حول حاسّة اللمس، الحاسّة الماسّة، والأمل التقنيّ في تعويض من فقدوها

لمسة كأس الشاي أو الكابوتشينو في الشتاء البارد تُشعرنا بالدّفء، ولمسة المياه الجارية من أعلى الجبال الثلجيّة جميلة باردة، ولمسة جلد الأمّ لرضيعها لمسةٌ ساحرة تولّد ترابطًا ووصلًا متينًا، ولمسة السلام بالأيدي والعناق كفيلان بكسر برود الجليد بين مُغترِبيْن. أما لمسة سطوح الأشياء فقد تفيد بمعلومات إضافيّة عن خصائصها، وملمس استشعار الحرارة قد يحمي من الحريق.

لمسة، ملمس، ولمس تأتي من جذر الفعل ل.م.س، وبحسب معجم الغنيّ فإنّ حاسة اللمس هي "إحدى الحواس الخمس، وهي قوّة في العصب بها الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة عند لمس الأشياء والاتّصال بها". كما وصفها العالم والطبيب العربيّ، ابن طفيل: "اللمس يدرك الأمزجة والصلابة واللين والخشونة، أعمال متقنة وفيها تلك اللمسة من الذكاء والحسابيّة".

نستخدم حاسّة اللمس، كالحواس الأربع الأخرى التي عرّفها أرسطو، بشكل متواصل دون توقف، لدرجة أننا ننسى وجودها، أو نعتبرها مفهومة ضمنًا، وقليلا ما نتساءل ماذا لو؟ 
أمّا بالنسبة لأشخاص آخرين، فقد تبدو الصورة مختلفة تمامًا؛ على سبيل المثال، أولئك الذين فقدوا طرفًا نتيجة حادث أو مرض معيّن، أو أولئك الذين تعرّضوا لجلطة دماغيّة فتراجعت حاسّة اللمس لديهم، أو شيخوخة سبّبت تراجعًا  عامًا بالأداء الوظيفي.

بحسب الرابطة العصبيّة في اسرائيل، فإنّ 63% من الذين تعرضوا لجلطة دماغيّة يعانون من مضاعفات وظيفيّة منها الشلل أو التراجع بوظيفة بعض الأعضاء، ومنها أيضًا تراجع المخّ عن معالجة الأحاسيس والمقدرة على التألّم. وتبعًا لدراسة في جامعة شيكاغو عام 2017، استنتج الباحثون أنّ 70% من المتقدّمين بالعمر يتعايشون مع تراجع في حاسّة اللمس، كثاني عامل انتشارًا بعد التراجع في حاسّة الذوق. أمّا الأشخاص مبتورو الأطراف، فهنالك ما يقارب 2 مليون شخص يعيشون مع طرف مبتور في أمريكا، على سبيل المثال. في حين أنّ بحسب مؤسّسة الصحّة العالميّة، فقط 1 من 10 أشخاص مبتوري الأطراف يحصلون على علاج يتضمّن زراعة طرف اصطناعي. 

إنّ دلّت هذه الأرقام على شيء، فإنّها تدلّ على الحاجة الماسّة لتقنيات وطرق تساعد في استرجاع جزئيّ أو كلّيّ بهدف الشعور باكتمال الأعضاء وبحاسّة اللمس. لإنّ فقدان الشعور باللمس أو فقدان الأطراف التي من خلالها يشعر الإنسان ويلمس ويستشعر البيئة التي حوله قد يقلب حياته رأسًا على عقب على عدّة أصعدة، نفسيًّا، عقليًّا وتفاعليًّا.، فيشعر بعرقلة عند قيامه بأبسط الأمور.

مرحى للتكنولوجيا !

لحسن الحظّ، نحن في زمن يمتاز بتطور تكنولوجي وسرعة ريادية لتوصيل الحلول الطبّيّة وغيرها إلى أيدي المستفيد منها. فقد شهدنا لذلك عند إيجاد، تطوير وتصريح جرعات تطعيم بسرعة لا منافس لها لإنقاذ العالم أو التخفيف عنه من جائحة كورونا التي عمّت وما زالت تعمّ كرتنا الأرضية، من شمالها إلى جنوبها، شرقها وغربها. 

من أهمّ الإنجازات البحثيّة التي تقدّمت في هذا المجال هي: أوّلًا، فهم الطريقة التي يترجم من خلالها جسم الإنسان حاسّة اللمس. وقد تابعتم على الأرجح أخبار جائزة نوبل للطبّ لعام 2021 حيث كُرِّم كلّ من العالَميْن: الأمريكيّ دافيد يوليوس، الذي تركّز بحثه حول الآليات الجزيئيّة المسؤولة عن الشعور بالألم والحرارة، فاكتشف بدوره صفات المستقبلات TRPV1 و TRPM8 الكاشفة عن كلّ من الكابسيسين (Capsaicin)؛ وهو المركّب النشط في الفلفل الحار، المنتول؛  وله رائحة عطريّة مميّزة، وغالبًا ما يستخرج من نبتة النعناع، والحرارة. والآخر هو العالم لبنانيّ الأصل آرديم باتابوتيان، الّذي اكتشف بدوره خصائص المستقبلات PIEZO1 و PIEZO2 و  TRPM8. 

PIEZO1 و 2 ، وهي مستقبلات مسؤولة عن الكشف عن الضغط وهو ناتج عامّة عن اللمس أو الحركة (PIEZO من الكلمة الإغريقيّة Piezol التي تعني ضغط).  ساعدت هذه الاكتشافات على استكمال الصورة وفهم كيفيّة معالجة المخّ وترجمته لمؤشّرات حراريّة وضغطيّة ناتجة عن اللمس ووصف الإنسان لبيئته أو حتّى تحرّكات جسمه، توخّيه الحذر أو تعبيره عن الألم.

تكمن أهمّيّة هذه الاكتشافات بصعوبتها، حيث لا تتمركز حاسّة اللمس في مكان واحد في الجسم مثل حاستي النظر والشمّ، بل هي موجودة في كلّ مكان على سطح جسم الإنسان، ممّا صعّب على العلماء اختيار نقطة البداية للبحث، وهي الإجابة على سؤال أي جزيئات لها علاقة، بحسب ما ذكر د. يوليوس في إحدى مقابلاته عند استلامه خبر الجائزة.

هذه الاكتشافات الأساسيّة لها أهمّيّة كبرى لصانعي الأدوية، حيث يمكنهم الاعتماد على تقنية الجسم الأساسيّة لتطوير أدوية أو علاجات لتخفيف الألم المزمن دون عوارض المسكّنات الحاليّة على سبيل المثال.

بالمقابل لهذه الاكتشافات الجزيئيّة والعلوم الأساسيّة التي تهدف لفهم العمل السيمفوني المتناغم لجسم الإنسان بشكل عميق، فإنّ التقنيات التكنولوجيّة تلعب هي أيضا دورًا هامًا؛ معتمدة على اكتشافات كهذه أو أخرى مشابهة. فزراعة الأطراف الاصطناعية ساهمت بشكل عظيم أصحاب الأطراف المبتورة باستعادة جزء من "طبيعتها"، أوّلًا شكلًا واكتمالًا للهيئة، ومن ثمّ التطوّر نحو استخدامها، فعاليتها، مقدرتها وتطوّرها.
فعليًّا، أوّل طرف اصطناعيّ استخدم عالميًّا كان عبارة عن أصابع اصطناعيّة لكفّة رِجِل في العصور المصريّة القديمة. تبعتها ساق كابولا الرومانيّة الشهيرة. معظم الأطراف الاصطناعيّة القديمة كانت شكلًا لا أكثر. ولكن ما ميّز الأصبع الإصطناعية من العصور المصريّة القديمة هو فعاليّتها بالإضافة إلى شكلها.


ساق كابولا الرومانية الشهيرة| Science Museum Group Collection


 أصبع رجل إصطناعية وجدت لدى مومياء أنثى من العصور المصرية القديمة| The University of Manchester
 

الإبهام كما نرى في الصورتين أعلاه، يستطيع الإبهام أن يحمل 40% من وزن جسم الإنسان، وهو أيضا مسؤول عن دفع الجسم قدمًا. هذه القدرة أثارت إعجاب الباحثين، حيث أنّ الأطراف الإصطناعيّة اليوم تُبنى بحذر وملاءمة شديدة للشخص المعدّة له، تبعًا لدراسات حركة الجسم ومقاساته. بينما عمليّة تطوير نسخ من الإصبع الاصطناعية القديمة تطابقت مع أكثر من شخص ومقاس. 

على مرّ السنين، اختلفت طرق تصنيع الأطراف الاصطناعيّة ومقدرتها. الحاجة الأمسّ لتلك كانت خلال الحرب العالمية الأولى، وأشهر من طوّر الأطراف وصنعها هو المستشفى العسكري Walter Rewe Army Hospital في الولايات المتحدة، الذي أتاح لمرتديها السياقة أو تفعيل آليات لم يكن باستطاعتهم فعلها سابقًا. ما زال هذا المشفى من أكبر المراكز لتصنيع أطراف إصطناعيّة وتطويرها حتّى الآن. 

في الحرب العالميّة الثانية، أصبح مشفى الملكة ماري في المملكة المتّحدة لبريطانيا العظمى من ضمن أكبر المراكز لصناعة الأطراف الاصطناعيّة. منذ تلك الفترة تواصلت التطوّرات وتشابكت العلوم المختلفة لتمكين الإنسان من استعادة مقدرته على التواصل مع محيطه ليس فقط شكليًّا بل وفعليًّا؛ ليشعر ويحسّ. 

في عام 2014, نُشر أوّل مقال علميّ حول منح يد إصطناعيّة المقدرة على الشعور. تمّ إدخال أقطاب كهربائيّة واستشعارات لمسيّة في اليد الاصطناعيّة، الَّتي باتت تُسمّى الكترونية، ليحثّ ما تبقّى من أعصاب لدى دافيد سورينسين، دينماركيّ الأصل الذي فقد يده اليسرى خلال حادثة ألعاب ناريّة. 

نجحت اليد الإلكترونية ذات المستشعرات بإعطاء سورينسين المقدرة على التعرّف على الأشياء حوله خلال لمسها ومن ثمّ حملها. قاد هذا البحث فريق سيلفسترو ميسيرا لتطوير اليد الإلكترونية، مهندس الأعصاب في Scuola Superiore Sant'Anna في إيطاليا والمعهد الفيدرالي السويسريّ للتكنولوجيا في لوزان -سويسرا. تمّ إيصال المستشعرات اللمسيّة مع الأقطاب الإلكترونيّة المزروعة في أطراف أعصاب ذراع اليد. من ثمّ حوّلت خوارزميّات الحاسوب الإشارات من أجهزة الاستشعار إلى شكل يمكن للأعصاب اكتشافه.

بفضل اليد الإلكترونيّة، تمكّن سورينسين معرفة الاختلافات بين الأشياء الصلبة والمتوسطة والناعمة، وتحديد أشكال أشياء معيّنة مثل الزجاجة الأسطوانيّة أو كرة البيسبول المستديرة. 

 


 يد سورينسين الإصطناعية تحمل كرة البيسبول|  مصدر الصورة Live Science

 

خلافًا لطرق سابقة، تمّ بها استخدام رجف أو اهتزاز الجلد لحثّ الأعصاب، تعتمد هذه الطريقة على حثّ الأعصاب بشكل مباشر وهي أنجع لتزويد ردود فعل مناسبة من الناحية التشريحيّة (الأناتومية)، مما يجعل استرجاع الشعور باللمس كأنّه طبيعيّ.

مؤخّرا، نُشر مقال آخر في المجلة العلميّة Science Robotic حول التقدّم بتطوير الأيدي الإلكترونيّة. استخدم فريق باحثين من كليفلاند كلينيك في الولايات المتحدة صفيف من أجهزة الاستشعار بالإضافة إلى الروبوتات التى تحثّ هي أيضًا الأعصاب المتبقّية بشكل مباشر.

قال الباحث الرئيسيّ بول ماراسكو، رئيس مختبر كليفلاند كلينيك للتكامل البيولوجيّ، إنّ النظام المدمج في ذراع ميتشل يجمع بين العديد من التطوّرات التي عمل عليها الخبراء لسنوات في طرف اصطناعيّ واحد. وقال الباحثون إنّ هذا هو أوّل جهاز تعويضيّ يقوم بثلاث وظائف حسّيّة وحركيّة في نفس الوقت، باستخدام واجهة متّصلة بأعصاب الطرف المتبقّي للشخص. فيرسل الشخص نبضات عصبيّة من دماغه إلى الذراع الإلكترونيّة عندما يريد استخدامها أو تحريكها. عندما تلمس الذراع شيئًا ما، فإنّها تنقل المعلومات مرّة أخرى إلى دماغه عبر الاتصال الإلكتروني للأعصاب. فإن فكَّرت بتحريك اليد، فهي تتحرّك ردًّا على الأوامر التي وصلت إلى المخّ، وبحركة اليد واللمس لشيء ما، فالمخّ يترجم هذا لشعور بحرارة، حجم وصفة الشيء. 

المدهش في الأمر كما رأى الباحثون أنّ نشاط دماغ المرضى وسلوكيّاتهم تغيّرت لتلائم تلك التي لدى الشخص دون بتر. لم يعودوا بحاجة إلى مراقبة طرفهم الاصطناعي، حيث يمكنهم العثور على الأشياء دون النظر، ويمكنهم تصحيح الأخطاء بشكل أكثر فاعليّة. كما قال أحد الأشخاص ذو طرف مبتور من الذين شاركوا بالبحث التطبيقي -عندما أُعطي موزة للمسها دون رؤيتها- : "إنه موز حقًّا! ومن الصعب جدًّا شرحه، لكن عقلك يشعر حقًا، أجل، يمكنني أن أشعر بأنّ يدي تتحرّك".

هذه هي نتائج أمل واقتباسات مُسرّة لأشخاص يتعايشون بتكامل مع جسد غير متكامل، وشعور فقد بعض من أجزائه. هذه الأبحاث واعدة بالفعل، وتستحقّ المزيد من التطوّر لتصل إلى أيدي الأشخاص الذين بأمس الحاجة لها على الصعيد العالميّ، على أمل أن تنخفض الأرقام التي افتتحنا بها هذه المقالة مستقبلًا. لذلك لا تنظروا للمقدرة على لمس الأشياء والشعور بها، حرارتها، حجمها ووصفها كأنّها مفهومة ضمنًا. فهي نعمة يرجوها الكثيرون. 

دمتن/م سالمات وسالمين ودام التقدّم العلميّ، التطوير التقنيّ والمبادرات هي رايات ترفرف بنا نحو عالم صحّيّ. 

في إطار التعاون بين دافيدسون أون لاين و AWSc
عِلمي عِلمك، سلسلة مقالات بقلم عضوات مجموعة AWSc، من خلالها يناقش كل مقال موضوع الساعة في كل ما يخص العلم، العلوم والهندسة، بهدف نشر معلومات مفيدة من مصادر موثقة، وجلب مواضيع هامة لصدارة معرفة القارئ/ة وليكن ما عُلم لدينا عُلم لديكم/ن.

 

 

 

 

0 تعليقات