هل تذكرون تلك المرّة اّلتي رأيتم فيها طفلًا باكيًا باحثًا عن أمِّه؟ أو رجلًا غاضبًا لتأخّره عن عمله؟ أو امرأةً سعيدةً بتخرّجها من الجامعة؟ في جميع الأمثلة السابقة، عادة ما ينتابنا شعور بالتّعاطف مع المواقف أو الأشخاص، فنفرح لفرحهم ونحزن لحزنهم.
التّعاطُف أو التقمّص الوجدانيّ (Empathy) هو القدرة على فهم مشاعر الآخرين، بما يتلاءم مع دوافعهم وأفكارهم. بكلماتٍ أُخرى، هو وضع أنفسنا مكان الشّخص الذي أمامنا وفهم موفقه الكامل ودوافع تصرُّفاته، إلى جانب التعّاطف الشُّعوريّ معه. يُعتبرالتّعاطف أحد أهم الصّفات الاجتماعيّة الّتي تُميّز المُجتمعات البشريّة والحيوانيّة، فهي تُعتبر وسيلة تواصل وتفاهم، تُتيح بناء روابط اجتماعيّة وثيقة ومفصليّة في تطوّر الكائنات الحيّة.
التّعاطف في عالم الحيوان
يُعتبر داروين من أوائل من اعتبروا التّعاطف ميلًا طبيعيًّا ذا تسلسل نسليّ في كتابه "أصل الأنواع"، وهي وجهة نظر صارت اليوم أقل انتشارًا لكنّها نوقشت بشكل واسع في آخر عقدين. دَعمت أبحاث تجريبيّة على الحيوانات وجهة نظر داروين، حيث اعتبرت التّعاطف ظاهرة مستمرة من النّاحية التّطوريّة، والحاضرة بدرجات متفاوتة بين الأجناس غير البشريّة.
اظهرت الابحاث السابقة ان الكلاب الاليفة تشعر بالتعاطف تجاه اصحابها، فقد كشفت التجارب هروع كلب العائلة لمساعدة الطفل وتهدئته عند مواجهته لتهديد ما | Shutterstock
موروثة أم مكتسبة؟
ما يجعل التّعاطف أمرًا فريدًا، هو أنّه يحدث لنا عفوًا وبشكل غير مباشر. فعندما نشعر بالتّعاطف، نجد أنفسنا نختبره ونشعر به، بدلًا من التّسبّب في حدوثه بشكل مباشر. هذه هي السّمة الّتي تجعل فِعل التّعاطف غير قابل للتّعليم و"التّلقين" بشكل مباشر، وفقًا لبعض العلماء. بدلًا من ذلك، يُقترح تعزيز سُلوكيّات مثل الوعي الذّاتيّ، عدم الحُكم على الآخرين، وتطوير مهارات استماع جيدة، لتحسين القُدرة على التّعاطف.
بينما يعتقد الكثيرون أنّ بعض الناس متعاطفون أكثر بطبيعتهم، يعتقد البعض الآخر أنّ القُدرة على إظهار درجات عالية من التّعاطف قابلة للتّغيير، ويمكن استنفاذها في الأوقات الصّعبة. على سبيل المثال، أظهرت الدّراسات أنّ التّعاطف ينخفض أثناء التّدريب الطّبّيّ، وخاصّة في السّنوات المُتقدّمة. يُظهر عِلم التّعاطف أنّه من الممكن تثبيط القدرة على التّعاطف (downregulation) وتحسينها (upregulation) بمساعدة التّخُّلات القائمة في علم الأعصاب اليوم.
حوافز اجتماعية ونفسيّة للتّعاطف
يلعب التّعاطُف دورًا مهمًّا في قدرة المُجتمع على إدارة نفسه بشكل سليم، وتعزيز تبادل الخبرات والاحتياجات بين الأفراد، وتقترح النّظريّات التّطوّريّة ضرورة ممارسة التّعاطف، لفوائده العائدة على الفرد والمُجتمع. فالعيش في مُجتمعات متعدّدة الأفراد يُحتّم على التّعاضد الاجتماعيّ، والّذي بدوره يتطوّر من خلال تبادل المشاعر الإيجابيّة بين أفراد المجموعة الواحدة، ممّا يُساهم في الحفاظ على سلامة الأفراد والتّصدّي للأعداء. على سبيل المثال، لكي تستطيع الأم توفير احتياجات طفلها الأساسيّة الّتي تضمن له العيش والتطوّر، عليها أن تُمارس التّعاطف بدرجة كبيرة جدًّا.
إنّ من مصلحة أفراد أيّ مجموعة تعيش في بيئة مشتركة "ومتعاوِنة" التّأثُّر عاطفيًّا بنظرائهم من نفس المجموعة. "العدوى الاجتماعيّة" هي أكثر تعبير أساسيّ لهذا الرّابط العاطفيّ والفسيولوجيّ. فعلى مرّ الزّمان، يُظهر الأطفال والبالغون من جميع أنواع الكائنات الحيّة الجماعيّة سلوكيات "عدوى عاطفيّة"، الّتي تُسهّل حركات المجموعة المُهمّة للبقاء على قيد الحياة. مثلًا، إذا شعر أحد أعضاء المجموعة بخطر مُحدق أو بحيوان مفترس يقترب، يتمّ إنذار المجموعة بأكملها، ممّا يُؤدّي في معظم الحالات إلى إبعادها بشكل جماعيّ عن مصدر الخطر. وهكذا، فإنّ إنذار أحد الأفراد ينبّه الآخرين ويضمن سلامتهم.
وُثِّقت هذا الظاهرة جيّدًا في العديد من الأنواع، بما في ذلك السّناجب الأرضيّة، الطّيور والقرود. تسمح ظاهرة "مزيد من العيون" بزيادة الاستثمار في الأنشطة الّتي تُعزّز النّجاح الإنجابي، كالتّغذية وإيجاد شُركاء. إنّ تبادليّة المشاعر الإيجابيّة، بما فيها التّعاطف، تمثّل طبيعة الارتباط العاطفيّ بين الأفراد وفطرته. هذا الرّابط هو أمر بالغ الأهمّيّة للهروب من الافتراس، البحث عن الطعام والصّيد، والهجرات الجماعيّة - وكلّها تؤثّر بشكل مباشر على نجاح التّكاثر للفرد.
بالإضافة إلى ما ذُكر، فإنّ شعور التّعاطف داخل أقليّات ومجموعات منبوذة، في حالات ضغط اجتماعيّ، يُساهم في الحفاظ على هوية جماعيّة مُتماسكة ذات ميول عاطفيّ وأخلاقيّ مُتجانس.
لطالما شكّل التعاضد الاجتماعي حجرًا أساسيًّا في بناء مجتمعات مُتماسكة وقويّة منذ القدم وحتّى يومنا هذا | Shutterstock
من المقبول تصنيف التّعاطف إلى نوعين أساسيّين: التّعاطف الحسّيّ (Affective empathy) والتّعاطف الإدراكيّ (Cognitive empathy). يُعتبر التّعاطف الحسّيّ عمليّة أكثر بدائيّة، ويُوصف بأنّه القدرة على تجربة ردود فعل عاطفيّة تجاه الحالة العاطفيّة أو النّفسيّة للآخرين. يُنظر إلى التّعاطف الحسّيّ على أنّه عمليّة تلقائيّة ناتجة عن مجرّد إدراك الحالة العاطفيّة للآخرين.
من جهة أخرى، يوصف التّعاطف الإدراكيّ بأنّه عمليّة أقلّ تلقائيّة متمثّلة بقدرة معرفيّة عالية المستوى، ممّا يدلّ على قدرة الدّماغ على أخذ منظور الآخرين، والتوصُّل إلى استنتاجات عنهم. واحدة من أساسيات التّعاطف الإدراكيّ هي "نظريّة العقل" (Theory of mind)، وهي القدرة على تكوين تمثيل لنوايا الآخرين ومُعتقداتهم - أي القدرة على إنشاء نظريّة حول الحالة العقليّة والنّفسيّة للآخر.
فيما يتعلّق بمناطق الدّماغ، فإنّ القدرة على مُشاركة الآخرين في فهم تجاربهم ومشاعرهم (Experience sharing) تتداخل جزئيًا مع مناطق دماغيّة مُرتبطة بالمشاعر وبالقدرات الاجتماعيّة مثل الفص الجزيري Insula والقشرة الحزامية الأمامية Anterior cingulate cortex. من ناحية أخرى، ترتبط القدرة على فهم دوافع الآخرين وحوافزهم (Mentalizing) في مناطق الدماغ الأماميّة الإدراكيّة مثل قشرة الفص الجبهي Medial prefrontal cortex.
تُعرف الخلايا العصبيّة الّتي تتُيح التّعاطف باسم "خلايا المرآة" او Mirror neurons. وهي خلايا تُنشَّط خلال القيام بعمل معيّن، وعند مشاهدة الآخرين يقومون بنفس العمل. منذ اكتشافها في عام 1991، بُحثَتْ هذه الظاهرة في مجال الوظيفة الحركيّة والحسّيّة في البداية، و في مجال اللّغة والعواطف فيما بعد. تفترض مجموعة البحث الخاصّة بـ Giacomo Rizzolatti والذي قام باكتشاف هذه الخلايا، أنّها تُشكّل الأساس البيولوجيّ للتّعاطف وللتّجربة العاطفيّة.
يرتفع نشاط نويرونات المرآة عند رؤية الآخرين يقومون بفعل معيّن، وأيضًا عندما نقوم به بأنفسنا. يُعتبر التّعاطف أحد الأمثلة الأساسيّة لنشاط نويرونات المرآة | Shutterstock
في عصرنا الحاليّ، ومع انتشار وسائل التّواصل الاجتماعيّ بشكل كبير، يصعُب فهم مشاعر الآخرين الحقيقيّة. فأصبحت المقاييس اليوم تبتعد أكثر فأكثر عن الإدراك التّلقائيّ والدّقيق للحالة العاطفيّة للآخرين، والّتي بدونها يُصبح التّعاطف مستحيلًا.
لذا، في المرة القادمة الّتي تلتقون فيها بأصدقائكم، حاولوا التّواصل معهم حسّيًّا، لفهم إذا ما كانوا بخير!