من الكويكبات الصغيرة إلى المجرّات العملاقة - الكون هو عبارة عن عرض مذهل للأجسام الدوّارة

في عام 1609، تلقّى العالِم الإيطاليّ غاليليو غاليلي (Galileo Galilei) تفاصيلَ اختراع جديد: أنبوب يحوي عدستيْن، يمكن إبعادها أو تقريبها من بعضها، ممّا يسمح برؤية الأجسام البعيدة بشكل مكبّر. كان غاليليو آنذاك في جامعة بادوفا في شمال إيطاليا، وبدأ بدراسة الجهاز والفيزياء الكامنة وراءَه، بهدف تسخيرها لتحسين الجهاز. بفضل مهارة  غاليليو سرعان ما أصبح بين يديه أفضل جهاز تكبير في العالم. بعد فترة وجيزة، حصل الجهاز على اسمه الحديث "تلسكوب"، وهو الترجمة الحرفيّة باللاتينيّة "رؤية بعيدة".

فهم غاليليو جيّدًا الإمكانات التجاريّة لهذا الاختراع: يمنح التلسكوب المطوّر القدرة على رصد القوّات العسكريّة تقترب من مسافة بعيدة، حتّى قبل أن يتمكّنوا من ملاحظة ذلك، كما يمكن الاستفادة اقتصاديًّا من القدرة على تلقّي إنذار مبكّر، لمعرفة أيّة سفن تجاريّة تقترب من الميناء. ساعدت هذه الرؤية في تسويق الاختراع لرعايته من التجار الأثرياء، الذين قاموا أيضًا بتمويل أعماله البحثيّة.


اختراع يسمح برؤية الأجسام البعيدة. غاليليو غاليلي يراقب النجوم من خلال التلسكوب | delcarmat, Shutterstock

في أعقاب الشمس

بالنسبة لغاليليو، كان البحث هو الجزء الرئيسي من عمله، وفي هذا المجال أيضًا أدرك الإمكانات الكبيرة للتلسكوب. ساعدت الملاحظات التي أدلى بها في سنواته الأولى كعالم فلك، في تغيير نظرة البشريّة للعالم. على سبيل المثال، اكتشف الأقمار الكبيرة لكوكب المشتري، والمراحل المتغيّرة لكوكب زهرة (Phases of Venus)، وهما اكتشافان ساهما بشكل قاطع في دحض فكر ة أنّ جميع الأجرام السماوية تدور حول الأرض. كما أوضحت هذه الاكتشافات  صحّة نموذج مركزيّة الشمس (Heliocentrism)، وذلك بعد عقود من وفاة نيكولاس كوبرنيكوس (Nicolaus Copernicus)، الذي كان أوّل من اقترح نموذجًا علميًّا منظّمًا يوضّح أنّ الكواكب، بما في ذلك الأرض، تدور حول الشمس.

لم يكتف غاليليو باستخدام التلسكوب في ساعات الليل فقط، بل كان يراقب الشمس أيضًا. اكتشف غاليليو أنّه يمكن معرفة تفاصيل أكثر عند مشاهدة الشمس بالقرب من موعد الغروب، وخاصّة من خلال السحب أو الضباب. دفع غاليليو ثمنًا باهظًا مقابل هذه المعلومات، حيث يُعتقد أنّها ربّما كانت أحد الأسباب التي جعلته يفقد بصره قبل سنوات قليلة من وفاته. لكن هذا قاد غاليليو إلى اكتشاف ثوريّ آخر: الشمس ليست كرة مثاليّة مثلما كان يُعتقد منذ زمن أرسطو؛ بل إنّها تحتوي على عيوب في شكل بقع داكنة - بقع شمسيّة (Sunspots) - على سطحها.

لم يكن غاليليو أوّل من لاحظ البقع الشمسيّة، فقد ظهرت تقارير عنها في الكتابات القديمة لعلماء صينيّين، يونانيّين وعرب. لكن غاليليو كان من بين أوائل من استخدم التلسكوب لرصدها، وأجرى مراقبة للشمس وبقعها بدقّة لعدّة أشهر. في عام 1613، نشر النتائج التي توصل إليها في كتيب بعنوان " تاريخ وإثباتات متعلّقة بالبقع الشمسيّة"، أو باسمه الأكثر شهرةً " رسائل حول البقع الشمسيّة" (Letters on Sunspots)، وقد سُمّي بهذا الاسم لأنّه اعتمد على مراسلات مع العالم الألمانيّ والكاهن اليسوعيّ كريستوف شاينر (Christoph Scheiner). رغم أنّ شاينر لاحظ البقع الشمسيّة آنذاك مثل غيره من الرواد، إلّا أنّه بخلاف غاليليو، لم يعتقد أنّها جزء من الشمس، بل افترض أنّها إمّا أجسام تمرّ بيننا وبين الشمس، أو أقمارها الطبيعيّة. ربّما يعود ذلك إلى كونه قسيسًا وكان يميل إلى الحفاظ على مثاليّتها.

واصل غاليليو إجراء مراقباتِه الدقيقة للشمس، واستعان أيضًا بطريقة طوّرها تلميذه بينيديتو كاستيلي (Benedetto Castelli)، التي تعتمد على عرض الصورة التي حصل عليها التلسكوب على سطح آخر، ممّا سمح بدراسة الشمس حتّى في وضح النهار دون مراقبتها مباشرةً. تتبّع غاليليو بعض البقع الشمسية في ساعات محددة، وشاهد تقدّمها عبر الشمس، حتّى اختفت تدريجيًّا خارج حافّتها. رغم أنّه لم يكن يعرف طبيعة البقع الموجودة على الشمس، إلّا أنّ المراقبات التي أجراها أقنعته بأنّها تقع على سطح الشمس نفسها، أو على نوع من السحب في غلافها الجوّيّ. تكمن أهمّيّة هذه المراقبات في إظهار أنّ الشمس ليست كرةً ثابتةً في مكانها، بل على غرار الأرض،  تدور حول نفسها.

في السنوات اللاحقة، تخلّى غاليليو عن دراسة البقع الشمسية ليكرّس نفسه لدراسات أخرى، بينما واصل شاينر في دراسة الشمس، ليصبح أحد أبرز الخبراء في هذا المجال خلال النصف الأول من القرن السابع عشر. في النهاية، اقتنع شاينر بنظرية غاليليو، وأدرك أنّ الشمس تدور حول نفسها، وأنّ البقع هي بالفعل جزء منها. لخّص شاينر النتائج التي توصّل إليها في كتاب "روزا أورسينا"؛ Rosa Ursina الذي نشر عام 1630. في الكتاب، قدّم شاينر أدلّةً على أنّ الشمس تدور حول نفسها، وقدّر أنّ مدّة هذه الدورة هي 27 يومًا أرضيًّا - وهي أطول بقليل فقط من الرقم الذي نعرفه اليوم: حوالي 25 يومًا وتسع ساعات.


تمكّن غاليليو غاليلي بمساعدة التلسكوب من توضيح صحّة نموذج مركزيّة الشمس. النموذج من أطلس النجوم الذي جمعه رسّام الخرائط أندرياس سيليريوس في عام 1660 | مصدر: ويكيميديا

رؤية النجوم

بعد ذلك، ظهرت قفزة فكريّة بفضل عالم الرياضيات والفيلسوف الفرنسيّ رينيه ديكارت (René Descartes)، الذي يُعتبر من أهمّ علماء الرياضيّات في التاريخ. لم يكن ديكارت عالم فلك ولم يدرس النجوم، لكنّ الجانب الفلسفيّ في عمله هو الذي غيّر نظرتنا للعالم. في كتابه "مبادئ الفلسفة" (Principles of Philosophy) الذي نشر عام 1644، قدّم ديكارت صورة خاطئة عن الكون، حيث افترض أنّه يتكوّن من مادّة أثيريّة تحرّك الأجرام السماويّة في دوامات. كذلك، طرح فكرة أنّ شمسنا ليست مركز الكون، بل هي واحدة من عدد لا يحصى من النجوم التي نراها في السماء.

بعد أقلّ من ربع قرن، اقترح عالم الفلك الفرنسي إسماعيل بوليالدوس (Ismaël Bullialdus) أنّ التغيّر الدوريّ في شدّة ضوء بعض النجوم ناتجًا عن دورانها الذاتيّ. استند بوليالدوس في اقتراحه على أنّ هذه النجوم تحتوي على تركيز عالٍ من البقع الشمسيّة، أو مناطق مظلمة في جانب واحد، والتي عندما تواجه الأرض، نلاحظ انخفاضًا في سطوعها، بالمقارنة عندما يواجه الأرض جانبها المشرق. على الرغم من أنّ التفسير لم يكن صحيحًا علميًّا، إلّا أنّه ساعد في إظهار بناء تصوّر صحيح بأنّ النجوم تدور حول نفسها، مثل شمسنا.

في الوقت نفسه، أجرى الفيزيائيّ الإنجليزيّ إسحاق نيوتن (Isaac Newton) تجارب رائدة في مجال البصريّات، حيث أظهر بمساعدة الموشور البصريّ (optical prism)- وهو وسط شفّاف، مثل الزجاج- أنّه عند مرور شعاع الضوء الأبيض عبره فإنّه ينكسر وينقسم إلى ألوان مختلفة. نعلم اليوم أنّ لكلّ لون طول موجيّ مختلف قليلًا من الإشعاع الكهرومغناطيسيّ. في القرن التاسع عشر، أدرك الباحثون أنّ تركيب الأطوال الموجيّة لمصدر ضوء معيّن يعكس تركيب المواد التي ينبعث منها الضوء. بفضل المجال العلميّ الجديد - المطيافية (Spectroscopy)، أي "رؤية الطيف"، أصبح من الممكن معرفة المادّة التي تتكوّن منها النجوم، إلّا أنّ تحدّيات ذلك ظهرت فيما بعد. كان من المهم بنفس القدر اكتشاف حركة النجوم، والذي كان ممكنًا بفضل "تأثير دوبلر" (Doppler effect) - وهو تغيير في التردّد المقاس للموجات عندما يقترب جسم ما بسرعة، أو يتحرّك بعيدًا عن الراصد (حتّى لو كان الراصد هو الذي يقترب أو يبتعد). ممّا يعني أنّه إذا عرفنا كيف تبدو البصمة الطيفيّة (Spectral signature) لنجم معين، وما هي الأطوال الموجيّة التي يصدرها، يمكننا أن نرى تحرّك هذه البصمة نحو الألوان الأكثر إحمرارًا في الطيف عندما يتحرّك النجم بسرعة بعيدًا، وهو ما يسمّى "الإزاحة نحو الأحمر" (Redshift)، ونحو الألوان الزرقاء عندما يقترب النجم منا.

في عام 1871، أظهر الفيزيائيّ الألمانيّ هيرمان فوجل (Hermann Vogel) أنّه من الممكن قياس سرعة دوران الشمس عن طريق قياس الإزاحة عن الأحمر والإزاحة عن الأزرق بالقرب من حافّة النجم، وذلك لأنّ دورانه يتسبّب في تحرّك أحد جانبي الشمس بعيدًا عنّا بسرعة، بينما يقترب الجانب الآخر بنفس السرعة. استغرق الأمر عدّة عقود أخرى من إتقان الأدوات، حتّى مكّنت قياسات مماثلة من حساب سرعة دوران النجوم الأخرى، وإثبات أنّ ريكارت كان على حقّ قبل أكثر من 250 عامًا. شمسنا ليست مميّزة: السماء مليئة بالنجوم، وكلّها تدور حول نفسها.


بموجب المطيافية يمثّل كلّ لون طولًا موجيًّا مختلفًا للإشعاع ممّا يتيح رؤية المادّة التي تتكوّن منها النجوم. الطيف الكهرومغناطيسيّ| AIexVector, Shutterstock

دليل السفر إلى المجرّات

في أواخر القرن التاسع عشر، شهدت التكنولوجيا تطوّرًا قد أتاح لعلماء الفلك ليس فقط مراقبة النجوم، بل أيضًا تسجيل ما رأوه على ألواح زجاجيّة مطليّة بموادّ حسّاسة للضوء، وبالتالي أصبحت التلسكوبات بمثابة كاميرات. سمح هذا بإجراء قياسات أكثر دقّة، وكذلك التحليل الطيفيّ الدقيق، والذي أصبح يُعرف الآن بالتصوير الطيفيّ ("تسجيل الطيف"). قد أسهم الجمع بين التلسكوب الأكبر حجمًا والأكثر تطورًا، وتقنية القياس المحسّنة في تمهيد الطريق لدراسة السدم، وهي أجسام لا يزال علماء الفلك غير متفقين على طبيعتها.

كان سديم مجرّة المرأة المسلسلة (Andromeda، والمعروفة أيضًا باسم M13) الأكثر دراسةً في أوائل القرن العشرين. في وقت مبكّر من عام 1899، اكتشف عالم الفلك الألمانيّ يوليوس شاينر (Julius Scheiner) أنّ مجرّة المرأة المسلسلة تحتوي على كواكب مشابهة للشمس. بعد 15 عامًا، تمكّن عالم الفلك فيستو سلايفر (Vesto Slipher) من الولايات المتّحدة وماكس وولف (Maximilian Wolf) من ألمانيا من قياس حركات هذه النجوم عبر السديم،  بمساعدة الطيفيات. في عام 1918، تمكّن عالم فلك أمريكي آخر، فرانسيس بيز (Francis G. Pease)، من إجراء قياسات أكثر دقّة، ممّا لم يترك مجالًا للشكّ: النجوم في سديم مجرة المرأة المسلسلة تدور حول مركزها. 

لم يتمّ حلّ مسألة ماهيّة السدم، وكانت حتّى جزء من "النقاش الكبير" عام 1920 - وهو نقاش عامّ وحظّيّ بتغطية إعلاميّة جيّدة بين علماء الفلك الذين كانوا مقتنعين بأنّ هذه مجرّات أخرى، ومعارضيهم الذين كانوا متأكّدين أنّ درب التبانة هي الكون بأكمله، والسدم هي أجسام بعيدة على أطرافها. الذي حسم هذا النقاش كان عالم الفلك الأمريكيّ إدوين هابل (Edwin Hubble)، وهو الذي سمّي التلسكوب الفضائيّ الشهير تيّمنًا باسمه. ساعد هابل اكتشاف عالمة الفلك اللامعة هنريتا ليفيت (Henrietta Leavitt)، التي جعلت من الممكن حاسب المسافات المُطلقة لنجوم معينة عن طريق قياس سطوعها. قاس هابل كم تبعد عنا النجوم في سديم المرأة المسلسلة، ووجد أنّ المسافة تبلغ حوالي 900 ألف سنة ضوئيّة، بعيدًا عن مجرّة درب التبانة التي يقدر قطرها بحوالي 100 ألف سنة ضوئيّة - نعلم اليوم أنّ المسافة إلى سديم المرأة المسلسلة تبلغ حوالي 2.5 مليون سنة ضوئيّة. اتّضح أنّ مجرّتنا درب التبانة ليست سوى مجرّة واحدة من بين مئات المليارات من المجرّات. كما كشفت القياسات التي أجراها سلايفر وبيز وباحثون آخرون أنّ النجوم لا تدور حول نفسها فحسب، بل تدور حول المجرّات أيضًا.


أثبتت قياسات هابل أنّها أبعد بكثير من مجرّة ​​درب التبانة. مجرة المرأة المسلسلة| PlanilAstro, Shutterstock

تدور حولنا

نعلم اليوم بفضل الأعمال الرائدة لكوبرنيكوس، كيبلر (Johannes Kepler) وغاليليو وغيرهم أنّ المجرات تدور حول نفسها، وأنّ النجوم داخلها تدور حول نفسها وحول مركز المجرّات، بينما تدور الكواكب حول النجوم وكذلك حول نفسها. كذلك، تدور الأقمار حول الكواكب وحول نفسها، كما تدور الأجسام الأصغر حجمًا مثل المذنبات والكويكبات حول الشمس وحول نفسها أيضًا. إنّ عالمنا عبارة عن بُلبُل كبير، يتألّف من مليارات البلابل من مختلف الأحجام، والتي تشارك معًا في رقصة معقّدة ورائعة المظهر. كيف يمكن أن تدور جميع الأجرام السماوية تقريبًا في نفس الاتجاه؟

أدى البحث عن الإجابة على هذا السؤال إلى عودة العلماء إلى بداية الزمن - الانفجار العظيم (Big Bang)، وهو الانفجار الكونيّ البدائيّ الذي خلق فيه الكون قبل حوالي 13.8 مليار سنة، وأسفر عنه تكوّن المادّة وانتشارها في كلّ الاتّجاهات. لكنّ انتشار المادة لم يكن موحّدًا، ممّا أدّى إلى تراكمها بكتل متفاوتة بين المناطق. بدأت الجاذبيّة بسحب المزيد من المادّة إلى المناطق الغنيّة بالكتلة، وتحوّلت الكتل الضخمة من الموادّ إلى مجموعات مجرّية، والتي مع مرور الوقت انقسمت إلى مجرات، أنظمة نجميّة، ونجوم فرديّة مع كواكبها وأقمارها. اكتسبت المادّة التي كانت في الكون على طاقتها من الانفجار العظيم، وترجم جزء منها إلى تلك الحركة الدائريّة، أو ما يُعرف في الفيزياء بالزخم الزاويّ (Angular momentum). إحدى خصائص الزخم الزاويّ أنّه يظلّ ثابتًا في نظام مغلق، طالما لم تطبّق أيّ قوّة خارجيّة عليه. وهكذا، حافظت العناقيد المجريّة والمجرّات التي انفصلت عنها على الزخم الزاويّ، وكذلك النجوم التي تشكّلت فيها، والكواكب والأقمار - فقد خلقت جميعها من نفس المادّة الدوّارة، وحافظت على الزخم الزاويّ فيها.

يعتبر الزخم الزاويّ من الخصائص الأساسيّة للغاية في الكون، فحتّى النجوم الميّتة تستمرّ في الحفاظ عليه. على سبيل المثال، تواصل الأقزام البيضاء (white dwarf)، النجوم النيوترونية (Neutron star)، والثقوب السوداء (Black hole) دورانها، حتّى بعد انتهاء حياتها في أحداث عنيفة، مثل المستعر الأعظم (Supernova). في الواقع، بحسب معرفتنا، لا يوجد جسم في الكون في حالة سكون تام؛ جميع الأجسام تتحرّك نسبةً لجسم آخر، وتكون هذه الحركة دائريّة دائمًا تقريبًا.

علاوةً على ذلك، تؤثّر الحركة الدوّارة على شكل الأجرام السماويّة أيضًا. معظم الأجرام السماويّة كرويّة الشكل تقريبًا، وذلك نتيجة لاجتماع عاملين: قوّة الجاذبيّة المؤثّرة على كتلتها وحركة دورانها الذاتيّ. في بعض الأحيان تكون حركة الدوران هي المسؤولة عن الانحراف عن شكل الكرة المثاليّ. يبلغ قطر الأرض عند خطّ الاستواء أكبر بحوالي 45 كيلومترًا من القطر المار عبر القطبين، وذلك نتيجة لقوّة الطرد المركزيّ التي تسبّب تركيز كتلة أكبر قليلًا في اتّجاه الدوران. قد يكون هذا التشوّه أكبر في الأجسام غير الصلبة، مثل النجوم أو الكواكب الغازيّة.

يتأثّر شكل النظام الشمسيّ أيضًا من الحركة الدوّارة. فقد تشكّلت الشمس من سحابة من الغاز والغبار، وتسبّبت حركتها الدوّارة وجاذبيّتها في ترتيب بقايا المادّة حولها على شكل قرص مسطّح. نتيجةً للحركة الدوّارة في هذا القرص،  تجمّعت تركيزات المادة لتشكّل الكواكب، التي تدور جميعها حول الشمس في نفس المحور. في عام 1995، أُكتشف أوّل كوكب يدور حول شمس أخرى، ومنذ ذلك الحين اكتشفنا آلاف الكواكب الأخرى من هذا النوع، والتي تدعى "كواكب غير شمسية" (Exoplanet). بعض هذه الكواكب غير الشمسيّة موجودة في منظومات شمسيّة تحتوي على العديد من الكواكب، التي تكون مرتّبة بشكل أو بآخر في نفس المحور أيضًا. نفس القوى التي تؤثّر على شكل الأجرام السماويّة، تؤثّر كذلك على شكل المجرات. العديد من المجرّات مسطّحة، بما في ذلك مجرّتنا، درب التبانة، حيث شمسنا هي واحدة من مئات المليارات من النجوم التي تحيط بمركز المجرّة في قرص عملاق. 


تقع تقريبًا على نفس المحور. الكواكب ومدّة دورانها حول الشمس | Siberian Art, Shutterstock

خارجون عن القاعدة

تدور جميع كواكب النظام الشمسيّ حول الشمس في نفس المحور، لكن بالحقيقة، فإنّ هذا ليس دقيقًا تمامًا. سبعة من بين ثمانية كواكب تقع على نفس المحور، باستثناء كوكب أورانوس الذي ينحرف بشكل كبير عنه. بالإضافة إلى ذلك، فإنّه يدور حول نفسه بطريقة مميّزة - على جانبه، بحيث يكون خط استوائه عموديًّا على مستوى الدوران، ويكون اتّجاه الدوران الذاتيّ معاكسًا لاتّجاه الكواكب الأخرى. يعود السبب وراء ذلك على الأرجح للاصطدام. بحسب دراسة اعتمدت جزئيًّا على المحاكاة الحاسوبيّة، من المحتمل أنّ كوكب أورانوس تعرّض لاصطدام مع جسم يبلغ حجمه ضعف حجم الأرض على الأقلّ منذ 3-4 مليارات سنة، ممّا أدّى إلى انحرافه عن مساره وتغيير محور اتّجاه دورانه. لا يسعنا إلّا أن نتكهّن بشأن مصدر ذلك الجسم، فقد يكون ناتجًا عن حادث كونيّ في مكان ما، أو انفجار أخرجه من نظامه الأصليّ وألقى به على طول الطريق إلينا.

وحتى في نظامنا الشمسيّ الصغير، فإنّ أورانوس ليس الاستثناء الوحيد. يدور كوكب الزهرة حول الشمس في مداره الأصليّ، ولكنّه يدور حول نفسه باتّجاه معاكس لبقية الكواكب الأخرى. كما أنّ معدّل دورانها بطيء للغاية؛ حيث يستغرق يوم واحد على كوكب الزهرة حوالي 243 يومًا أرضيًّا، أطول من عامه الذي يستمرّ 224 يومًا فقط. يمكن القول أنّ كل يوم على كوكب الزهرة هو حقًا عيد ميلاد. التفسير المقبول للدوران الغريب لكوكب الزهرة ليس الاصطدام، بل الكبح الجوي (Aerobraking). وفقًا للافتراض المقبول - الذي يفتقر للإجماع - فإنّ قوى السحب للغلافِ الجويّ السميك للغاية لكوكب الزهرة هي التي أبطأت دورانه الذاتيّ، إلى درجة عكس اتجاهه. 

يمتلك أكبر كوكبيْن في نظامنا الشمسيّ، المشتري وزحل، عشرات الأقمار، ومع مرور الوقت يتمّ تحديث عدد أقمارها مع اكتشاف الباحثين لأَقمار جديدة لم تكن معروفة سابقًا. الغالبيّة العظمى من الأقمار تدور حول كوكبها في نفس الاتّجاه، لكنّ هذيْن الكوكبيْن لديهما أيضًا بعض الأقمار التي تدور حولهما في الاتّجاه المعاكس. وحتّى في هذه الحالات، يعتقد الباحثون أنّ الأقمار "الجامحة" هي بقايا حوادث كونيّة - ربّما لأقمار تفكّكت في اصطدامها بقمر آخر، أو بجسم آخر دخل مدارها. العديد من أقمار هذيْن الكوكبيْن صغيرة نسبيًّا، حيث يبلغ حجمها بضعة كيلومترات فقط، وحتّى أصغر من أن يكون لها شكل كرويّ. ومن المحتمل جدًّا أن تكون الأقمار الصغيرة هي نتاج اصطدامات بين أقمار أو أجسام أخرى، أو حتّى قد تكون مرَّت حول المشتري بسرعة مناسبة، والتقِطت في مدار حوله بفضل جاذبيّته. وبحسب بعض الفرضيّات، قد يكون هذا هو الحال بالنسبة لقمري المريخ الصغيرين، ديموس وفوبوس، اللذين كانا كويكبيْن أو بقايا اصطدام بين كويكبات، قبل أن ينضمّوا إلى محوره.

في عام 2017، اُكتشِف جسم آخر خارج عن القواعد في نظامنا الشمسيّ، يبلغ طوله عدّة مئات من الأمتار. على ما يبدو، سرعته العالية تسبّبت في خروجه من نظامنا الشمسيّ، بحيث أنّه الآن لا يدور حول الشمس، أو أيّ نجم آخر بقدر ما نعلم، على الرغم من أنّه يدور حول نفسه بسرعة عالية وعلى ثلاثة محاور. أُطلق على هذا الجسم اسم "أومواموا" (ʻOumuamua)، الذي وفقًا لحسابات سرعته، إنّ أصله من خارج النظام الشمسيّ، وقد مرّ بالقرب منّا لفترة وجيزة، تاركًا وراءَه سلسلة طويلة من النظريّات حول أصله: جزء من مذنّب قد تفكّك؛ أو بقايا كوكب ممزّق؛ أو حتّى سفينة فضائيّة خرجت عن السيطرة. مع ذلك، تشير إحدى الفرضيّات المعقولة للغاية أنّه في الواقع جسم طبيعيّ، وليس نتاج حضارة متقدّمة خارج كوكب الأرض، فيبدو أنّه مرّ بالقرب منّا بسرعة كبيرة، بحيث لم يتمكّن من الدخول في مدار حول الشمس. في الواقع، في حين أنّه في الوقت الحالي لا يدور حول أيّ شمس أخرى، فإنّ "الآن" في مقاييس الجدول الزمنيّ الكونيّ ليس سوى "غمضة عين". قد يصل "أومواموا" إلى نظام شمسيّ آخر خلال بضعة آلاف من السنين، بعد فقدان سرعته، ويدخل مداره هناك، أو قد يستمرّ في التجوال لبضعة ملايين أخرى من السنين قبل الاستقرار في مداره، ما لم يصطدم بجسم آخر، ممّا قد يغيّر مساره، أو إذا تعطّل تمامًا. 


كوكب أورانوس يدور تقريبًا على جانبه، وكوكب الزهرة يدور في الاتّجاه المعاكس. ميل محور الدوران واتّجاه الدوران ومدّة يوم الكواكب في المجموعة الشمسيّة | Siberian Art, Shutterstock

ساعة تقييد

يُظهر قمرنا الكبير والجميل سلوكًا قد يبدو للوهلة الأولى، وكأنّه انحراف عن القواعد. فالقمر لديه جانبان: أحدهما يواجه الأرض دائمًا، والآخر بعيد، لا يواجهنا أبدًا، ويُطلق عليه أحيانًا خطأ "الجانب المظلم". هل يعني هذا أنّ القمر لا يدور حول نفسه؟ ليس بالضرورة، لكنّه في حالة تكون فيها مدّة دورانه الذاتيّ متساويةً لمدّة مداره حول الأرض - حوالي 29 يومًا. وتسمّى هذه الظاهرة "التقييد المدّيّ" (Tidal locking)، أو بشكل أدقّ "المدار المتزامن" (Synchronous orbit) والتي تحدث بسبب قوى المدّ والجزر، أو التوزيع غير المتساوي للكتلة في أحد الأجسام. في الواقع إنّ هذه الظاهرة شائعة جدًّا، حيث لا ينطبق التقييد المدي على قمرنا فحسب، بل أيضًا على قمري المريخ اللذيْن ذكرناهما، وعدد لا بأس به من أقمار المشتري وزحل، وأقمار أورانوس ونبتون، وأيضًا شارون، القمر الكبير لبلوتو، الذي لم يعد كوكبًا، بل كوكبًا قزمًا. هذه الظاهرة لا تقتصر على الأقمار فحسب، بل يمكن أن تحدث للكواكب أيضًا. فعلى سبيل المثال، يُظهر كوكب عطارد، القريب من الشمس، تقييد مدي معها. حتّى لو لم تكن الحالة من وجهة نظر فيزيائيّة التقييد المدي تمامًا، بل "الرنين المداري" (Orbital resonance)، فإنّ النتيجة هي أنّ أحد جانبي عطارد يواجه الشمس دائمًا، بينما يبقى جانبه الآخر دائمًا بعيدًا عنها. هذه الظاهرة لا تقتصر على نظامنا الشمسيّ، ويعتقد الباحثون، على سبيل المثال، أنّ الكوكب المثير للاهتمام "قنطورس الأقرب بي" (Proxima Centauri b)، الذي تمّ اكتشافه قبل بضع سنوات حول الشمس المجاورة لنا، هو أيضًا في حالة تقييد مدي معها.

إنّ وجود ظواهر غريبة وانحرافات عن قواعد الدوران المقبولة في نظامنا الشمسيّ المتواضع، يدفعنا إلى تصوّر التنوّع الهائل في أنماط الدوران الموجودة في فضاء درب التبانة والمجرّات الأخرى. كما أنّ هناك أيضًا العديد من الظواهر التي لم نتمكّن بعد من تفسيرها، مثل سرعة الدوران غير العاديّة لبعض المجرّات، والتي قد تُعزى إلى ما نسمّيه الآن "المادّة المظلمة" (Dark matter).

لكن الجميل هو أنّ كل هذه الاستثناءات والظواهر، وكذلك القواعد نفسها، لها تفسيرات علميّة -حتّى لو لم نعرفها جميعًا بشكل كامل. في هذه الأثناء يمكننا أن نكون متأكدين من وجود تفسير، لأنّه في نهاية المطاف، جميع الأجرام السماوية، من أصغر الكويكبات إلى مجموعات المجرات العملاقة، تخضع لنفس قوانين الفيزياء. "بيد أنّها تتحرّك" (E pur si muove) هي المقولة الشهيرة لغاليليو والتي يصف بها الأرض، حين حاول دحض مفهوم أنّها تستقرّ في مكانها وكلّ شيء يدور حولها، لكنّنا اليوم نعرف - بفضله جزئيًّا - أنّها تنطبق على جميع الأجرام السماويّة.

 

0 تعليقات