هل يتغيّر فيروس الكورونا بوتيرة مشابهة لفيروسات الإنفلونزا؟ ما الّذي يؤثّر على وتيرة التّغيير؟

"إن الشيطان الذي تعرفه خير من الشيطان الذي لا تعرفه". مقولة شعبيّة ذات مضمون تشاؤميّ، مفادها أنّ البقاء مع     مشاكل معهودة أفضل من مواجهة مشاكل جديدة. في هذه الفترة المشؤومة حين أصبح فيروس كورونا الجديد (SARS-CoV-2) المسبّب الرّئيس لكلّ أزمات العالم، فإنّ السّؤال الّذي يقلق العلماء هو: هل يتغيّر فيروس الكورونا وراثيًّا؟ هذا السّؤال علائقيّ جدًّا ضمن المحاولات للحدّ من الوباء.

يُسمّى التّغيير في سلسلة الشّيفرة الوراثيّة (الكود الجينيّ) الطّفرة، وهذا أمر طبيعيّ ضمن مسيرة النّشوء والتّطوّر. تُعتبر الطّفرة إيجابيّة أو سلبيّة أو حياديّة حسب دورها في بقاء وتكاثر الكائن الحيّ في بيئته. مثلًا في الفيروسات، تعتبر الطّفرة إيجابيًّة عندما تساعد الفيروس على التّملّص من مناعة المضيف، بينما تعتبر الطّفرة سلبيّة إذا أضعفت قدرة الفيروس على اختراق خلايا المضيف.   

خلال عمل المناعة، يتعرّض جهاز المناعة للجزء الخارجيّ من مبنى الفيروس الّذي يُسمّى مستضِدًّا (أنتيجين)، فيقوم جهاز المناعة بتشخيص المستضدّ والعمل ضدّه. يقوم جهاز المناعة بإنتاج ذاكرة مناعة ضدّ الفيروس. في المرّة القادمة عندما يواجه جهاز المناعة المستضدَّ نفسه يقوم بردّ فعل سريع وقويّ. الغلاف الخارجيّ للفيروس مبنيّ من بروتينات طبقًا للكود الجينيّ، لذلك، حدوث طفرة في هذا الكود قد يؤدّي إلى تغيير في مبنى بروتينات الغلاف الخارجيّ، والتّقليل من فعاليّة استجابة المناعة. إذا كان الأمر كذلك، فما هي آليّة التّغيّرات الجينيّة، وما هي درجة صمود الفيروس أمام جهاز المناعة؟ 
 

لا للانجرار

كما هو الأمر عند الكائنات الحيّة، تقوم النّباتات وكائنات حيّة دقيقة وفيروسيّة، بنقل المعلومات الوراثيّة من جيل لآخر عبر جزيئات الحمض النّوويّ DNA. لكنّ هذه ليست الطّريقة الوحيدة للحفاظ على المعلومات وتوريثها، فجزيء ال DNA لديه أخت توأم (تقريبًا) أكبر منه سنًّا تُسمّى RNA. يتشابه الجزيئان كيميائيًّا وبنيويًّا، ولكن يلعب كلّ منهما دورًا بيولوجيًّا مختلفًا. بالرّغم من قدرة ال RNA على الاحتفاظ بالمعلومات الوراثيّة، فإنّه يعمل، على الأغلب، وسيطًا مؤقّتًا بين ال DNA وإنتاج البروتينات. ولكن، لدى بعض الفيروسات تمّ الاحتفاظ باستخدام ال RNA كوسيلة تخزين في الجينوم (مجموع الجينات في الكائن Genome). فيروس الإيدز HIV، فيروسات الإنفلونزا وفيروسات عائلة الكورونا أمثلة بارزة على فيروسات تحمل موادّ وراثيّة من نوع RNA. عادة، ما يكون تراكم الطّفرات لدى فيروسات ال RNA أسرع من فيروسات أصحاب ال DNA، لأنّ منظومة مضاعفة ال DNA (نسخ الجينات Gene duplication) تحوي نظامًا لمراقبة وتشخيص أخطاء عشوائيّة، وهذا النّظام غير موجود في معظم فيروسات ال RNA.

عند مضاعفة الجينوم (نسخ الجينات Gene duplication)، تحدث أخطاء متكرّرة تغيّر من المبنى الخارجيّ للفيروس، هذه التّغيّرات تُسمّى "الزّيحان المستضدّيّ  Antigenic drift". هذه الآليّة في التّغيير هي الّتي تسبّب ظهور تغييرات طفيفة في أصناف الإنفلونزا كلّ شتاء. على الرّغم من أنّ كلّ الفيروسات تمرّ بعمليّة الزّيحان المستضدّيّ، إلّا أنّ وتيرة التّغيّر تختلف من فيروس لآخر. على سبيل المثال، فيروس الكورونا، بخلاف باقي فيروسات RNA، مجهّز بنظام لكشف (لموضعة) أخطاء المضاعفة (النّسخ)، وهكذا يقلّل من معدّل الطّفرات.

تؤثّر طريقة رزم الموادّ الوراثيّة للفيروس، أيضًا، على معدّل التّغيّرات الجينيّة. في فيروس الإنفلونزا، مثلًا، يتكوّن الجينوم من ثمانية جزيئات منفصلة من ال RNA، وهذا بخلاف فيروس الكورونا، حيث تتركّز كلّ مادّته الوراثيّة في جزيء واحد. هذا اختلاف جوهريّ يمكّن فيروسات الإنفلونزا من القيام بعمليّة "تحوّل مستضدّيّ Antigenic shift". هذه الآليّة تساهم في ظهور أنواع جديدة من الإنفلونزا مثل إنفلونزا الخنازير وإنفلونزا الطّيور. في هذه العمليّة يتمّ تبادل أجزاء كبيرة من الموادّ الوراثيّة بين أصناف فيروسات مقيمة في المضيف نفسه، وهكذا يتسارع معدّل التّغيّر الجينيّ الّذي يُضعف فعّاليّة اللّقاحات الموجودة. 

נגיפי קורונה | צילום במיקרוסקופ אלקטרונים: CAVALLINI JAMES / BSIP / SCIENCE PHOTO LIBRARY  קצב השינויים
تراكم الأخطاء يُحدث تغييرًا في مبنى الغلاف. فيروسات الكورونا كما تظهر عبر الميكرسكوب الإلكترونيّ المصدر:CAVALLINI JAMES / BSIP / SCIENCE PHOTO LIBRARY

 

وتيرة التّغييرات

يعتقد الباحثون أنّ معدّل حدوث طفرات في فيروس الكورونا أقلّ ب 2-4 من الإنفلونزا، ويصل إلى تغيير واحد أو اثنين شهريًّا. ورغم كون الطّفرة حدثًا عشوائيًّا، فإنّ مراقبة ورصد معدّل تراكم الطّفرات يخضع لعمليّة الانتقاء الطّبيعيّ لآليّة النّشوء والتّطوّر. وفقًا للنّموذج الحاليّ، وضمن عمليّة الانتقاء الطّبيعيّ، لاءمت الفيروسات نفسها مع الوتيرة الأنسب لتراكم الطّفرات. تساعد هذه الوتيرةُ الفيروساتِ على ملاءمة نفسها لظروف البيئة المتغيّرة، من جهة، والتّقليل من حدوث طفرات سلبيّة على الفيروس، من جهة ثانية.

تساعد المعلوماتُ حول الطّفرات الباحثينَ في تتبّع الانتشار الجغرافيّ للفيروس، وتنبّؤ أماكن تفشّي المرض حتّى قبل انتشاره. على سبيل المثال، عندما اكتشف باحثون جينوم مختلفًا في فيروس كورونا أصاب فتًى عمره 17 عامًا، عرفوا أنّ هذا الجينوم هو وليد فيروس أصليّ تمّ اكتشافه في المنطقة نفسها قبل بضعة أسابيع، وليس من حامل فيروس جاء به من مكان آخر. هكذا استنتج الباحثون أنّ الفيروس موجود في المنطقة، وتنبّؤوا، فعلًا، أن تتحوّل واشنطن إلى بؤرة لتفشّي المرض.

بخصوص مستقبل الفيروس، لا يزال السّؤال مفتوحًا دون إجابة قاطعة. صحيح أنّه تمّ فك شفرة الجينوم الخاصّة بالفيروس، ومن ثمّ إعلانها ونشرها بسرعة مع بداية تفشّي المرض، إلّا أنّ ذلك لا يعني خلوّ المعطيات من بعض الأخطاء، الأمر الّذي يتطلّب إعادة نظر في كلّ المعطيات. صعوبة أخرى تكمن في تقييم تأثير الطّفرات على نشاط الفيروس، لذلك، هناك حاجة ملحّة لإجراء عدّة تجارب تعتمد على إلصاق خلايا كائنات حيّة على الفيروس لفحص هذه التّأثيرات. سُمِعت في الأسابيع الأخيرة بعض التّصريحات حول تطوّر صنف فيروس جديد عدوانيّ، إلّا أنّ هذه التّصريحات قوبلت بالشّكّ من جانب المجتمع العلميّ (الأوساط العلميّة - الأكاديميّة).

يُعتبر حلّ لغز وتيرة التّغييرات في فيروس الكورونا، وفهم الآليّات الّتي تسبّب في ظهورها، أمرًا ضروريًّا لمواجهة الوباء، ودفع المجهودات في تطوير لقاح ضدّه. كما ويساهم التّقدّم في هذين الأمرين في التّنبّؤ مسبقًا بمواجهة فيروس مشابه في الشّتاء القادم، أو التّنبّؤ إن كان الفيروس سيتغيّر كلّيًّا، الأمر الّذي يدفعنا لمواجهة جديدة مع تفشٍّ خطير. يقدّم الوضع الحاليّ مثالًا رائعًا عن مواجهة العلم لتحدّيات من هذا النّوع اعتمادًا على تراكم معرفة علميّة سابقة.

 

 

الترجمة للعربيّة: د. علاء الدين سمارة
التدقيق والتحرير اللغوي: د. عصام عساقلة
الإِشراف والتدقيق اللغوي: رقيّة صبّاح أبو دعابس

0 تعليقات