يفحص الباحثون ما إذا كان المكوث تحت ظروف انعدام الجاذبيّة يمكن أن يساهم في مكافحة الأورام الخبيثة. قد تساعد مخطّطات استعمارالمرّيخ في الوصول للجواب.

"إنّها خطوة صغيرة بالنّسبة للإنسان، لكنّها قفزة هائلة للبشريّة" - هذه هي كلمات نيل أرمسترونغ وهو يخطو خطواته الأولى على القمر الّتي حُفِرَت في ذاكرة كلّ منّا. أثارت هذه الخطوة التّاريخيّة، أيضًا، العديد من الأسئلة حول الإمكانات والمخاطر الكامنة في الرّحل الفضائيّة. على سبيل المثال، كيف ستؤثّر الإقامة في ظروف انعدام الجاذبيّة على الجسم وعلى تطوُّر أمراض مثل السّرطان؟

 بدأت الدّراسات حول العلاقة بين ظروف انعدام الجاذبيّة (ظروف الجاذبيّة الصّغرى) والسّرطان في نهاية الألفيّة السّابقة.  خلال مهمّة مكّوك الفضاء "كولومبيا" عام 1998، أُجريت تجربة تمّت فيها تنمية خلايا كلى بشريّة في مستنبت لمدّة ستّة أيّام. بعد الهبوط على الأرض، قاموا بفحص التّغييرات الّتي طرأت عليها مقارنةً بخلايا مماثلة  تمّ تنميتها على الأرض.

 أظهرت نتائج الدّراسة أنّ البقاء تحت ظروف الجاذبيّة الصّغرى أثّر على فعاليّة 1632 جينًا من أصل 10000 تمّ فحصهم خلال التّجربة. لاحظ الباحثون أنّه في مستنبت الخلايا الّذي كان على الفضاء طرأ انخفاض في فعاليّة الجينات المسؤولة عن مبنى هيكل الخليّة، والتصاقها بالخلايا المجاورة، وآليّة الموت الخلويّ. بالمقابل، زاد نشاط الجينات الّتي تتوسّط عمليّة "الاستجابة الخلويّة للضّغط" 

 كانت هذه أوّل تجربة تُظهِر أنّ الجاذبيّة الضّعيفة يمكن أن تؤثّر على مجموعة واسعة من الجينات في الخلايا المختبريّة. من هنا نشأت/طُرِحت الفرضيّة أنّ ظروف انعدام الجاذبيّة يمكن أن تُحدِث تغييرًا في إنتاج البروتينات في الخلايا السّرطانيّة، وقد تشكّل أساسًا لتطوير العلاجات والأدوية.

 

 إجراء أبحاث تحت ظروف انعدام الجاذبيّة

بما أنّه لا تُطلَق مهمّة فضائيّة  كلّ يوم، احتاج العلماء إلى أفكار إبداعيّة أُخرى لفحص تأثير ظروف انعدام الجاذبيّة على الخلايا السّرطانيّة. إحدى الطّرق الّتي استُخدِمت هي صواريخ البحث الباليستيّة (صواريخ قوسيّة) الّتي تصل إلى ارتفاع عشرات الكيلومترات، وخلال مسارها النّصف دائريّ، تتكوّن فيها ظروف تحاكي الجاذبيّة الصّغرى (الجاذبيّة الضّعيفة) لبضع دقائق. طريقة أخرى هي إطلاق طائرة تطير بمسار نصف دائريّ. خلال دورة طيران واحدة، يشعر ركّاب الطّائرة  بانعدام الوزن لمدّة 25 ثانية، ويمكن للطّائرة تكرار المناورة حتّى 40 مرّة.

هذه الطّرق  جميعها مكلفة جدًّا ومقيّدة بالوقت، ومن هنا نشأت الحاجة إلى تطوير أجهزة تحاكي ظروف الجاذبيّة الصّغرى على الأرض.  طوّر العلماء لهذه الغاية أدوات مثل الكلينوستات Clinostat أو Random Positioning Machine، الّتي تدور حول محور واحد أو أكثر لمنع تأثير قوّة الجاذبيّة ومحاكاة ظروف الجاذبيّة الصّغرى. يمكن دراسة التّغييرات الفسيولوجيّة والوراثيّة الّتي تطرأ على الخلايا من خلال وضع الأنبوب الاختباريّ للخلايا السّرطانيّة داخل أحد هذه الأجهزة.

 منذ عام 1998، تمّ إجراء عشرات الدّراسات حول تأثير الجاذبيّة على خلايا السّرطان البشريّة. أحد الاكتشافات البارزة هو أنّه في ظروف الجاذبيّة الصّغرى يتغيّر مبنى الخليّة  ويتحوّل شكلها إلى كرويّ. في النّهاية تنفصل الخلايا عن الطّبق المختبريّ وتتحوّل إلى أشكال كرويّة ثلاثيّة الأبعاد.

תרבית תאים במכשיר קלינוסטט. צילום מתוך Svejgaard et al., PLoS One
 محاكاة ظروف انعدام الجاذبيّة: مستنبت خلايا في جهاز الكلينوستات (جهاز الانتحاء الأرضيّ). الصّورة من: Svejgaard et al., PLoS One

 

ردود فعل متناقضة 

في محاولة لفهم ما إذا كان الانتقال إلى مبنى ثلاثيّ الأبعاد يساعد أو يعطّل عمل الخلايا السّرطانيّة، فحصت الدّراسات تأثير ظروف الجاذبيّة الصّغرى على البروتينات والجينات الّتي تشترك في عمليّات مثل انقسام الخلايا، انتقالها، إنتاج النّقائل وموت الخلايا المبرمج. في مقال يستعرض الدّراسات الّتي جُمِعت حتّى عام 2018 ، تبيّن أنّ النتائج لم تكن متّسقة/ متناسقة، وإنّما اختلفت بحسب: نوع السّرطان المدروس، طريقة محاكاة الجاذبيّة الصّغرى والمدّة الّتي مكثت فيها الخلايا في هذه الحالة.

مثلًا، في حين أنّ وتيرة انقسام خلايا سرطان الأمعاء وسرطان الرّئتين انخفضت تحت ظروف الجاذبيّة الصّغرى، زادت وتيرة انقسام خلايا سرطان الثّدي تحت هذه الظّروف، حتّى عند استعمال خلايا سرطان الثّدي من نفس الشّخص، الّذي مكث لفترات زمنيّة مختلفة تحت ظروف الجاذبيّة الصّغرى الّتي أُنتجت/تكوّنت بطرق مختلفة،  تطرأ في بعض الأحيان زيادة في موت الخلايا وأحيانًا انخفاض.

تؤكّد النّتائج المتناقضة أنّ هناك عوامل كثيرة تُدخِل  "الضّوضاء" إلى هذه المنظومات التّجريبيّة وتصعّب علينا الحصول على نتائج دقيقة. كما أنّ استخدام مستنبتات الخلايا بدلًا  من فحص السّرطان في الجسم الحيّ يحدّ، أيضًا، من قدرتنا على الوصول إلى استنتاج قاطع.

 

 في الطّريق إلى المرّيخ

لم يستسلم العلماء حتّى الآن، فهم مستمرّون بالسّعي وراء اكتشافات جديدة. أحد هؤلاء العلماء هو المهندس البيوطبّيّ جوشوع تشو (Chou) من الجامعة التّكنولوجيّة في سيدني، الّذي أفاد أنّ %90 من الخلايا السّرطانيّة البشريّة الّتي تمّت تنميتها في أنابيب اختباريّة تحت ظروف الجاذبيّة الصّغرى ماتت أو عامَت في أنبوب الاختبار دون أيّة قدرة على التّمسّك بالوسط الغذائيّ أو بالخلايا الأخرى. وقد تكرّرت هذه الظّاهرة في شتّى أنواع السّرطان، بما في ذلك سرطان المبيض، الثّدي، الأنف والرّئتين.

 سوف يتمكّن فريق تشو قريبًا من اختبار الفرضيّة مجدّدًا بواسطة جهاز تجريبيّ سوف تطلقه شركة SpaceX إلى الفضاء. تأسّست الشّركة على يد الرّأسماليّ إيلون ماسك عام 2002 بهدف إحداث ثورة في تكنولوجيا الفضاء، وفي نهاية المطاف استعمار كواكب أخرى . من أجل ذلك، يجب معرفة تأثير ظروف الطّيران في الفضاء على جسم الإنسان.

 يحتوي الجهاز على أربعة أنواع من خلايا السّرطان البشريّة (سرطان المبيض، الثّدي، الأنف والرّئتين)، وينقل البيانات مباشرةً عن حالة الخلايا إلى العلماء على الأرض. تستمرّ التّجربة مدّة سبعة أيّام، وفي نهايتها يتمّ تجميد الخلايا وإعادتها إلى الأرض بعد ثلاثة أسابيع.

 ليست دراسة تشو  الوحيدة في المجال، فَمِن المقرَّر إجراء تسع دراسات أخرى لفحص تأثيرات  الجاذبيّة الصّغرى على الخلايا السّرطانيّة في محطّة الفضاء الصّينيّة الجديدة الّتي سوف تطلق هذا العام. تهدف إحدى هذه الدّراسات المسمّاة "أورام سرطانيّة على الفضاء"، إلى فحص مدى تأثير ظروف الجاذبيّة الصّغرى والإشعاع الكونيّ على تطوّر الأورام السّرطانيّة.

 وقالت تريشا لاروس (Larose)،  الّتي ترأَس فريق البحث في الجامعة النّرويجيّة للعلوم والتّكنولوجيا  (NTNU): "من المخطّط أن نقوم بإرسال אורגנואידים، وهي مبانٍ  خلويّة ثلاثيّة الأبعاد لخلايا جذعيّة مصدرها من الأنسجة السّليمة أو السّرطانيّة لنفس الشّخص. سوف نقوم بفحص الطّفرات ومدى تأثير هذه الظّروف على DNA الخليّة" 

  إذا تكلّلت هذه الدّراسات بالنّجاح، فهل هذا يعني أنّه سوف يتمّ إرسال مرضى السّرطان في المستقبل للعلاج في الفضاء؟ على الرّغم من أنّه تراودنا أفكار كهذه، إلّا أنّ الباحثين يأملون في إيجاد جينات أو بروتينات مهمّة للخليّة السّرطانيّة ويمكن تعطيلها تحت ظروف الجاذبيّة الصّغرى. من الممكن، أيضًا، تطوير علاجات تُشعِر الخليّة السّرطانيّة  على الأرض بأنّها تحت ظروف الجاذبيّة الصّغرى. 

لا يزال العديد من الأسئلة الّتي تحتاج إلى إجابة عنها في السّنوات القريبة: كيف تؤثّر ظروف الجاذبيّة الصّغرى على الأورام السّرطانيّة في بيئة بيولوجيّة أكثر تعقيدًا من أطباق المختبر؟ كيف سيؤدّي الجهاز المناعيّ عمله في هذه الظّروف؟ هل تأثير الجاذبيّة الصّغرى على خلايا الجسم السّليمة مختلف؟ لا يزال مجال الأبحاث السّرطانيّة في الفضاء في مراحله الأولى. ربّما مع تطوّر مجال الرّحلات الفضائيّة المأهولة في السّنوات القادمة، سوف نتمكّن من الإجابة عن  جميع هذه الأسئلة قريبًا.

 

 

 

الترجمة للعربيّة: د. ريتا جبران
التدقيق والتحرير اللغوي: د. عصام عساقلة
الإشراف والتحرير العلمي: رقيّة صبّاح أبو دعابس

 
 

0 تعليقات