من منّا لم يشاهد يومًا تلك الخيوط المبهرة لأشعّة الشّمس وهي تنفذ من السّحب في زوايا متعدّدة؟ لكن، كيف يمكن لنا رؤيتها بهذا النّمط، علمًا أنّها تصل إلينا من نفس الاتّجاه؟ لا يكمن الجواب هُنا في علم الفيزياء، بل في وهم بصريّ الّذي يصوغه دماغنا.

يحلّ علينا فصل الخريف حاملًا معه نسمات باردة، أيامًا قصيرة وسحبًا تحوم في السماء، بعد أن كانت صافية طوال أشهر الصّيف. خلال ساعات الشّروق والغروب،  تمتزج الشمس والسّحب في الأفق في زاوية منخفضة، لتخلق مناظر مذهلة لخيوط/حزم أشعّة الشّمس، الّتي تنبثق من خلال طبقة السّحب لتضيء سطح الأرض،على ما يبدو على الأقلّ، من زوايا متنوّعة. تُعرف هذه الظّاهرة في اللّغة العلميّة بـ "أشعّة كريبوسكيولار" (Crepuscular) المشتقّة من الكلمة اللّاتينيّة "كريبوسكولوم"، والّتي تعني الشَّفق. ولذلك تُعرف بالعربيّة بأشعة الشَّفق نسبةً إلى أنّ الظاهرة تحدث غالبًا عند الغروب، عندما تكون الشّمس تحت خطّ الأفق معلنةً مرحلة الشَّفق، فتسطع حزم أشعتها من خلال السّحب في الأفق.


توليفة الشّمس عند زاوية منخفضة مع السّحب تسطّر لوحات طبيعيّة مذهلة، حيث تنفذ أشعّة الشّمس من خلال الغيوم، مضيئةً سطح الأرض بزوايا متنوّعة. أشعّة الشّمس في حقل أرزّ في تايلاند. | Shutterstock, Parinya Feungchan

لطالما شكّل هذا المشهد الخلّاب مصدر إلهام للعديد من الفنّانين عبر العصور خاصّةً في عالم الفنّ المسيحيّ، حيث تُجسّد أشعّة الشّفق للتّجلّي الإلهيّ، ولذلك تُسمى في بعض الأحيان "أصابع الله"، كما ويتم تشبيهها بـ"سلّم يعقوب" المستوحى من الرّواية التّوراتيّة. عدا عن جمالها الظّاهريّ، تطرح هذه الظّاهرة الجذّابة للعيْن أيضًا سؤالًا فيزيائيًّا محيّرًا: كيف ولماذا تنتشر أشعّة الشّفق في زوايا متباينة، رغم أنّه من المنطقيّ أن تتحرّك أشعّة الشّمس بخطوط متوازية فيما بينها؟ 

وصل هذه السّؤال مؤخّرًا إلى هيئة تحرير موقعنا وأشعل نقاشًا حيويًا. طُرح خلاله اقتراح تفسيرات فيزيائيّة مختلفة، سنفصِّلها بعد قليل، رغم  أنها لم ترتق لتفسير الظّاهرة. والأمر المدهش أنّ التفسير لم يأتِ من مجال الفيزياء إطلاقًا، بل من مجال علوم الأعصاب، إذ أنّ الإجابة عن السؤال "لماذا ليست الأشعّة متوازية؟"  تكمن في حقيقة بسيطة: هي في الواقع متوازية. الأمر الّذي يظهر لنا على خلاف ذلك، ما هو إلّا وهم بصريّ نخلقه.


وصل هذا السّؤال مؤخّرًا إلى هيئة التّحرير وأشعل نقاشًا مثيرًا. الصّورة التي أرسلها إلينا روعي أغامي وكانت الشّرارة الّتي أدّت إلى هذا المقال.

فيزياء أشعة الضّوء

قبل الخوض في التّفسيرات، دعونا نتأمل أوّلًا بالافتراض الأساسيّ في السّؤال، والّذي بموجبه أنّ أشعّة ضوء الشّمس يجب أن تكون متوازيةً. كما هو حال كلّ مصدر ضوء طبيعيّ آخر، تبعث الشّمس ضوءَها في كافّة الاتّجاهات. غير أنّ الأرض تقع على بعد شاسع من الشّمس، فهي تدور حولها على مسافة تبلغ حوالي 150 مليون كيلومتر بالمعدّل. بالمقابل، فإنّ قطر الأرض، والّذي يقدّر بحوالي 12.7 ألف كيلومتر، يبدو ضئيلًا بالمقارنة. بالتالي، فإنّ الزّاوية القصوى الّتي تشكّلها أشعّة الشمس حين تسقط على أقطاب الأرض ستكون أقل من خمسة أجزاء من الألف من الدرجة (0.005 درجة)، وهي زاوية دقيقة بما يكفي لنستخلص بأنّ أشعّة الشّمس، من النّاحية العمليّة، متوازية في جميع أنحاء الأرض. هذا الاستنتاج يصبح أكثر دقة بالنّسبة في المجالات الأقصر بكثير المتعلّقة بأشعّة الغسق، الّتي تتخلّل السّحب ذات العرض القليل نسبيًّا.

لماذا إذًا تبدو أشعّة الشّفق غير متوازية إلى حدّ كبير؟ تشير الفيزياء إلى احتماليْن ممكنيْن مرتبطيْن بعمليّة انتقال أشعّة الضّوء من وسط إلى آخر: الانكسار أو التَّشتّت.

أمّا انكسار الضّوء فهو ظاهرة تحدث عندما يتغيّر اتّجاه مسار موجات الضّوء، أثناء انتقالها من وسط إلى آخر، نتيجة لاختلاف سرعة الضّوء فيه. يمكننا ملاحظة الظّاهرة بشكل يوميّ، على سبيل المثال؛ عند انتقال ضوء يتحرّك في الهواء إلى طبقة من الزّجاج الشّفّاف فهو ينحرف عن مساره الأصليّ، أي يحدث له انكسار يغيّر من اتّجاه تقدمه. هذا المبدأ هو الأساس الّذي تقوم عليه تكنولوجيا العدسات في مختلف الأجهزة البصريّة كالنّظارات، المجاهر، والتّلسكوبات، حيث تُستغل هذه الخاصيّة لتعديل حجم الأجسام البعيدة، سواء بتكبيرها أو بتصغيرها، وكذلك لتحويلها أو تركيزها بما يتناسب مع حاجتنا.

يحدث انكسار الضوء أيضًا عندما يدخل الضوء من الفضاء الخارجيّ ضئيل الكثافة إلى الغلاف الجوّيّ للأرض الأكثر كثافةً بكثير. غير أنّ زاوية الانكسار في هذا الانتقال أقلّ بكثير من تلك الّتي نشهدها في الانتقال من الهواء إلى الزّجاج. للحصول على نمط من الأشعّة الّتي تنبعث باتّجاهات مختلفة بوضوح ،كما نرى في الشَّفق، يجب استيفاء شرطيْن: أوّلًا، يجب أن ينتقل الضّوء من الوسط شبه الفارغ في الفضاء، حيث سرعة الضّوء فيه قريبة جدًّا من سرعة الضّوء القصوى، أي حوالي 300 ألف كيلومتر في الثّانية، إلى وسط تكون سرعة الضّوء فيه أقلّ بكثير. ثانيًا، ينبغي أن تكون خطوط التَّماس/ الفصل بين الوسطيْن في زوايا موحّدة/منتظمة وواضحة، كما لو كانت هناك عدسة كبيرة داخل الغلاف الجويّ. في الواقع، لا يتحقّق أي من هذيْن الشّرطيْن، ممّا يجعل الانكسار تفسيرًا غير مناسب لظاهرة أشعّة الشَّفق.


انكسار الضوء هو ظاهرة تحدث عند تغيّر زاوية مسار الضّوء أثناء انتقاله من وسط إلى آخر نتيجة لاختلاف سرعة الضّوء. في الصّورة: يؤدّي انكسار الضّوء عند انتقاله من الهواء إلى الماء إلى ظهور الملعقة وكأنّها مكسورة أو غير متّصلة.| shutterstock, Hsyn20

إذا لم يكن الانكسار - ربّما التّشتّت؟
الخيار الثّاني المطروح هو التّشتّت، وهو ظاهرة تحدث نتيجة لاصطدام الضّوء بالمادّة، وتفاعله معها حين يصطدم بها. لا يقتصر هذا التّفاعل على حالة مادّيّة واحدة، بل يشمل الحالات الثّلاث الأساسيّة للمادّة؛ الصّلبة كما في السّيارات البيضاء، السّائلة كما في القهوة السّوداء، والغازيّة كما في طبقة الأوزون بِالغلاف الجوّيّ. عند التّصادم، يحدث تفاعل بين الضّوء وجزيئات المادّة، ممّا يؤدي إلى توزيع الضّوء في اتّجاهات متعدّدة. في بعض الأحيان، يتبع هذا التّوزيع تغييرًا في طول موجة الضّوء، الأمر الّذي تستشعره العين البشريّة ومراكز الرّؤية في الدّماغ على أنّه تغيير في اللون، فتتغيّر بذلك خصائص الضّوء المتشتّت لونيًّا.

في الحقيقة، إنّ الانتشار هو العمليّة الّتي تُحدّد لون المواد. آليّة الرّؤية لدينا تعتمد على استقبال الضّوء الّذي يتشتّت من الأجسام فور اصطدامه بها، ثمّ يصل إلى عيوننا. مع ذلك، لا يعتبر الانتشار تفسيرًا كافيًا لظاهرة أشعّة الشَّفق، حيث أنّه لا يستطيع توضيح الخطوط المستقيمة والمنتظمة لأشعّة الضّوء الّتي تنبعث من السّحب. بالإضافة إلى ذلك، يميل الضّوء المتشتّت إلى أن يكون خافتًا ورقيقًا، بينما تتميّز أشعّة الغسق بقوّتها ووضوحها.

التّفسير الحقيقيّ

إذا لم نجد التّفسير لظاهرة أشعّة الغسق في فيزياء تفاعل الضّوء والمادّة، أين تكمن الإجابة إذًا؟ 

الحقيقة، وبكلّ بساطة، هي أنّ أشعّة الشفق ليست إلّا وهم بصريّ؛ نوع من التّشويه في الطّريقة الّتي يفسّر بها الدّماغ البشريّ الصّورة الواصلة إليه من مستقبلات الضّوء في عيوننا، حيث تقودنا هذا العمليّة الخاطئة لِمعالجة المعلومات البصريّة إلى تفسير خاطئ للواقع المرئيّ.

تظهر الأوهام البصريّة بأشكال متنوّعة. يتجلّى الوهم في حالتنا الخاصّة هذه في ربط خاطِئ بين الصّورة ثنائيّة الأبعاد والواقع ثلاثيّ الأبعاد، أي خطأ في المنظور (perspective): تصل الأشعّة إلى السّحب من اتّجاه الأفق، وتنفذ منها إلى الأرض بزاوية مائلة، نحو المشاهد. بسبب السّحب، يصعب على المشاهد تحديد الزّاوية الدّقيقة الّتي توجد فيها الشّمس مقابله، وبدلًا من ذلك، يتكوّن لديه الانطباع بأنّ أشعّة الشّمس تنتشر بزاوية واسعة، وأنّ المسافة بين الأشعّة تزداد كلّما اقتربت من الأرض. ولكن، إذا أمسكنا بمسطرة وقمنا بقياس المسافة بين الأشعّة، سنكتشف أنّها متوازية تمامًا.

تتّخذ الأوهام البصريّة أشكالًا متعدّدة. في صدد مسألتنا هذه، يتجسّد الوهم في الرّبط الخاطئ بين الصّورة ثنائيّة الأبعاد والواقع ثلاثيّ الأبعاد، أو بمعنى آخر، يطرأ عندنا خللًا في المنظور، فالأشعة تصل إلى السّحب من اتّجاه الأفق وتنفذ منها إلى الأرض نحو المتفرّج بزاوية مائلة. ونظرًا لوجود السحّب، يجد المشاهد صعوبةً في تحديد الزّاوية الدّقيقة لموقع الشّمس نسبةً لموقعه، ممّا يخلق لديه انطباعًا بأنّ أشعّة الشّمس تنتشر بزاوية منفرجة، وأنّ المسافة بين حزم الأشعّة تتّسع كلّما اقتربت من الأرض. إلّا أنّه لو قمنا بقياس المسافة بين الأشعّة باستخدام مسطرة، سنكتشف أنّها في الحقيقة متوازية بالكامل.


مسألة منظور. في هذه الصورة، نلاحظ أنّ الفجوة بين الخطوط في أسفل الصّورة تبدو واسعة، بينما تلتقي هذه الخطوط في نقطة واحدة بعيدًا في الأفق. إلّا أنّ دماغنا يخلص إلى أنّ المسافة بين الخطوط ثابتة ولم تتغيّر، والمتغيّر هو فقط المسافة بينها وبين عيوننا | Shutterstock, Henry Veloso

 

لماذا تبدو لنا الزاوية بين الأشعة منفرجة؟ تكمن الإجابة هنا في مفهوم المنظور (perspective). إذا ما نظرنا الى صورة لسكّة قطار تمتدّ نحو الأفق، سنلاحظ أنّ الفجوة بين المسارات في أسفل الصّورة تبدو واسعة، بينما تلتقي هذه المسارات عند نقطة واحدة في الأفق. يملأ دماغنا الفجوات في المعلومات وفقًا لما تدرّب عليه بشكل جيّد سابقًا، فيستنتج بشكل صحيح إلى أنّ المسافة بين المسارات لم تتغيّر، وإنّما المسافة بينها وبين عيوننا هي الّتي تغيرت. هذا يعني أنّنا نعتمد على خبراتنا السابقة؛ فقد شاهدنا مواقف مشابهة مرّات عديدة ونحن نعلم أنّ المسارين للقطار متوازيان. أمّا في حالة أشعّة الشّفق العمليّة فيحدث أمر معاكس، إذ أنّ الأشعة التي تبدو لنا بزوايا متباينة، تأتي في الواقع من السّحب بمساراتٍ متوازية، لكن، بفعل تأثير المنظور الذي اعتدنا عليه،  يقع دماغنا في خطأ التقدير مُفترضًا وجود زاوية بينها غير موجودة فعليًا. عند النظر من منظور جانبيّ، يتّضح جليًّا أنّ الأشعة متوازية تمامًا.

تُعدّ أشعّة الشفق من الظواهر الطبيعيّة الخلّابة، وجمالها يزداد رونقًا بفضل الوهم البصريّ المرافق لها. يمكننا فهم هذه الظاهرة الكشف عن مدى قدرة ظواهر الفيزياء البصريّة على تضليلنا، بل إنّها تُظهر أيضًا التعقيد الهائل لنظام الرؤية لدينا، الذي يُمكننا من تحليل الواقع المرئي الذي نراه أمام أعيننا وفهمه.

0 تعليقات