تقنيّات الرّادار؟ الهواتف المحمولة؟ الشّبكات الاجتماعيّة؟ معالجة الصّور؟ الذّكاء الاصطناعيّ؟ كلّ هذه الأدوات وغيرها تحت تصرّفنا لتقدير عدد الأشخاص المشاركين في المظاهرات، ولكن تقدير حشد في منطقة مفتوحة له، أيضًا، العديد من القيود.

تتجمّع الحشود الكبيرة لأسباب مختلفة مثل الحفلات الموسيقيّة، مراكز التّسوّق والمراكز السّياحيّة المزدحمة وفي المسيرات والاحتجاجات. أحيانًا، يكون من الضّروريّ تقدير حجم الحشد في مثل هذه التّجمّعات.

الطّريقة الأساسيّة لتقدير عدد الجمهور هي القيام بعدّ كلّ شخص في الحشد: في الحفلات الموسيقيّة، على سبيل المثال، يُسمح بدخول الأشخاص الّذين قاموا بشراء التّذاكر مُسبقًا، والّتي تكون محدودة لعدد معيّن، وبهذا تعكس عدد الحاضرين. أمّا في مجمّع التّسوّق، فعادة ما يكون بمدخله حارس أمن، يحمل، عادة، جهازًا لعدّ الأشخاص. تؤدّي كل نقرة على زرّ (كبسة) الجهاز إلى إضافة رقم بالعدّاد، وإذا كان هناك عدّاد إضافيّ عند الخروج من المجمّع، فمن الممكن طرح عدد الأشخاص المغادرين من الأشخاص القادمين، والحصول على عدد محتلن من الأشخاص الموجودين في المجمّع. يمكن إجراء عمليّة العدّ نفسها بشكل تلقائيّ إذا كان للمجمّع حاجز أو باب دوّار يمّر عبره شخص واحد فقط.

يُعتبر مدى التّقنيّات الخاصّة بعدّ الأشخاص، عند مدخل المجمّعات المحدّدة، واسعًا أيضًا. تتمثّل إحدى التّقنيّات الأساسيّة بوضع جهاز استشعار (مجسّ) بالأشعّة تحت الحمراء داخل جدران المدخل وأمامه جهاز ينبعث منه ضوء الأشعّة تحت الحمراء. طالما أنّ المستشعر يستقبل الضّوء المناسب، فهذا يعني أنّه لا يوجد أيّ جسم بينها. عندما يمرّ شخص عبر المدخل، يقوم بسدّ الشّعاع لبضع لحظات، فيتعرّف المستشعر على الانقطاع في استقبال الضّوء، ويقوم بإضافته لعدد للدّاخلين إلى المجمّع. مع ذلك، لهذه التّقنيّة سلبيّة وهي أنّه لا يمكن التّمييز بين شخص وأيّ جسم آخر يقف أمام المستشعر، ممّا يؤثّر على دقّة حساب عدد الأشخاص الّذين يدخلون معًا. هناك تقنيّة مشابهة تُستخدم على نطاق واسع في تحديد الأجسام، وهي تقنيّة تعتمد على الرّادار أو "الليدار" (LiDAR) وتعمل بطريقة مماثلة، لكن بدلًا من اكتشاف الضّوء المارّ، يستجيب الكاشف للضّوء العائد إليها، يرسل النّظام شعاع ليزر، وإذا عاد الشّعاع إلى الكاشف، فهذا مؤشّر أنّه اصطدم بجسم ما. يتيح الليدار الحصول على صورة أكثر تفصيلًا عن بنية العظم للشّخص المارّ عبر المدخل، وبالتّالي التّمييز بين شخص بالغ وطفل قصير نسبيًّا، وجسم صلب مثل عربة ذات شكل أوسع. توجد عدة تقنيّات إضافيّة مثل الكاميرات الحراريّة الّتي تميّز حرارة كائن ما، وتقنيّات تعتمد على معالجة الصّور، والّتي، على سبيل المثال، تقوم بعدّ رؤوس الأشخاص في صورة واحدة (لا تحتوي على الكثير من التّفاصيل).

كلّ هذه الإجراءات صالحة للمجمّعات الّتي لديها عدد محدّد من المداخل والمخارج الّتي يمكن تتبّعها. من ناحية أخرى، تجري المظاهرات في مناطق مكشوفة، وعادةً ما تكون غير محدّدة جيّدًا، ويتجمّع النّاس فيها من اتّجاهات مختلفة ومن تفرّعات شوارع عدّة. لذلك، يتطلّب تقدير جمهور كهذا، في مكان مفتوح وغير منظّم، وسائل مراقبة أخرى.


يمكن أن  توفّر البوّابات الذّكيّة،  من بين أشياء أخرى، صورة لعدد الأشخاص داخل المجمّع مع مداخل ومخارج محدّدة. محطّة قطار في ملبورن، أستراليا | تصوير: ymgerman, Shutterstock

العدّ في مكان غير محدّد

بدأت الأساليب الإحصائيّة لتقدير حجم الحشد في التّطوّر عام 1967 عندما سئم الصّحفيّ الأمريكي ّهربرت جاكوبس (Herbert Jacobs) من العدّ العبثيّ للرّؤوس في صورة حشد باستخدام عدسة مكبّرة. بدلًا من القيام بعدّ الرّؤوس، قدّر كثافة الحاضرين لكلّ وحدة مساحة. قام جاكوبس بالتّقدير أنّه في حشد واسع ومريح، يكون لكلّ شخص حوالي متر مربّع لنفسه، أمّا في حشد كثيف فيكون حوالي نصف متر مربّع، وبكثافة قصوى حوالي ربع متر مربّع لكلّ شخص. اليوم، تساهم الطّريقة السّائدة لعدّ الحشود في شمل وتوسيع فكرة جاكوبس: لتقدير عدد المشاركين، يتمّ تقدير مساحة التّجمّع أوّلًا. عادة بمساعدة المقارنة بين الصّور من التّجمّع، على سبيل المثال، صورة من كاميرا طائرة مسيّرة "درون" (drone). يتمّ تقدير الحجم الدّقيق لمنطقة التّجمّع من خلال مقارنة الصّور المأخوذة من التّجمّع مع الصّور الّتي تحتوي على أبعاد المناطق مثل خرائط "چوچل إريث" Google Earth أو "ماب تشيكينچ" MapChecking. تتمّ إزالة المناطق الّتي لا يمكن أن تتضمّن جمهورًا من الخريطة، على سبيل المثال المربّعات الّتي يوجد في وسطها تماثيل أو نوافير مائيّة.


عرض لقياس منطقة مختارة من مسرح هبيما في تل أبيب بمساعدة Google Earth

يتمّ تقسيم منطقة التّجمّع إلى مجموعة من المساحات الصّغيرة، لأخذ بعين الاعتبار أنّ الأجزاء الّتي فيها حشد تكون أكثر كثافة من غيرها. في كلّ جزء من المساحة الإجماليّة، يتمّ تقدير كثافة الحشد، وهي عدد الأشخاص لكلّ وحدة مساحة، ويتمّ ضربها في الكسر الّذي يمثّل المساحة المجتزأة للحصول على عدد الأشخاص في ذلك الجزء. مجموع الأشخاص من جميع الأجزاء يشكّل الحساب النّهائيّ لجميع الأشخاص الحاضرين في الحشد. يتمّ إجراء حساب أكثر دقّة بمساعدة الصّور من زوايا عدّة. تظهر بعض زوايا التّصوير الواسعة مع تأثير "عين السّمكة" الّذي يكون مشابهًا للنّظر من خلال ثقب الباب. عندما تكون حوافّ الصّورة مشوّهة تظهر المساحات ذات الحجم نفسه أكبر بالقرب من حوافّ الصّورة. اِلتقاط زوايا عدّة للصّورة نفسها، أو التّصحيح الرّياضيّ للصّورة يمكن أن يساعد في حلّ هذه المشكلة. 

في ظلّ التّقارير الإعلاميّة عن عدد المتظاهرين الحاضرين في مظاهرة الشّهر الماضي، قام عتنيئيل بن عمرا، الّذي يعمل في مجالات البيانات، باستعمال حسابات تستند إلى هذه المبادئ، بهدف التّحقّق من الأرقام المُبلَغ عنها. شرح عتنيئيل عن هذه الحسابات عبر شبكة التّواصل الاجتماعيّ "تويتر" (Twitter)؛ وضع 2.5 شخص لكلّ متر مربّع، وهو ما يعتبر حشدًا كثيفًا نسبيًّا بحسب مقياس جاكوبس. من خلال مراجعة صور للمظاهرة المنشورة في وسائل الإعلام، والّتي أُخذت بكاميرا طائرة مسيّرة "درون"، قدّر بن عمرا مساحة المظاهرة وقام بحساب هذين الرّقمين للحصول على تقدير لعدد المتظاهرين المتطابق إلى حدّ ما مع التّقارير في وسائل الإعلام. هذه الطّريقة البديهيّة لها العديد من السّلبيّات الّتي يمكن أن تضرّ بدقّة الأرقام.

يشير بن عمرا إلى التّصحيحات الّتي يجب أن يتمّ تضمينها في الحساب: أوّلًا، هذه الطّريقة مناسبة لفحص عدد الأشخاص الّذين يمكن أن يكونوا حاضرين في الحشد في لحظة معيّنة، أي جمهور ثابت - غير ديناميكيّ. خلال المظاهرة، يتبدّل المتظاهرون، وتميل الصّورة المنشورة في وسائل الإعلام إلى اعتبار لحظات الذّروة نسبةً لعدد المتظاهرين الحاضرين. لذلك، من الضّروريّ الأخذ بعين الاعتبار معدّل تبادل الأشخاص المتظاهرين. بالإضافة إلى ذلك، يعدّ تقدير كثافة الحشد في مناطق كبيرة أمرًا صعبًا: يميل الحشد إلى أن يكون أكثر كثافة بالقرب من مسرح المتحدّث، أو بنقاط تجمّع أخرى، وبينما يكون أقلّ كثافة في أطراف الحشد.


يعدّ حساب حشد كثيف ومنتشر على مساحة كبيرة تحدّيًا كبيرًا. رسم للحشود| تصوير: Chief Crow Daria, Shutterstock

الهواتف والذّكاء الاصطناعيّ

يمكن لشركات الهواتف المحمولة أن توفّر تقديرات لعدد الحاضرين بناءً على نشاط الاتّصالات في مناطق الهوائيّات الخلويّة، على الرّغم من أنّها لا تفعل ذلك دائمًا. بالإضافة إلى ذلك، تعاني بيانات هذه الشّركات من عدم الدّقّة لأنّه قد يتسبّب الضّغط باستعمال الهواتف الخلويّة في التّجمّعات الكبيرة والكثيفة بانقطاع محلّيّ للشّبكات الخلويّة. وكما رأينا في جائحة الكورونا، فإنّ طرق التّتبّع الخلويّ للأشخاص لها قيود إضافيّة.

أظهر الباحثون أنّه من الممكن أيضًا استخدام الشّبكات الاجتماعيّة الّتي تتضّمن معلومات حول موقع المستخدمين النّشطين كمقياس لعدد الأشخاص المتظاهرين، ولكن هذه الطّريقة تفترض أنّ كلّ شخص موجود يمكنه الاتّصال بالشّبكة الخلويّة. هناك تطبيقات معيّنة في الهواتف الذّكيّة تسمح بمعرفة موقعنا الجغرافيّ عبر نظام التّموضع العالميّ (GPS)، وبالتّالي يمكن لخدمات مثل "چوچل مابس" Google Maps تقدير عدد مستخدمي الخدمة في مناطق محدّدة.

يقوم الباحثون أيضًا باستخدام التّعلّم الآليّ لتقدير حجم وكثافة الجماهير الكبيرة من الصّور ومقاطع الفيديو، بحيث يمكن عدّهم باستخدام طرق التّعرّف على الأجسام الفرديّة، حتّى تتبّع تحرّكاتهم. يتمّ تحديد المناطق الّتي يوجد فيها متظاهرون عن طريق التّعرّف على الشّخصيّات بمساعدة خطوط بنية الجسد والسّمات البشريّة (مثل الوجوه والأطراف البشريّة).

تعتمد العديد من طرق معالجة الصّور على تمييز الحدود، الّتي تكون حادّة في طبيعة وحدات البكسل (Pixel) في الصّورة. على سبيل المثال، إذا أردنا تحديد شخص ما بصورة ذات خلفيّة معيّنة، فيمكننا المرور عبر مجموعات البكسل في الصّورة بطريقة منظّمة، وقياس التّغيّرات رقميًّا، مثل لون البكسل. بالإضافة إلى ذلك، من الممكن تعليم البرنامج التّعرّف على الحدّ الفاصل بين السّمات البشريّة والخلفيّة. يمكن أن تشير الحدود الطّويلة والبسيطة إلى أجسام كبيرة مثل المباني، بينما تصف مجموعة من الحدود الضّيّقة والصّغيرة أجسامًا أكثر تعقيدًا، مثل جسم بشريّ أو وجه.


مجموعة الحدود في الصّورة  هي نوع من رسم تخطيطيّ لخصائص الصّورة،  ومن الممكن الاعتماد عليها في الأنظمة الذّكيّة  لعدّ الحشود | المصدر: JonMcLoone, Wikipedia

يصبح التّعرّف إلى الأجسام الفرديّة غير عمليّ في صور الحشود الكبيرة والكثيفة. هناك طرق أخرى من عالم معالجة الصّور الّتي تعتمد على العديد من الخصائص لعدّ الأشخاص الموجودين في الصّورة، بما في ذلك كثافة وزوايا الحدود، كمّيّة البكسل المتطابقة وأيّ تقدير رقميّ آخر يمكن استخلاصه من مجمل البكسل في الصّورة.

يُعتبر عدّ الأشخاص في المظاهرات مشكلة معقّدة، تتميّز بالعديد من التّحدّيات، مثل الأسئلة المتعلّقة بالحدود الجغرافيّة للمظاهرة، وكيفيّة تقدير عدد الأشخاص خلال الحركة المستمرّة وتبادل الحشود أثناء الحدث، وكيفيّة تجنّب احتساب المارّة أو السّكّان المحلّيّين. بالإضافة إلى ذلك، عادة ما تكون أهمّيّة سياسيّة لعدد الأشخاص الحاضرين في المظاهرة، وقد تحاول بعض الأطراف تزوير الأرقام، لذلك، من الأفضل تجنّب التّعامل مع البيانات وفقًا للاهتمامات.

 

0 تعليقات