يعتبر التصحُّر إحدى الأزمات البيئيّة الحقيقيّة التّي تواجه بعض المناطق في العالم، وتهدّد النظم البيئيّة والزراعة والاقتصاد في هذه المناطق والعالم بشكل عام. نستعرض في هذا المقال كيف لنبتةٍ كالترمس الرّملي إعادة التوازن وإنقاذ الحياة البيئية من خطر التصحُّر وما الجانب المظلم لهذا الحل.

لطالما تميّزت آيسلندا بمروجها الجميلة وتلالها الخضراء ومناظرها الخلّابة، ولكنّها تُعرف أيضًا بصحاريها البركانيّة القاحلة والواسعة والّتي كثيرًا ما تُشَبَّه "بالتضاريس القمريّة". إلّا أنّه هنالك نباتًا فريدًا من نوعه بات ينتشر ويصبغ هذه الصحاري بلون أرجوانيّ، بما قد يبدو كغزو فضائيّ. تعرَّف معنا على نبتة ترمس النوتكا Lupinus nootkatensis، المُسمَّاة أيضًا بالترمس الرمليّ، والّتي تلعب دورًا مهمًّا في إعادة تأهيل التربة للزراعة وتشجير الغابات في آيسلندا.


نبتة الترمس تنتشر وتغيّر معالم آيسلاندا.المصدر: Shutterstock

الترمس 

الترمس (Latin: Lupinus) هو جنس من النباتات المزهرة الجميلة والّذي ينتمي إلى فصيلة البقوليّات. يضمّ جنس الترمس قرابة 200 نوعٍ منتشرًا في جميع أنحاء العالم بما في ذلك بلادنا والشرق الأوسط، وتحظى بشعبيّة كبيرة بين هواة الحدائق والزهور والرحّالة محبّي الأزهار في الطبيعة . يتميّز نبات الترمس بأوراقه الخضراء الناعمة وبذروته الزهريّة المشرقة والمتعدّدة الألوان والّتي تشكّل مجموعات كبيرة في المروج والغابات وتزيّن الحدائق والمناطق الطبيعيّة. غالبًا ما يصنّف الترمس ضمن النباتات الشتويّة، فهي تزهرعادةً في أواخر فصل الشتاء، وإن كانت هنالك فعليا انواعًا معينة منها  تنمو وتزهر في فصلي الربيع والصيف بل والخريف ايضًا.

يضم جنس الترمس أنواعًا مختلفة، حيث تتسم و تختلف هذه الأنواع  بأحجامها وألوانها وأشكالها. بينما يسود اللون الأزرق زهور غالبية  أنواعه والذي نصادفه في مثل هذه المواسم من السنة في بلادنا أيضًا، تحمل بعض الأنواع ازهارًا بيضاء أو صفراء، أو حتى حمراء.  تتميز نباتات الترمس، بالإضافة إلى جمالها، ببذورها المغذية والتي تعتبر مصدراً غنياً بالبروتينات والألياف والفيتامينات والمعادن ومركبات نباتية أخرى. أفادت آخر الأبحاث في هذا الصدد أنّ تركيبة الترمس الغذائية قد تعود بفائدة كبيرة للصحة العامة والحماية من الأمراض المزمنة مما يجعلها من البقوليات المثالية وإضافة ممتازة للنظام الغذائي الصحي.


رسم توضيحي لنبتة وزهرة الترمس الرّملي Lupinus nootkatensis| المصدر: Shutterstock
 

علاقة مجدية

يتميز الترمس بقدرته الفريدة على إصلاح التربة المستنزَفة والفقيرة بالنيتروجين وكفاءته الاستثنائية لإعادة تأهيل التربة لنمو النباتات وللزراعة وللتشجير، وذلك بفضل علاقته التكافلية مع بكتيريا "ألمُسْتَجْذِرة" والتي تعرف بالريزوبيوم (Rhizobium). توجد بكتيريا ألمُسْتَجْذِرة في عُقد على جذور البقوليات حيث توفر لها النبتة المضيفة السكريات والمواد العضوية الأخرى الضرورية لنموها وتكاثرها. بالمقابل تقوم هذه البكتيريا بتثبيت النيتروجين، أو بكلمات اخرى، بتحويل النيتروجين الغازي المتاح في الهواء إلى مركبات نيتروجينية وتتيح بهذا استخدامها كمصدر غذائي للنبات. 

تعد هذه العلاقة التكافلية بين الترمس وبكتيريا ألمُسْتَجْذِرة علاقة حيوية بالغة الاهمية  تفوق قيمتها إلى ما هو أبعد من ذلك، حيث تساهم عملية تثبيت النيتروجين على إثراء وإخصاب التربة و تحسين جودتها لنمو النباتات الأخرى بها. وبهذه الطريقة، يمكن لنباتات مثل الترمس إعادة تأهيل التربة القاحلة وحماية تلك المستنزفة من التدهور. ونظرًا لكون الترمس من اكثر النباتات نجاعة في ذلك، فهو ليس صدفةً أحد أهم النباتات المؤثرة على توازن الأنظمة البيئية وبيوت التنمية الطبيعية، والتي قد تُوَظَّف في الزراعة والبستنة لزيادة المحصول الزراعي، وضمن المساعي لمكافحة التصحر والحفاظ على البيئة بشكل عام.


تربطهما علاقة تكافلية. عقد بكتيريا ألمُسْتَجْذِرة على جذور الترمس الرّملي. المصدر: Shutterstock
 

صحاري أرجوانية

تخضع ايسلاندا لظروف مناخية وجغرافية إستثنائية، فهي جزيرة تقطن بالقرب من القطب الشمالي على التقاطع ما بين المحيط الأطلسي والمحيط المتجمد الشمالي وتقع على الصفيحة الأوروآسيوية التي تعتبر إحدى أكثر صفائح الأرض تقلبًا. ونظرًا لظروفها الإستثنائية، تتمتع ايسلاندا بطبيعة فريدة ومتنوعة وغنية بالمروج الخضراء والينابيع الحارّة والأنهار الجليدية، والشلالات. ولكنها تتسم ايضا بمساحات شاسعة من الصحاري البركانية الصخرية الوعرة والخالية من الألوان والتي قد توحي لنا بمشاهد من كوكب فضائي في فيلم خيال علمي أو بصور الرحلات الفضائية الى القمر. والأمر الطريف هو أن تشابه تضاريس صحاري ايسلاندا مع تضاريس سطح القمر دفع وكالة الفضاء الأمريكية ناسا في سنوات الستينات إلى إقامة مخيمات تدريبية لتأهيل رواد فضاء مستقبليين للهبوط على سطح القمر. وكان من بين المتدربين في ايسلاندا رائدا فضاء مجهولان في تلك الفترة هم نيل أرمسترونج و باز اولدرين، وهما الآن من أساطير رحلات الفضاء حيث أصبحا أول رجلين يخطوان على سطح القمر في إطار مهمة أبوللو 11 الشهيرة عامين فقط بعد وصولهما الى ايسلاندا.

إذن، فهي ليست صدفة أن يصف السياح صور الصحاري الايسلاندية "بالمشاهد القمرية"، فهي لا تشبهها فحسب، بل كان لها دورٌ لا يستهان به في مهمات أبولو إلى القمر. لكن إذا ما قارنا صور الصحاري الايسلندية التي أخذت لرواد الفضاء في الستينيات بتلك التي يأخذها زوار ايسلاندا اليوم سنلحظ وسط الهضبات البركانية وطبقات اللافا المختلفة وجود كائنًا فضائيًا أرجوانيًّا غازيًا، ألا وهو نبات الترمس النوتكا (Lupinus nootkatensis) والذي يعرف باسم الترمس الرملي.


"الصحاري الايسلاندية التّي وصفت"بالمشاهد القمرية"، هي لا تشبهها فحسب، بل كان لها دورٌ لا يستهان به في مهمات أبولو إلى القمر"| المصدر: Shutterstock
 

مهمة إنقاذ

في عام 1945، أحدث هاكون بيارناسون (Hákon Bjarnason)، مدير خدمة الغابات الآيسلندية آنذاك، تغييرًا كبيرًا في آيسلندا، حين جلب ملعقتين صغيرتين من بذور ترمس النوتكا من رحلته إلى ألاسكا. في ذلك الوقت، كانت أيسلندا تعاني من أزمة بيئية متفاقمة، تعود لاستهلاك مستوطنيها  الأوائل مواردها الطبيعية بشكل مفرط، حيث قاموا باستنزاف قرابة الـ 75% من مساحاتها الخضراء عبر الأنشطة الزراعية وقطع الأشجار. وللأسف، لم تكن التربة الأيسلندية قادرة على التعافي من هذا الضرر بسبب جودتها المتدنية سلفًا. ونتيجة لذلك، تحولت المساحات الخضراء إلى صحاري قاحلة تتآكل تربتها وتتطاير مع الرياح نحو البحر. 

سعت خدمة الغابات الايسلندية للحد من تفاقم الأزمة البيئية في آيسلندا، ولهذا الغرض أرسلت مديرها هاكون بيارنسون في بعثة إلى ألاسكا، بهدف البحث عن نباتات ملائمة للنمو والتكاثر في تربة أيسلندا. لاحظ بيارناسون من خلال رحلته قدرة ترمس النوتكا على النمو في التربة الرملية والحجرية، بل و حتى في الحصى، و ميَّزَ الإمكانات الكبير لاستخدام نوع الترمس هذا كأداة لمعافاة التربة وإستعادة النباتات في أراضي آيسلندا الصحراوية الشاسعة.

لاقت زراعة الترمس في آيسلندا اهتمامًا كبيرًا من قبل العلماء والبيئيين، لميزاتها التي ذكرناها آنفًا في تحسين البيئة وتعزيز إستدامتها. وبالتالي، وفّر ذلك للنباتات المحلية والأشجار فرصًا أفضل للنمو والتكاثر مرة أخرى، وساعد في إعادة التشجير وتنمية الغابات الأصلية في الأراضي الآيسلندية.

 لم يقتصر انتشار الترمس على الأراضي الخضراء فقط بل أخذ ينتشر في المناطق القاحلة والصحراوية في أيسلندا ويعيد استيطان النبات والأحياء الأخرى فيها. وبفضل ارتفاع خصوبة التربة ونمو النباتات فيها باتت التربة التي تخلفها نبات الترمس الرملي موطنًا جذابًا  للكثير من اللافقاريات، مثل الدودة الأرضية، لتقوم هي الأخرى بدورها الهام في النظام الإيكولوجي، حيث تحول اللافقريات المواد العضوية إلى تربة سوداء (Hummus) التي تعزز من قدرة نمو النبات أكثر فأكثر. كما شكلت وفرة الديدان في التربة مصدرًا غذائيا رائعًا للعديد من الطيور، مما جعل مروج الترمس موطنًا جذابّا لها. بكلمات أخرى،  بات الترمس الرملي لاعبًا مركزيًا في تأهيل الاراضي وتهيئتها لاحتواء الغابات المستقبلية.

 ومن الفوائد الأخرى لزراعة الترمس في آيسلندا، هي قدرتها على الحد من التآكل والانجراف الرياحي للتربة. فتمتص جذورها المائة التربة وتمنعها من التطاير مع الرياح، كما توفر أوراقها وسيقانها بتوفير حماية للتربة من السيول والأمطار المباشرة، مما يقلل من فقدان طبقة التربة العليا الغنية بالمواد العضوية والمغذيات اللازمة لنمو النباتات الأخرى. وبفضل هذه القدرات، يمكن للترمس أن يساعد في الحد من الفقر البيئي والتصحر الذي يهدد العديد من المناطق الآيسلندية. 

ومع حلول السبعينات من القرن الماضي أصبحت زراعة الترمس الرملي شعبية في ايسلاندا، ليس فقط لقدرته على إعادة تأهيل الأرض فحسب، ولكن أيضًا لما يضفيه من جمال لطبيعة ايسلاندا. سرعان ما ملأت حقول الترمس أراضي آيسلاندا الواسعة ولوّنتها باللون الأرجواني، وأصبحت معلمًا سياحيًا فاتنًا للسياح والمحليين الآيسلنديين على حد سواء.

 

زهرة مثيرة للجدل

استمر الاحتفال بالترمس الرمليّ حتى الثمانينات من القرن الماضي حيث بدأ انتشار الترمس يثير جدلًا في ايسلاندا، فبينما يعتقد الكثيرون أنها توقف عملية التصحر وتضع الأسس لغابات المستقبل، تصاعدت أصواتًا بإن الترمس الرملي، بالرغم من رونقه ومنفعته، يحمل بطياته جانباً سلبياً يجب عدم إغفاله. وأحتدم الأمر الى تشكيل مجموعات تنادي بإبادة الترمس الغازي بل وبدأو بتنظيم حملات فعلية لذلك.

يعتبر بعض العلماء والبيئيين أن نبات الترمس الرمليّ هو نوعٌ غازٍ قد يؤدي إلى تغييرات كبيرة في التوازن البيئي لآيسلندا عساها أن تحول في القضاء على نبات وحيوانات ايسلاندا الأصلية بل وأن تغيير المعالم الطبيعية لايسلاندا إلى حد كبير. تشير بعض الدراسات إلى أن الترمس الرملي قد يكون له تأثير سلبي على النباتات الأصلية في آيسلندا. فعلى سبيل المثال، تم الإشارة إلى أن زراعة الترمس الرملي قد تسبب تغييرات في تركيب التربة والتي قد تضر بالنباتات الأصلية. وقد يؤدي ذلك بدوره إلى تغييرات في توزيع الأحياء الأخرى في البيئة الطبيعية، مثل الحشرات والطيور. إضافة إلى ذلك، يمكن أن يساهم الترمس الرمليّ في انتشار الأمراض والأعشاب الضارة التي قد تؤثر على النباتات الأصلية والحياة البرية.


الترمس الرملي وسط الصحراء الإيسلاندية. المصدر: Shutterstock

في الخلاصة، يظل الجدل حول الغزو الأرجواني لنبات الترمس الرملي في آيسلندا قائمًا حتى اليوم. فبينما توجد نتائج إيجابية لا يمكن إنكارها، مثل تحسين جودة التربة والمساهمة في مكافحة التصحر ودعم النظام البيئي، إلا أن هناك مخاوف مبررة بشأن تأثيره السلبي على التنوّع البيولوجي والنباتات الأصلانية في آيسلندا. لذا، يتعين على الباحثين وصناع القرار والمجتمع المحلي توخي الحذر والتنبه للموازنة بين الفوائد والمخاطر المحتملة لزراعة الترمس الرملي. يمكن أن تكون الإدارة المستدامة للموارد والتعاون بين القطاعين العام والخاص هما المفتاح لضمان استخدام أفضل للترمس الرملي في إعادة التشجير والحفاظ على البيئة الأيسلندية. في المستقبل، سيكون من الضروري مواصلة الأبحاث والدراسات لفهم تأثيرات زراعة الترمس الرملي بشكل أفضل واتخاذ القرارات المناسبة للحفاظ على تنوع النظام البيئي والمناظر الطبيعية الفريدة لآيسلندا.في الوقت نفسه، يمكن لنا جميعًا الاستمتاع بالغزو الأرجواني الجميل الذي يجتاح الصحاري. 

 
 

0 تعليقات