أشارت دراسة جديدة إلى أنّ المعدّل اليوميّ لِدرجة الحرارة في منطقة جبال الإيفرست لا يتغيّر، وعلى الرغم من ذلك فإنّ الكتل الجليديّة عليها آخذة بالذوبان بسبب الرياح

تشير محطّات الأرصاد الجويّة في كافّة أرجاء العالم، والّتي تتعقّب التغيّرات في حالة الطقس، إلى ارتفاع متعاقب ومستمرّ في درجات الحرارة منذ عدّة سنين. يؤدّي الازدياد في تركيز غازات الدفيئة في الغلاف الجوّيّ للكرة الأرضيّة إلى احترار الأرض، إلّا أنّ وتيرة الارتفاع في درجات الحرارة تختلف ما بين منطقة وأخرى وما بين فصول السنة. اتّضح في مجموعة من الدراسات أنّه من المتوقّع أن تزداد وتيرة الاحترار في المناطق المرتفعة بالمقارنة مع المناطق الأخرى. ذوبان الثلوج وانكشاف الصخور أو نموّ النباتات، وتحوّل المسطّحات من فاتحة اللون إلى غامقة أو داكنة، هو من ضمن المسبّبات لازدياد وتيرة الاحترار في المناطق المرتفعة. تمتصّ الأرض غامقة اللون أشعّة الشمس بدلًا من أن تنعكس عن المسطّح الجليديّ فاتح اللون، الأمر الّذي يؤدّي إلى مزيد من الاحترار.

كان من المتوقّع، وفقًا لهذه التقديرات، أن تكون وتيرة احترار جبل الإيفرست، أعلى قمّة جبليّة في العالم، سريعة بشكل خاصّ. يقع جبل الإيفرست في سلسلة جبال الهيمالايا في وسط قارّة آسيا، وهي تفصل ما بين شبه القارّة الهنديّة وبين سهل التبت. تغيُّر درجات الحرارة في الإيفرست له تأثير كبير جدًّا، علمًا بأنّ الكتل الجليديّة الّتي عليه تشكّل مصدر المياه للعديد من أكبر الأنهار على الكرة الأرضيّة، مثل نهر الجانج، ونهر السِّند، ونهر براهمابوترا. سوف تؤدّي التغيّرات المناخيّة إلى تقليص كبير في الكتل الجليديّة في محيط الإيفرست، ما يؤثّر في كميّة المياه الّتي تُزوّدُ لحوالي 2 مليار شخص. إلّا أنّ درجة الحرارة في منطقة الإيفرست لم تتغيّر في السنوات الأخيرة!.

نشرت مجموعة دوليّة من الباحثين مؤخّرًا دراسة شملت تحليل درجات الحرارة الّتي تمّ قياسها في "المحطّة الهرميّة" الموجودة على منحدرات جبل الإيفرست الجنوبيّة، وذلك على ارتفاع 5050 مترًا عن سطح البحر. اتّضح من هذا التحليل أنّ المعدّل اليومي لدرجات الحرارة في المحطّة لم يتغيّر على امتداد العقود الثلاثة الأخيرة. تشير المعطيات، على الرغم من ذلك، إلى تقلُّص كتلة الكثبان الجليديّة على سلسلة جبال الهيمالايا. كيف يمكن تفسير هذا التناقض؟


لم يحدث تغيير على المعدّل اليومي لدرجة الحرارة في محطّة الأرصاد الجوّيّة، إلّا أنّ كتلة الكثبان الجليديّة آخذة بالتقلّص. "محطّة الأرصاد الهرميّة" على جبل الإيفرست | © Franco Salerno

يبرد في النهار، ويسخن في الليل

ليست المحطّة الهرميّة مجرّد محطّة كباقي محطّات الأرصاد الجوّيّة. تجري في هذه المحطّة أقدم القياسات المتواصلة على جبال الهيمالايا وعلى مدار الساعة، الأمر الّذي يتيح فحص كيفيّة تغيّر درجات الحرارة في المنطقة ليلًا بالمقارنة مع ساعات النهار. اكتشف الباحثون أنّه على الرغم من تغيّر درجات الحرارة على مدار ساعات النهار والليل، فإنّ معدّل درجة الحرارة خلال الأربع والعشرين ساعة لم يتغيّر. اتّضح أنّ ساعات الليل في منطقة المحطّة قد ازدادت حرارتها في السنين الأخيرة، أمّا ساعات النهار فقد بردت، خاصّةً في فصل الصيف، وبقي معدّل درجات الحرارة بدون تغيير. أظهرت القياسات في المحطّات الأخرى على جبال الهيمالايا و النماذج الحسابيّة، اتّجاهًا مماثلًا.  

استعان الباحثون بظاهرة طقسيّة معروفة في المناطق الجبليّة: رياح الجبال المنحدرة المعروفة بالرياح الكاتابتيّة. يؤدّي الفرق في الارتفاعات وتلامس الهواء مع السطح الجليديّ البارد إلى أن يكون الهواء في أعلى الجبل أكثر برودة وكثافة من الهواء أسفل منه. تنشط الرياح نحو أسفل الجبل بسبب الفرق في كثافة الهواء على الارتفاعات المختلفة، فتنقل معها هواء باردًا من أعلى الجبل إلى أسفله وتؤدّي إلى تبريده. تنشط الرياح المنحدرة (الكاتابتيّة)، وفقًا للقياسات الّتي تجرى في المحطّة الهرميّة، في ساعات النهار، وخاصّةً في الفصل الحارّ.


افترض الباحثون أنّ الرياح الكاتابتيّة تشتدّ بِتأثير الكتل الجليديّة. يتفحّص الباحثون البيانات | © Franco Salerno

تهبّ الريح باردة

خمّن الباحثون أنّ الريح المنحدرة تشتدّ بتأثير الكتل الجليديّة. لقد ازدادت حرارة الغالبيّة العظمى من الكرة الأرضيّة في العقود الأخيرة، بما فيه المروج الواقعة عند خاصرة جبال الهيمالايا، إلّا أنّ درجة الحرارة بجانب كثبان الهيمالايا الجليديّة ما زالت بدرجة صفر سيلزيوس (مئويّة). يعود ذلك إلى أنّ عمليّة ذوبان الكتل الجليديّة تحتاج إلى توظيف كميّة كبيرة من الطاقة. يُوظَّف فائض الطاقة الّذي يصل إلى الكتل الجليديّة كجزء من الاحترار العالميّ في ذوبانها، ولكنّه لا يؤدّي إلى ارتفاع درجة الحرارة. ازدادت درجة حرارة الهواء في أسفل الجبل في السنين الأخيرة، وقلّت كثافته نتيجة لذلك، وبقيت درجة حرارة الهواء وكثافته بدون تغيير في أعلى الجبل. اشتدّت الريح المنحدرة بسبب الزيادة في الفرق بين كثافة الهواء في أعلى الجبل وبين الكثافة في أسفله. نجح الباحثون في استعادة هذا التفسير من خلال نماذج حسابيّة تصف هبوب الرياح بجانب الكتل الجليديّة، و افترضوا أن يكون التفسير ذاته مناسبًا للكتل الجليديّة في سلاسل جبليّة أخرى، مثل جبال السِّند وجبال الألب. 

يُطرح سؤال آخر: لماذا ازدادت وتيرة ذوبان الكتل الجليديّة في جبال الهيمالايا في السنوات الأخيرة؟ تذوب الكتل الجليديّة خلال ساعات النهار في فصل الصيف بشكل خاصّ، عندما تزداد درجة الحرارة على مقربة من محطّة الرصد الجوّيّ، عن الصفر المئويّ. من المدهش أن يتعاظم ذوبان الجليد بالذات عندما يبرد الطقس خلال الساعات الّتي يحصل فيها الذوبان- ساعات النهار. كيف ازدادت سرعة ذوبان الكتل الجليديّة على الرغم من أنَّ الجبل هو أكثر برودة خلال هذه الساعات تحديدًا؟ 

للرياح المنحدرة (الكاتابتيّة) دورها في هذه الحالة أيضًا. تُسمَّى المنطقة الّتي تلتقي فيها الريح المنحدرة الّتي تهبُّ نحو أسفل الجبل بالرياح الّتي تهبّ نحو أعلى الجبل بمنطقة التجمّع، وغالبًا ما تكثر فيها الرواسب. يعتقد الباحثون أنّ ازدياد شدة الريح المنحدرة يؤدّي إلى انتقال منطقة التجمّع الّتي في أسفل السلاسل الجبليّة. تتنقل الأمطار الّتي تتكوّن في منطقة التجمّع، نتيجة لذلك، باتّجاه أسفل الجبل هي الأخرى. وتقلّ بذلك كميّة الأمطار الّتي تهطل على الكثبان الجليديّة، ويقلّ الازدياد السنويّ في كتلة الجليد.


 يؤدّي الازدياد في شدّة الرياح المنحدرة (الكاتابتيّة) إلى انتقال منطقة التجمّع في أسفل السلاسل الجبليّة، وانتقال الأمطار إلى الأسفل. يوضح الرسم أعلاه التغيّرات الحاصلة على درجة الحرارة والرياح في منحدرات جبل الإيفرست | © Salerno/Guyennon/Pellicciotti/Nature Geoscience 

 

اعتمد افتراض الباحثين على القياسات الّتي أجريت في المحطة الهرميّة، والّتي أشارت إلى أنّ معدّل كميّة الرواسب في أشهر الصيف، والّتي تهبط فيها حوالي تسعون بالمئة من الرواسب، قد انخفض ما بين السنين 1994 و 2013 بمقدار خمسين بالمئة. وأشارت القياسات الّتي أُجريت في محطّات أخرى، وفي البحيرات الّتي تتغذّى من الرواسب فقط وليس من ذوبان الكتل الجليديّة، إلى اتّجاهات جفاف مماثلة، وذلك على المرتفعات الّتي تتواجد فيها كتل جليديّة. ربّما نكون قد وجدنا حلّ اللغز إذًا: يبدو أنّ اختفاء الكثبان الجليديّة في الهيمالايا يعود لانخفاض كميّة الرواسب الّتي تهطل عليها وليس لازدياد وتيرة ذوبانها. 

0 تعليقات