من نظريّة تهدف بالأساس إلى "تحريك عجلات" الثّورة الصّناعيّة - أحدثت القوانين الأربعة للدّيناميكا الحراريّة ثورة في جميع مجالات العلوم الطبيعيّة

الدّيناميكا الحراريّة هي أحد فروع الفيزياء الّذي يتعامل مع العلاقة بين الحرارة والطّاقة وإنتاج العمل من الأنظمة الفيزيائيّة. تحوي الدّيناميكا الحراريّة أربعة قوانين أساسيّة، والّتي على غرار القوانين الفيزيائية الأخرى، تعتبر أساسًا لنظريّة واسعة تتناول جميع مجالات العلوم الطبيعيّة. تظهر أهمّيّتها بشكل خاصّ في مجالات الكيمياء وعلم الأحياء.

تطوّرت الدّيناميكا الحراريّة إلى حدّ كبير خلال القرن التّاسع عشر، في ذروة الثّورة الصّناعيّة. كان الهدف من وراء تطوّرها بالأساس هو تمكين العلماء والمهندسين من الفهم العميق، لكيفيّة استخدام الطّاقة الّتي تنتجها الآلات بشكل أمثل، مثل المحرّك البخاريّ. لذلك، ركّزت على أسئلة مثل ماذا يحدث للغاز عند انتشاره أو ضغطه، وعلى العمليّات الّتي تحدث في المحرّكات البخاريّة ومحرّكات الاحتراق الدّاخليّ - وهو نوع شائع جدًّا من المحرّكات الموجودة، على سبيل المثال، في السّيّارات الّتي تعمل بالوقود.


مجموعة من القوانين المخصّصة لفهم كيفيّة الاستفادة بشكل أفضل من طاقة الآلات. قطار تجرّه قاطرة تعمل بمحرّك بخاريّ | تصوير: jgorzynik, Shutterstock

من الطّاقة إلى درجة الحرارة

تتضمّن الديناميكا الحراريّة مفاهيم أساسيّة مهمّة في الفيزياء، وأوّلها الطّاقة. عندما يتحدّث الفيزيائيّون عن الطّاقة، فإنّهم يشيرون إلى مقياس يميّز الجسم، أو نظام من الأجسام، ويصف الحالة الفيزيائيّة للجسم في وقت معيّن. على سبيل المثال، تحمل الكرة المستقرّة على قمّة جبل طاقة كامنة للجاذبيّة، أي ناشئة من الجاذبيّة، والّتي يمكن حساب حجمها. إذا تدحرجت الكرة إلى أسفل سفح الجبل، فإنّها ستفقد الطّاقة الكامنة للجاذبيّة، وستُستبدَل بالطّاقة الحركيّة. أمّا إذا اصطدمت الكرة بكرة أُخرى، فإنّها قد تنقل إليها بعضًا من طاقتها الحركيّة وتتسبّب في تحرّكها أيضًا. هناك العديد من أنواع الطّاقة الأخرى، مثل تلك المختزنة في نابض مضغوط (الطّاقة المرنة)، أو تلك المختزنة في بطّارية مشحونة (الطّاقة الكيميائيّة).

العمل هو عمليّة يمارس فيها جسم أو نظام فيزيائيّ قوّة على جسم آخر، ونتيجةً لذلك ينقل الطّاقة إليه. عندما اصطدمت الكرة الّتي تدحرجت إلى أسفل الجبل بكرة أخرى، ونقلت إليها بعضًا من طاقتها، نقول إنّها بذلت شغلًا عليها.

بالاضافة إلى ذلك، يمكن أن يفقد الجسم طاقته من خلال العمل الّذي يؤدّيه على جسم آخر، أو من خلال آليّة أخرى تُسمّى الحرارة. عندما نتحدّث عن الحرارة في اللّغة اليوميّة، فإنّنا نعني في الواقع درجة حرارة مرتفعة - كما يحدث عندما يقبّل الأب جبين ابنته المريضة ويقول: "لديكِ حُمّى" – أي ارتفاع بدرجة حرارة جسمها. ومع ذلك، يختلف المعنى في السّياق الفيزيائيّ: الحرارة هي الطّاقة الّتي تنتقل بين الأجسام بسبب اختلافات درجات الحرارة. هذا أيضًا ما يحدث عندما نضع مقلاة باردة على موقد كهربائيّ ساخن؛ ستسخن المقلاة بسبب انتقال الحرارة من الموقد إليها.

تُعد إنتروبيا (Entropy) النّظام الفيزيائيّ إحدى الخصائص الّتي ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالدّيناميكا الحراريّة. تعبّر الانتروبيا عن الطّاقة الحراريّة المحتجزة في النّظام، ولكنّها غير متاحة للقيام بالعمل. بكلمات أخرى، يمكن تعريف الانتروبيا على أنّها درجة الفوضى في النّظام؛ على سبيل المثال، في بلّورة الجليد، تترتّب الجزيئات بطريقة دوريّة ومنظّمة. لكن عند ذوبان البلّورة، سوف تتحرّك و تتمازج هذه الجزيئات بشكل غير منظّم في السّائل، ممّا يعني أنّ إنتروبيا السّائل أعلى من أنتروبيا المادّة الصّلبة.

بالإضافة، إحدى الخصائص هذه هي درجة الحرارة. يبدو أنّ مفهوم الحرارة واضح وبديهيّ - إذا كان الجوّ حارًّا بالخارج، وتصل درجة الحرارة في الظّلّ إلى 30 درجة مئويّة، فسنشعر بالحرارة أكثر بكثير من صباح الشّتاء البارد، الذي تبلغ فيه درجة الحرارة 5 درجات مئويّة. مع ذلك، الحدس ليس فيزياء. ماذا يعني فيزيائيًّا أنّ درجة حرارة الهواء، أو أجسامنا، تبلغ 37 درجة مئويّة؟

يرتبط مفهوم درجة الحرارة بنقل الطّاقة بين الأجسام، أو بين الأنظمة. عادةً، تتخزّن الطّاقة الحراريّة في الجسم، وفقًا لدرجة حركة الجزيئات الّذي يتكوّن منها. على سبيل المثال، متوسّط ​​سرعة الجزيئات في الهواء عند درجة حرارة 30 درجة مئويّة، أعلى من سرعة الجزيئات عند درجة صفر مئويّة.

تتحرّك الجزيئات حتّى في الموادّ الصّلبة، لكنّ حركتها تقتصر على اهتزازات صغيرة فقط. لذلك، كلّما كانت الطّاقة الحراريّة مرتفعة أكثر للمادّة الصّلبة، سيزداد بداخلها الاهتزاز. بالإضافة، تختلف حركة الجزيئات في الهواء عن اهتزاز الجزيئات الموجودة في الجدار، لكن هذا لا يمنع الطّاقة من المرور فيما بينها. في الحالة الّتي لا يوجد فيها انتقال صافٍ للطّاقة بين الهواء والجدار، يُقال إنّ لكليهما نفس درجة الحرارة. في هذه الحالة لا يتمّ انتقال الحرارة بين الأجسام، ما يسمّى "التّوازن الحراريّ". بكلمات أخرى، تعتبر درجة الحرارة هي المقياس الّذي يسمح بتحديد ما إذا كان جسمان في حالة توازن حراريّ.


يمكننا الطّهي بفضل نقل الحرارة من الموقد إلى المقلاة، أي نقل الطّاقة بسبب اختلاف درجات الحرارة بين الأجسام. مقلاة على الموقد| تصوير:  ulianiculaie, Shuterstock

القانون صفر للدّيناميكا الحراريّة : درجة الحرارة

إنّ القوانين الأربعة للدّيناميكا الحراريّة مرقّمة بطريقة غريبة إلى حدّ ما: فبدلًا من ترقيمها من واحد إلى أربعة، يبدأ التّرقيم من الصّفر. ويعتبر السّبب وراء ذلك تاريخيًّا: فقد طُوّرت القوانين الثلاثة الأصليّة بين منتصف القرن التّاسع عشر وبداية القرن العشرين. وأُضيفَة قانون أكثر أساسيّة إليهم فقط في الثّلاثينيّات من القرن العشرين. ونظرًا لأهمّيّته، وُضِعَ قبل القوانين الثّلاثة الّتي سبقته وسُمِّي "قانون الصّفر".

ينصّ قانون الصّفر على أنّه إذا كان هناك جسمان في حالة توازن حراريّ مع جسم ثالث، فإنّهما أيضًا في حالة توازن مع بعضهما. في اللّغة الرّياضيّة من الممكن تعميم هذا القانون على أيّ عدد من الأجسام، ومن ثمّ الإشارة إلى أّن هناك مقياسًا مطلقًا يصف التّوازن الحراريّ بين الأجسام - درجة الحرارة.

بالأساس، هذا هو المبدأ الّذي يعتمد عليه قياس درجة حرارة الأجسام. تعتمد معظم موازين الحرارة على مكوّن ذي خاصيّة قياس سهلة بحيث يتغيّر وفقًا لطاقته الحراريّة. عند استخدام موازين الحرارة، علينا تقريبها إلى الجسم الّذي نرغب بقياس درجة حرارته، حتّى يصل إلى التّوازن الحراريّ. على سبيل المثال، عندما نضع مقياس الحرارة في فمنا، فإنّه يسخن بسرعة من ملامسته لتجويف الفم وتتغيّر مقاومته تدريجيًّا، حتّى تستقرّ عندما تتوازن حراريًّا. يعود ذلك لوجود سلك معدنيّ في طرف موازين الحرارة الكهربائيّة المخصّصة لقياس درجة حرارة الجسم، والّذي تتغيّر مقاومته وفقًا لدرجة الحرارة.  


حتّى قياس الحرارة البسيط يعتمد على قانون ديناميكيّ حراريّ ليس بهذه البساطة. فتاة لديها مقياس حرارة في فمها | تصوير: Tagwaran, Shutterstock

القانون الأوّل للدّيناميكا الحراريّة: قانون حفظ الطّاقة

ينصّ القانون الأوّل للدّيناميكا الحراريّة على أنّ أيّ تغيّر في الطّاقة الدّاخليّة لجسم ما، يساوي إجمال الحرارة الدّاخليّة إلى الجسم من البيئة المحيطة به، ناقص العمل الّذي قام به الجسم على البيئة المحيطة به. يُعتبر القانون الأوّل نتيجةً لقانون حفظ الطّاقة المعروف من الميكانيكا الكلاسيكيّة، والّذي ينصّ على أنّ الطّاقة لا تُستحدَث من العدم، ولا تنعدم، بل تنتقل من جسم إلى آخر أو تتغيّر من نوع طاقة إلى آخر.

المثال النّموذجيّ لهذا القانون هو ما يحدث للغاز في محرّك السّيارة - يكون الهواء مع خليط الوقود محصورًا داخل المكبس، كالموجود في محرّك السّيّارة، وينتشر بعد تشغيل المحرّك. ستتحدّد الحالة النّهائيّة للغاز في المكبس وفقًا لضغطه ودرجة حرارته، بحيث تتأثّر حالته من مقدار الشّغل الّذي يؤدّيه الغاز على المكبس، عند دفعه بهدف تدوير عجلات السّيّارة، وكمّيّة الحرارة الّتي تنتقل من الغاز إلى ما يحيط به - جدار المكبس.


لا يقوم المحرك بتدوير عجلات السّيّارة فحسب، بل ينتج أيضًا الكثير من الحرارة. مكابس محرك احتراق داخليّ في السّيّارة | تصوير: jannoon028, Shutterstock

القانون الثّاني للدّيناميكا الحراريّة: الحرارة تتدفّق دائمًا من الجسم السّاخن الجسم البارد

يوجد عدّة صيغ من المعادلات الرياضيّة للقانون الثّاني للدّيناميكا الحراريّة، والّتي لها معانٍ بعيدة المدى. تنصّ إحدى الصّيغ على أنه لن يكون هناك انتقال تلقائيّ للحرارة من الجسم البارد إلى الجسم السّاخن. وهذا يعني أنّه من غير الممكن أن يسخن فنجان قهوة فاتر الذي تُرك في غرفة مكيّفة، بدلًا من أن يبرد. هذا استنتاج بديهيّ لجميعنا، كما وتكمن قوّة هذا القانون أوّلًا وقبل كلّ شيء في توضيح الرّياضيات وراء هذه القاعدة.

أحد الاستنتاجات الّتي تنبع من هذا القانون، هو أنّه لا يمكن أن تتحقّق آلة تحول الطّاقة الحراريّة إلى عمل، فالحسابات توضّح أنّ في هذه الحالة يجب أن يحدث انتقال تلقائيّ للحرارة من البارد إلى السّاخن. تعتبر آلة كهذه من آلات الحركة الدّائمة. فبكل آلة تنتج عمل معيّن، يجب أن تنتقل الحرارة من الجسم السّاخن إلى الجسم البارد، وبشكل منطقيّ، سيكون هناك دائمًا فقدان للطّاقة بسبب الاحتكاك.

من الممكن بالطّبع نقل الحرارة من الجسم البارد إلى السّاخن، ولكن لتحقيق ذلك يجب أن نقوم ببذل عمل. على سبيل المثال، عندما نقوم بتشغيل مكيّف الهواء في يوم صيفيّ حارّ، فإنّه سينقل الطّاقة الحراريّة من الغرفة المبرّدة الّتي تبلغ حرارتها حوالي 27 درجة مئويّة، إلى الهواء الخارجيّ الّذي يمكن أن تكون درجة حرارته أكثر من 30 درجة مئويّة. تمّ تبريد الهواء في هذه الحالة عن طريق بذل عمل من خلال الكهرباء.

بالإضافة إلى ذلك، يحدّد القانون الثّاني أيضًا وجود الأنتروبيا، ويترتّب على ذلك أنّ الأنتروبيا في أي نظام مغلق -بما في ذلك الكون بأكمله- لا يمكن أن تنخفض، بل تبقى كما هي أو تزيد.


يقوم المكيّف بنقل الطّاقة الحراريّة من الغرفة الّتي يبردها إلى الهواء الخارجي، وبالتالي إنتاج العمل على شكل كهرباء. محرّكات مكيف الهواء على السطح | تصوير: Peter Galleghan, Shutterstock

القانون الثّالث للدّيناميكا الحرارية: الانتروبيا عند الصّفر المطلق

يتناول القانون الثّالث للدّيناميكا الحراريّة قيمة الأنتروبيا عندما تصل درجة الحرارة الصّفر المطلق. يعتبر الصّفر المطلق أدنى درجة حرارة ممكنة، وتبلغ -273.15 درجة مئويّة، أي 273.15 درجة تحت نقطة تجمّد الماء عند مستوى سطح البحر. وُجِد هذا القانون حتّى قبل تطوير نظريّة الدّيناميكا الحراريّة. يحدّد القانون الثّالث للدّيناميكا الحراريّة الظّروف عند الصّفر المطلق رياضيًّا، وينصّ على أنّه عندما تقترب الحرارة من الصّفر المطلق، تقترب قيمة الأنتروبيا نحو قيمة ثابتة. يمكن أن تكون هذه القيمة صفرًا، ولكن ليس بالضّرورة.

أحد الاستنتاجات الّتي تنبع من هذا القانون، هو أنّه من المستحيل الوصول إلى الصّفر المطلق، لأنّ كلّ خطوة تبريد تتطلّب المزيد من الطّاقة. أي أنّه من الممكن تبريد بعض الأنظمة إلى درجات حرارة منخفضة جدًّا، قريبة للصّفر، ولكن ليس بالتّحديد، لأنّ ذلك سيتطلّب العديد من خطوات التّبريد. أدنى درجة حرارة تمّ التّوصّل إليها في المختبر حتّى يومنا هذا هي 38 تريليون درجة فوق الصّفر المطلق. وقد قُدِّرت درجة الحرارة المنخفضة جدًّا هذه في مجموعة مكوّنة من حوالي مائة ألف ذرّة، الّتي حُفِظَت في جهاز خاصّ يتضمّن مجالات مغناطيسيّة وظروف انعدام الجاذبيّة. قُدِّرَت درجة الحرارة بناءً على قياس حركة الذرات.

ساهمت القوانين الأربعة للدّيناميكا الحراريّة، الّتي وُلدت أساسًا "لتحريك عجلات" الثّورة الصّناعيّة، بوضع الأساس لواحدة من أهمّ النّظريّات المركزيّة في العلوم الطبيعيّة، بدءًا من الأحداث الكونيّة الّتي تشمل المجرّات بأكملها وخارجها، وانتهاءً بالعمليّات الجزيئيّة الحيويّة، الّتي تحدث على نطاق مجهريّ في خلايا الكائنات الحيّة. لذلك ربّما يمكن النّظر إليها إلى حدّ كبير على أنّها نظريّة عن الكون والحياة، وكلّ شيء آخر تقريبًا. 

 

0 تعليقات