إلى الجرّافات وزوارق السّحب وغيرها من الجهود البشريّة لتخليص سفينة "إيفر جيفين" Ever Given الّتي علقت على ضفاف قناة السّويس، انضمّت أيضًا حركة المدّ المتأثّرة بفعل القمر والشّمس، وعلى ما يبدو فإنّها هي الّتي رجّحت الكفَّة في عمليَّة تخليص السّفينة

المدّ والجَزّر هما تغييرات دوريّة في ارتفاع منسوب مياه سطح البحر النّاجمة عن تأثير قوّة جاذبيّة القمر على الأرض. في أيّ نقطة في العالم، يحدث المدّ والجَزّر مرتين يوميًّا، مرّة كلّ 12:25 ساعةً، وهو نصف الوقت الّذي تستغرقه كلّ نقطة على الأرض للعبور في المنطقة الأقرب إلى القمر. في أيّ لحظة، يحدث المدّ في منطقتين منفصلتين من الأرض: واحدة على الجانب الأقرب للقمر، والأخرى على الجانب المعاكس، الأبعد عنه. يمكن تشبيه المدّ إلى ماء تتحرّك بمنحنى إهليلجيّ حول الكرة الأرضيّة الصّلبة، حيث يوازي محور طوله المحور الخياليّ النّاشئ بين مركز الأرض والقمر بشكل دائمٍ. 

هناك اعتقاد خاطئ بأنّ قوّة جاذبيّة القمر هي الّتي "تسحب" الماء من على سطح الأرض. في الواقع، التّغييرات في مستوى مياه سطح المحيطات تحصل بأعقاب ظاهرة فيزيائيّة أخرى، والّتي تُفسّر سبب حدوث المدّ في جانب الأرض الأبعد عن القمر.

جاذبيّة سلبيّة 

كل نقطة على الأرض "تشعر" بقوّة جاذبيّة القمر بشدّة مختلفة. ستشعر أقرب نقطة على سطح الأرض نسبةً للقمر بأقوى جاذبيّة، بينما ستشعر النّقطة المعاكسة -الأبعد- بأضعف قوّة جاذبيّة. تعمل على مركز الأرض، الواقع بين هذين الطّرفين، قوّة أقلّ شدّة مقارنةً بالقوّة الفاعلة على طرفه الأقرب من القمر، لكنّها أكبر من القوّة المؤثّرة على طرفه البعيد عن القمر، ولهذا السّبب سنشير إليه باعتباره متوسّط قوّة جاذبيّة القمر الّتي يؤثّر بواسطتها على جميع أنحاء الأرض.   

إنّ عدم تساوي قوّة الجاذبيّة المؤثّرة على الأرض تُسبب حدوث ظاهرة المدّ، الّتي يمكن تفسيرها بواسطة قوّة المدّ (tidal force). تؤثّر قوّة المدّ بشكل مختلف على أيّ نقطة من الأرض، حيث يتمّ حسابها بواسطة طرح قوّة الجاذبيّة المتوسّطة للقمر (الّتي نشعر بها في مركز الأرض) من قوّة الجاذبيّة الّتي نشعر بها في كلّ نقطة أخرى. نظرًا إلى أنّ على أقرب نقطة من القمر تعمل قوّة جاذبيّة أكبر من المعدّل، فإنّها "تتمدّد" باتّجاه القمر. بالمقابل قوّة الجاذبيّة المؤثّرة على أبعد نقطة تعمل قوّة أصغر من المعدّل، وعند حساب القوّة نحصل على نتيجة سلبيّة، وبالفعل تمتدّ هذه النّقطة بعيدًا عن القمر، ممّا يؤدّي إلى ارتفاع منسوب المياه. في المنطقة الواقعة 90 درجة من المحور بين مركز الأرض والقمر، تؤثّر قوّة مساوية لقوّة الجاذبيّة المتوسّطة بالتّقريب، بالتّالي يلغي كلّ منهما الآخر. لذلك، وعلى ما يبدو فإنّ قوّة جاذبيّة الأرض هي الوحيدة الّتي تؤثّر هناك، ممّا يدفعها الى "الانكماش" باتّجاه مركزه، بحيث يكون مستوى سطح المياه أكثر انخفاضًا، تسمى هذه الظّاهرة بالجَزّر.

كلّما ابتعدت نقطة معيّنة على سطح الأرض عن المحور الواقع بين مركز الأرض والقمر (أيّ بِ-90 درجة منه)، فإنّها تقترب أكثر باتّجاه مركز الأرض، وكلّما ابتعدت هذه النّقطة عن المحور فإنّها تبتعد عنه. في الواقع تُسبب قوّة جاذبيّة القمر لتمدّد الأرض بأحد المحاور وإلى التّقلّص بالمحور العموديّ له. يدور الحديث حول تغييرات طفيفة جدًّا، لكن كون مساحة سطح المحيطات شاسعة، إضافة إلى قدرة المياه على التّحرّك بسهولة نسبيًّا، تؤدّي إلى بروز هذه التّغييرات ونشوء ظاهرة المدّ والجَزّر الدّوريّة.

يحدث المدّ في المنطقة الأقرب للقمر وفي المنطقة الأبعد عنه | رسم توضيحي: SCIENCE PHOTO LIBRARY
يحدث المدّ في المنطقة الأقرب للقمر وفي المنطقة الأبعد عنه | رسم توضيحي: SCIENCE PHOTO LIBRARY

تأثيرات الشّمس

حركة القمر هي العامل الّذي يحدّد توقيت حصول المدّ، أمّا ارتفاعه يتأثّر بشكل كبير بقوّة الجاذبيّة النّاتجة عن الشّمس أيضًا. الفرق في الارتفاع بين المدّ والجَزّر غير ثابت، إنّما يتغيّر بشكل دوريّ على مدار الشّهر. عندما يعبر القمر المحور المتخيّل بين الأرض والشّمس، كلّ 14 يومًا تقريبًا، فإنّ قوّة جاذبيّته وقوّة جاذبيّة الشّمس تؤثّران على الأرض في نفس الاتّجاه، ممّا يؤدّي إلى تكوين مدٍّ مرتفع بشكل خاصّ (مدّ الرّبيع Spring tide)

هذه الظّاهرة مسؤولة إلى حدّ كبير عن الانفراجة في جهود إنقاذ سفينة ايفير جيفين Ever Given، الّتي علقت في قناة السّويس الأسبوع الماضي. في 29 آذار، مرّت الأرض بالتّحديد بين القمر والشّمس، وصل الحدّ الأقصى لمنسوب المياه في قناة السّويس أثناء المدّ إلى 40 سم أكثر من مستواه 6 أيّام قبل ذلك، أي عندما علقت السّفينة. كانت الشّمس والقمر بمثابة سفن للجرّ، حيث ساهما في جهود السّحب إلى الأعلى من خلال التّأثير على مستوى المياه، وذلك إضافةً إلى جهود الجرارات الحقيقيّة التي قامت بعمليّة السّحب الجانبيّ، تضافر الجهود أسهمت في تحريك السّفينة الغارقة.

تضافر جهود القمر والشّمس معًا ساعد النّشاط البشريّ في تخليص السّفينة  | رسم توضيحي: SCIENCE PHOTO LIBRARY
تضافر جهود القمر والشّمس معًا ساعد النّشاط البشريّ في تخليص السّفينة  | رسم توضيحي: SCIENCE PHOTO LIBRARY

مسألة الحجم 

إذا كانت المياه على سطح الأرض متأثّرة بشكل بارز بقوّة المدّ، فلماذا لا نشهد حركة مدّ دوريّة في البحيرات أيضًا؟ في الواقع، قوّة المدّ تؤثر فعلًا على البحيرات، وكذلك أيضًا على كلّ جسم آخر على وجه الأرض. إنّ مساحة السّطح المحدودة للمياه في البحيرات تحدّ من نطاق حركة مياهها؛ ممّا يعيق نشوء فوارق بارزة في مستويات المياه بين ضفتي البحيرة. في بحيرة سوبيريور وبحيرة ميشيغان في أمريكا الشّماليّة، وهما من أكبر البحيرات على وجه الأرض، تحدث دورات المدّ بشكل متكرّر ممّا يؤدّي إلى تغييرات في مستوى المياه تُقدّر ببعض السّنتيمترات، لكنّه حركة رياح قليلة كافية حتّى تسبّب أمواجًا أعلى منها لدرجة أنّ عملية المدّ والجَزّر تصبح أبدًا غير محسوسة.   

كلّ المحيطات مترابطة فيما بينها، ووفقًا لقانون "الأواني المستطرقة" كنّا نتوقّع بأنّ فوارق الارتفاع النّاجمة عن حركة المدّ الدّوريّة والمتكرّرة ستكون متشابهة في كلّ نقطة على طول السّواحل. في الواقع الأمر مختلف، في كلّ شريط من الشّريط السّاحليّ على وجه الأرض تحدث تغييرات مختلفة في مستويات المياه. العوامل المؤثّرة على مدى التغيير هم: حجم المياه الموجودة بمقربة الشّاطئ وجغرافيا كلّ المنطقة، في الخلجان الضّحلة والمفتوحة تحدث تغييرات في مستوى المياه أكثر حدّة، كما في خليج فندي في شرق كندا، حيث تسبّب دورات المدّ المتكرّرة إلى ارتفاع مستوى المياه بأكثر من 16 مترًا، وهو الأكبر عالميًّا. في أحواض المياه ذات المداخل الضّيّقة، كما في البحر الأبيض المتوسّط وبحر البلطيق، تكون المضائق الّتي تغلقها بمثابة أَقْمَاع تعطّل حركة المياه، امّا تغييرات مستوى المياه الحاصلة فيها تكون أصغر.

إضافة إلى تأثير قوّة المدّ على المحيطات، فهي تؤثّر أيضًا على الغلاف الجويّ، وإلى حدٍّ ما حتّى على الكرة الأرضيّة ذاتها (المدّ الأرضيّ Earth tide). الأرض من جهتها تعاود تفعيل قوّة المدّ على القمر بشكل معاكس، ممّا يسبّب لها هزّات أرضيّة.

 

0 تعليقات