةً من الطّبقة الّتي فوقها. 

كثافة الهواء في الطّبقة الأكثر سخونة أقلّ من كثافة الهواء في الطّبقة الّتي فوقها. ينكسر الضّوء أو يرجع (ينعكس) عند مروره ببن الطّبقات، لأنّ سرعته في الهواء الحارّ قليل الكثافة أعلى منها في الهواء البارد المتكاثف. يُفسّرُ الدّماغ انكسارَ الضّوء عند مروره من خلال الوسط الفاصل بين الهواء السّاخن والهواء البارد "بأنّه ماء في قلب الصّحراء".

אשליה שנובעת מהבדלי הטמפרטורות בין שכבות האוויר. פאטה מורגנה (מיראז') במדבר בלוב | צילום: DAVID PARKER / SCIENCE PHOTO LIBRARY
الوهم الّذي ينجم عن الفرق في درجات حرارة طبقات الهواء. سرابٌ (الميراج) في صحراء ليبيا | تصوير: DAVID PARKER / SCIENCE PHOTO LIBRARY

 

تأثير شليرين (Schlieren effect) هي ظاهرة أخرى شبيهة بظاهرة الفيتا مورجانا (السّراب). ينكسر الضّوء في هذه الحالة، كما في ظاهرة السّراب، نتيجة لتغيّر في الصّفات الطّبيعيّة للطّبقات الهوائيّة - ضغط الهواء في هذه الحالة. تفوق حساسيّة تأثير شليرين حساسيّة ظاهرة الفيتا مورجانا، وهو يتيح لنا التّمييز بين الفروق الصّغيرة في الضّغوط الّتي تنجم عن حركة الأجسام، أو عن الفروق في نوعيّة الغازات المختلفة الّتي تُكوّن الهواء. تتكوّن الفروق في الضّغط والكثافة عند جريان الهواء حول جسم متحرّك، الرّصاصة خلال انقضاضها مثلًا، وتؤدّي إلى تغيير بسيط في مسار الضّوء. يتيح لنا ذلك تمييز حركة الهواء من حول الأجسام المتحرّكة. 

מאפשר לראות זרימה של אוויר. צילום של אפקט שלירה בתנועה על קולית של אוויר סביב גליל במנהרת רוח | צילום: DR. GARY SETTLES / SCIENCE PHOTO LIBRARY
يمكننا رؤية جريان الهواء. تصوير تأثير شليرين خلال حركة الهواء فوق الصّوتيّة حول أسطوانة داخل نفق الرّيح| تصوير: DR. GARY SETTLES / SCIENCE PHOTO LIBRARY

 

تُمَكِّننا مثل هذه الظّواهر من رؤية الهواء الشّفّاف ولو للحظة من الزّمن. تُقيّدُ أطوال الأمواج، الّتي اعتدنا عليها على مرّ عصور كثيرة من التّطور، والتي تخترق الغلاف الجوي للكرة الأرضية، مجالَ هذه الرّؤية. يمكننا رؤية الظّواهر الأخرى بواسطة أجهزة خاصّة مثل تلسكوب، الرّاديو والكاشفات الخاصّة.  

 
 

التّرجمة للعربيّة: خالد إبراهيم مصالحة
التدقيق اللغوي: أ. أديب أبو ريش
التدقيق العلمي والتحرير: رقيّة صبّاح أبو دعابس

 

 

0 تعليقات