ليست الكورونا فحسب! الفيروسات هي الكائناتُ البيولوجيّةُ الأكثر انتشارًا في البحارِ والمحيطات- ولها دورٌ مهمٌّ في تنظيمِ غازاتِ الدّفيئةِ في الجوّ وفي الحفاظِ على التوازنِ البيئيّ

على الرغمِ من ازديادِ وعيِ الجمهورِ بوجودِ الفيروساتِ، الّذي سبّبته جائحةُ الكورونا، فإنّ القليل منهم يعرفون أنّ الغالبيّةَ المطلقةَ من الفيروساتِ في الطبيعةِ لا علاقة لها بالأمراض الّتي تصيبُ البشر. الفيروساتُ في الواقعِ هي الكائناتُ البيولوجيّةُ الأكثرُ انتشارًا في البرِّ والبحرِ والمحيطات. قد يصلُ تركيزُ الفيروساتِ في المناطقِ القريبةِ من الشّاطئِ إلى عشرةِ ملايين فيروس في الميليلتر الواحدِ من مياه البحر، 5 - 25 ضعفًا من عدد البكتيريا الّتي تعيشُ في نفسِ الحجمِ من الماء. 

اكتُشفَ وجودُ الفيروساتِ في المنظوماتِ البحريّةِ، على الرغمِ من انتشارِها الكبيرِ فيها، في ثمانيناتِ القرنِ العشرين، بعدَ حوالي مئة عامٍ من اكتشافِ الفيروس لأوّل مرّة. نحنُ نعرفُ اليوم أنَّ الفيروسات تلعبُ دورًا أساسيًّا في البيئةِ البحريّةِ والعالميّة بما فيه ضبط كميّاتِ غاز الدفيئة، ثاني أكسيد الكربون، في الجوِّ وتنظيمِ مجموعاتِ الكائناتِ البحريّة. 

التحوُّل الفيروسيّ

تحتاجُ الفيروساتُ لخليّةٍ مُضيفةٍ للتّكاثر حيث لا تستطيعُ التكاثر بقواها الذّاتيّةِ. تستغلُّ الفيروساتُ الكائناتِ ذات الخلايا لهذا الغرض، بدءًا بالثديياتِ البحريّةِ، مرورًا بسمكِ القرشِ والأسماكِ بشكلٍ عامّ، وانتهاءً بالموردِ الأوسع انتشارًا والمُتاح لها: الكائنات المِجهريّة كالبكتيريا والطّحالبِ الدّقيقةِ المِجهريّة. 

تقومُ الطّحالبُ الدّقيقةُ بعمليّةِ التّمثيلِ الضّوئيّ- العمليّةِ الّتي يتمُّ فيها تحويلُ الماء وثنائي أكسيدِ الكربون إلى السُكّرياتِ الّتي تستخدمُها سائرُ الكائناتِ الحيّةِ في السلسلةِ الغذائيّةِ، من أسفلها إلى أعلاها، كمصدر للطّاقة. الأكسجينُ الّذي نتنفّسه هو ناتجٌ مُرافقٌ في هذه العمليّة. تتكاثرُ بعضُ أنواعِ الطّحالبِ الدّقيقةِ في مواسمَ مُعيّنةٍ بأعدادٍ كبيرةٍ مُكوِّنةً نباتات بحريّة على مساحات هائلة. هذه النباتات هي المسؤولةُ عن إنتاجِ جزءٍ كبيرٍ من الأوكسجين في الكرةِ الأرضيّة، وهي تختفي خلالَ بضع أيّامٍ بسببِ موتِ الطّحالبِ واسعِ النِّطاق. تشيرُ دراساتٌ كثيرةٌ إلى أنَّ الفيروساتِ مسؤولةٌ عن جزءٍ من موتِ الطّحالب الكبير إلى جانبِ عوامل أخرى مثل نقصِ الموادِّ الغذائيّةِ والإصابةِ بالبكتيريا عن طريقِ العدوى ونشاطِ الكائناتِ الكبيرةِ الّتي تلتهمُ هذه الطّحالب. 

تتفكّكُ خلايا الطّحالبِ عند انهيار النباتات البحريّة وتترسّبُ موادُّها العضويّةُ وتتناثرُ في البحر. يترسّبُ جزءٌ كبيرٌ من هذه الموادِّ في أعماقِ البحر ويتيحُ الحياةََ للكائناتِ في المناطقِ المظلمةِ في القاعِ حيثُ لا تصلُ إليها أشعّةُ الشمس. تنقُلُ الفيروسات، بهذه الآليّة، المادّةَ العضويّةَ من طبقاتِ البحرِ العليا إلى الطبقاتِ العميقة. تُسمّى هذه الظاهرة "التحوّل الفيروسيّ". تُشكّلُ هذه العمليّةُ جزءًا من آليّةِ مضخّةِ الكربون البيولوجيّة الّتي تنقلُ ثنائي أكسيد الكربون من الجوِّ إلى البحر وتتيحُ تثبيتَه في قاعِ البحر. تزدادُ أهميّةُ هذه العمليّةِ في العصرِ الحاضرِ بسببِ العلاقةِ الوطيدةِ بين تركيزِ ثنائي أكسيد الكربون في الجوّ وبين احترارِ الكرةِ الأرضيّة. 

تُصيبُ الفيروساتُ البحريّةُ البكتيريا أيضًا، وقد أظهرت دراسةٌ أجريَت في المحيطِ الأطلسيّ أنَّ الفيروساتِ هي المسؤولةُ عن 55 بالمئةِ من البكتيريا الميّتة في البحر. تنبعثُ الموادُّ الّتي تتكوّنُ منها خلايا البكتيريا عند موتِها إلى الماء ويمكنُ أن تستخدمَها كائناتٌ أخرى. هذا إسهامٌ آخر مهمٌّ تُسهمُ فيه الفيروسات في البيئةِ البحريّة. 

يتوجّبُ على الفيروساتِ إيجادُ الخليّةِ المُضيفةِ الّتي تُناسبُه- وهذه ليست مَهمّة سهلةٌ في أرجاء البحر المفتوح- لتقدرَ على التكاثر وتتركَ بصمتَها على المنظومةِ البيئيّةِ من خلالِ ذلك. وجدَ فريقٌ من الباحثين من إسرائيل ومن الولايات المُتّحدةِ الأمريكيّةِ، على رأسهم البروفيسور أساف ڤاردي من معهد وايزمان للعلوم، أنَّ إحدى الطُّرقِ الّتي تجدُ بها الفيروسات حصائرَ الطّحالبِ الدّقيقة هي وساطةُ السرطاناتِ الدّقيقةِ المُسمّاة مِجدافيّات الأقدام (Copepods). وجدَ الباحثون في بُرازِ المِجدافيّاتِ الّتي تمّ جمعُها من شمالِ المحيطِ الأطلسيّ فيروساتٍ تُصيبُ الطّحلبَ Emiliania huxleyi، المسؤول عن تكوُّنِ أكبر تجمّعات النباتات البحريّة في العالم. تنجذبُ المِجدافيّاتُ، الّتي تقتاتُ على الطّحلبِ، إلى المناطق الّتي يكونُ فيها تركيزُ الطحالبِ عاليًا فينتقلُ الفيروس إليها من الطّحالبِ بالعدوى.

קופיפודים תחת מיקרוסקופ | Laguna Design, Science Photo Library
تقتاتُ على الطّحالبِ الدّقيقة فينتقلُ الفيروس إليها بالعدوى. صورةُ المِجدافيّات تحتَ المِجهر | Laguna Design, Science Photo Library
 

سارقو التمثيلِ الضّوئيّ 

يتكوّنُ الفيروس، ضمن أشياء أخرى، من عُلبةٍ من البروتينات فيها مادّةٌ وراثيّةٌ. توجدُ أحيانًا في هذه العلبةِ مورِثاتٌ (جيناتٌ) "سرَقَها" الفيروس من خليّةِ الكائنِ الحيِّ الّتي استخدمها للتكاثر. اكتُشِفت، على سبيلِ المثال، فيروساتٌ فيها مورثاتٌ مسؤولةٌ عن عمليّة التمثيلِ الضّوئيّ داخلَ عيّناتٍ من مياه أُخِذت خلال رحلةٍ بحريّةٍ دراسيّةٍ في المحيطِ الأطلسيّ، علمًا بأنّ الفيروساتِ غيرُ قادرةٍ على القيامِ بعمليّةِ التمثيلِ الضوئيّ المُعقّدة بقواها الذاتيّة. 

يُمكنُ للفيروساتِ الّتي تحوي هذه المورثاتِ أن تتحكّمَ بعمليّاتِ التمثيلِ الضّوئيّ الّتي تحدثُ داخل خلايا البكتيريا الزرقاء (السيانوبكتيريا) المُصابةِ بهذا الفيروس. وُجِدَ خلال دراسة أجريت سنة 2017م، اشتركت فيها فرقُ أبحاثٍ من عدّةِ دول من ضمنها إسرائيل، أنّ البكتيريا الزرقاء المصابةَ بالفيروس زادت من عمليّةِ التمثيلِ الضّوئيّ فازدادت وتيرةُ تكاثرِ الفيروسات. يمكن الاستنتاجُ، بناءً على ذلك، أنَّ الفيروساتِ قد تُؤثِّرُ كثيرًا في مستوى التمثيلِ الضّوئيّ الّذي تقومُ به الكائناتُ أُحاديّة الخليّة في البحار، فتُؤثّرُ بالتالي في تثبيتِ ثنائي أكسيدِ الكربون وإنتاجِ الأوكسجين.

ציאנובקטריה | Hakan Kvarnstrom, Science Photo Library
تُؤثّر الفيروسات الّتي تُصيبُ البكتيريا في مستوى التمثيلِ الضّوئيّ. البكتيريا الزرقاء (السيانوبكتيريا) | Hakan Kvarnstrom, Science Photo Library
 

الفيروسات والشعاب المرجانيّة

تُؤثّرُ الفيروساتُ بطرق مختلفة في المرجانِ أيضًا. يمكنُ أن تُبيدَ الفيروساتُ الّتي تُسَبّبُ الأمراضَ شعابًا مرجانيّةً بأكملها، إلّا أنّ هناك فيروساتٍ تجدُ لها موطنًا داخلَ شعابٍ مرجانيّةٍ حيّةٍ ومزدهرة. يعتقدُ الباحثون أنَّ الفيروساتِ تلعبُ دورًا مركزيًّا في نقلِ المورِثاتِ إلى البكتيريا، مورثات تُغيّرُ خواصّ البكتيريا وتُؤثّرُ في قدرتها على القيامِ بالتمثيلِ الضّوئيّ أو في عمليّاتِ الأيضِ، كما أنّها تشتركُ، بصورةٍ غير مباشرةٍ، في انطلاقِ المُغَذّياتِ من المرجانِ إلى مياهِ البحر. تحتاجُ طحالبُ دقيقةٌ معيّنةٌ إلى هذه المُغذّياتِ لنموّها وبالتالي تتأثّرُ النباتات البحريّةُ الّتي تكوّنها الطّحالب كثيرًا بنشاطِ الفيروسات. 

تُهدّدُ التغيّراتُ المناخيّةُ في هذا العصر مستقبلَ شعابٍ مرجانيّةٍ كثيرة. قد تموتُ الطّحالبُ الدّقيقةُ الّتي تعيشُ بتكافلٍ مع المرجان أو تُهاجرُ إلى أماكنَ أكثرَ برودةً عندما ترتفع درجةُ حرارةِ المياهِ فوق حدٍّ معيّن. قد يلحقُ الضّررُ بالمرجان أو يموتُ هو الآخر نتيجةً لذلك. تُسمّى هذه الظاهرة "ابيضاض المرجان" بسببِ اللّون الأبيضِ الّذي تنطلي به الشعابُ المرجانيّةُ عند فقدانِ الطّحالبِ المُلوّنةِ الّتي كانت تعيشُ في داخلها. 

تُصيبُ الفيروساتِ الطحالبَ الدّقيقةَ الّتي تعيشُ بتكافلٍ مع المرجان. تبيّنَ في دراسة أُجريت في شعبة الحاجز المرجانيّ العظيم في أستراليا أنّ الفيروساتِ الّتي اعتادت العيشَ مع الشّعبةِ بسلامٍ تُهاجمُ الطّحالبَ الدّقيقةَ وتؤدّي إلى ابيضاضِ الشعبة عندما ترتفعُ درجةُ حرارةِ الماءِ خمسَ درجاتٍ فوقَ درجة حرارته الاعتياديّة.

שונית אלמוגים | Laura Dts, Shutterstock
وجدَ الباحثون أنّ ارتفاع درجة حرارة مياه شعبة الحاجزِ المرجانيّ العظيمِ في أستراليا يحُثُّ الفيروساتِ على مهاجمةِ الطّحالب الدّقيقة وإلحاقِ الضّررِ بالمرجان. في الصورة: شعبةٌ مرجانيّة | Laura Dts, Shutterstock
 

فيروسات لصالح الشبكةِ الغذائيّة

قد يختلُّ التوازنُ البيئيّ المحيطُ بنوعٍ معيّنٍ من الكائناتِ الحيّةِ عندما يزدادُ ازدهارُ هذا الكائن ويعلو عن حدّهِ العاديّ، الأمرُ الّذي قد يؤدّي إلى إبادةِ الحيواناتِ أو النباتاتِ الّتي يتغذّى عليها. تلعبُ الفيروسات دورَ كابح جماح نموِّ مجموعاتٍ كثيرةٍ من الكائنات في البرّ والبحر. تزدادُ وتيرةُ انتقال العدوى إلى المجموعاتِ الكبيرةِ والكثيفةِ من الكائناتِ وإصابتها بالفيروس، الأمرُ الّذي يُعيقُ استيلاءَها على محيطِها على حسابِ الأنواعِ الأخرى. يتداورُ ازدهارُ نموِّ الأنواع المختلفةِ من الكائناتِ الحيّةِ وموتها بفضلِ الإصابةِ بالفيروسات، على غرار ديناميكيّةِ الافتراس. يمكنُ أن تبقى الفيروساتُ أحيانًا بحالةِ ركودٍ داخلَ الخلايا، الأمرُ الّذي يتيحُ هذه الدّيناميكيّة. يكونُ الفيروس في مثلِ هذه الحالةِ موجودًا داخل الخليّةِ المُضيفةِ لكنّه لا يُميتها. ليس واضحًا بما فيه الكفايةِ كيف ومتى تتحوّلُ الفيروسات من حالةِ الركودِ إلى حالةِ العنفِ، لكن من المعروف أنّ ازديادَ كثافةِ الطّحالبِ الدقيقةِ عندَ تزايدِ نموّها وازدهارها يضعُها في ضائقةٍ تُشجّعُ الفيروس على التحوّل إلى الوضعيّة العنيفة

قد تؤدّي التغيُّراتُ المناخيّةُ أيضًا إلى تغيير إسهامِ الفيروساتِ في الشّبكةِ الغذائيّة. يؤدّي ارتفاعُ تركيز ثنائي أكسيد الكربون في المحيطاتِ إلى ازديادِ حامضيّةِ مياهها إلى جانبِ الارتفاع في درجةِ الحرارة. يتوقّعُ الباحثون ازديادَ الحامضيّةِ ازديادًا ملحوظًا حتّى نهايةِ القرنِ الحاليّ (القرن الحادي والعشرين الميلاديّ). قد يؤدّي ازديادُ الحامضيّةِ إلى إلحاقِ الضّرر بنواعِ الطّحالبِ الدّقيقةِ والّتي يكون هيكلُها الخارجيّ غنيًّا بالكلس مثل طحالبِ Emiliania huxleyi المسؤولةِ عن تكوينِ تجمّعات النباتات البحريّة الضّخمةِ في المحيطات، إذ يتحلّلُ هيكلها الكلسيّ بدرجة حموضة عالية

تمَّ، في دراسات كثيرة، فحصُ تأثيرِ المناخِ على وتيرةِ عدوى الفيروساتِ البحريّةِ. تشيرُ هذه الدّراسات إلى ازديادِ وتيرةِ تكاثرِ البكتيريا أو الطحالبِ الدّقيقةِ، مصحوبًا بارتفاعِ وتيرةِ العَدوى بالفيروسات، عندما يبلغُ ارتفاعُ درجة الحرارةِ 15 درجة مئويّة في الأماكنِ الباردة. أظهرت دراساتٌ أخرى، على الرغمِ من ذلك، اتّجاهًا معاكسًا في المناطقِ الأكثر حرارة، أي أنّها أظهرت انخفاضًا في وتيرةِ العدوى بالفيروس مع ارتفاعِ درجةِ الحرارة. ليس واضحًا بعدُ سببُ ذلك ويبدو أنّ وتيرةَ العدوى تتأثّرُ بعواملَ أخرى لم تتّضح معالمُها بعد.

أظهرت دراساتٌ أخرى أنّ مدى توفُّر الموادِّ الغذائيّةِ كالفوسفور والنيتروجين والحديد قد يُؤثّرُ هو الآخر في قدرةِ عدوى الفيروساتِ البحريّة. تحدثُ مثلُ هذه التغيّرات أحيانًا قربَ الشاطئ، خاصّةً في أعقابِ تصريفِ المياه العادمة الملوّثة في مجاري المياه. على الرغمِ من الدّراساتِ الكثيرةِ الّتي أُجريت ولا تزال تُجرَى في هذا الموضوع، ما زلنا بعيدين عن الفهم العميق للعواقب الكاملةِ المترتّبةِ عن تغيّرِ المناخ على نشاط الفيروسات البحريّة وتأثيرها في البيئة بأكملها. 

 

0 تعليقات