بعد مرور 75 عامًا على أوّل استخدام للقنبلة النّوويّة، بات ما نحتاجه من معلومات لإنتاج قنبلة نوويّة متاحًا للجميع، ولكنَّ عمليةَ الإنتاج معقّدة ومُكلِفة جدًّا وتتطلّب مواردَ هائلة. ما الذي يجعل هذه العمليّة معقّدةً لهذه الدّرجة؟
القنابل النّوويّة هي أقوى ما طوّره الإنسان من أسلحة على الإطلاق، ولا يلوح في الأفق سلاح جديد يمكنه أن يغيّر هذه الحقيقة في العقود القادمة. تفوق قوّة الأسلحة النّوويّة قوّة الأسلحة التّقليديّة بأضعاف في كمّيّة الطّاقة المنبعثة منها، وفي حجم الدّمار والموت النّاجم عنها. من حسن حظّ الإنسانيّة أنّ إنتاج هذه الأسلحة عمليّة بالغة التّعقيد، كما أنّ الرّقابة الدّوليّة المتشدّدة نجحت في الحدّ من انتشار هذه الأسلحة فانحصر انتشارها بين عدد قليل نسبيًّا من الدّول.
تعتمد جميع الأسلحة النّوويّة على مبدأ أساسيّ واحد: إطلاق كمّيّة هائلة من الطّاقة خلال وقت قصير جدًّا - أقلّ من جزء من مليون من الثّانية. التّفاعلات النّوويّة الّتي تؤدّي إلى تغيير نواة الذّرّة هي مصدر هذه الطّاقة. هذا ما يُميّز "القنبلة الذّرّيّة" عن تفاعلات التّفجير في المواد المتفجّرة التّقليديّة الّتي تتغيّر فيها الرّوابط بين الذّرّات فقط دون تغيّر في مبنى الذّرّات الأساسيّ.
هناك الكثير الكثير من التّفاعلات النّوويّة، ولكن لاثنين منها فقط توجد أهمّيّة في عمليّة تصنيع الأسلحة النّوويّة: الانشطار النّووي الّذي تتأسّس عليه جميع الأسلحة النّوويّة، والانصهار أو الاندماج النّوويّ الّذي يحدث في القنبلة الهيدروجينيّة.
اِنبعاث كمّيّة هائلة من الطّاقة في فترة زمنية قصيرة جدًّا. أضرار القنبلة النّوويّة الّتي أُلقيت على مدينة ناجازاكي في اليابان، بعد مرور ثلاثة أعوام على إلقائها| المصدر: US NATIONAL ARCHIVES AND RECORDS ADMINISTRATION / SCIENCE PHOTO LIBRARY
قنبلة الانشطار النّوويّ: التّفاعل المتسلسل
لإحداث تفاعل الانشطار في الأسلحة النّوويّة، نحتاج لموادّ قابلة للانشطار أي عناصر ثقيلة تميل إلى أن تتفكّك إلى عناصر أخفّ منها. الموادّ الوحيدة القابلة للاستخدام الفعليّ في هذا المجال هي نظائر (إيزو توبات) معيّنة من اليورانيوم والبلوتونيوم.
النّظائر هي ذرّات تحتوي نواتها على نفس العدد من البروتونات، فهي تنتسب إذًا لنفس العنصر، ولكنّها تختلف بعدد النّيوترونات. تكون صفات نظائر العنصر المعيّن متشابهة عادةً ممّا يجعل التّمييز بينها بطرق كيميائيّة صعبًا جدًّا. توجد للعناصر الثّقيلة مثل اليورانيوم (العنصر رقم 92 في الجدول الدّوريّ) والبلوتونيوم (رقم 94) نظائر كثيرة:، مثلًا، الذّرّات الّتي تحتوي على 92 بروتونًا في نواتها هي ذرّات يورانيوم، لكنّها قد تختلف في عدد النّيوترونات، أكثر أو أقلّ، فتكون هذه نظائر عنصر اليورانيوم.
تتعلّق قابليّة انشطار المادّة بتركيب النّواة، وليست جميع النّظائر قابلة للانشطار. العناصر الوحيدة القابلة للانشطار الّتي تمّ استخدامها للحصول على تفاعلات الانشطار هي اليورانيوم والبلوتونيوم، لأنّ العناصر الأخفّ من اليورانيوم غير قابلة للانشطار، والعناصر الأثقل من البلوتونيوم قليلة الانتشار في الطّبيعة لدرجة أنّها غير متواجدة عمليًّا، ومن الصّعب إنتاجها بكمّيّات كافية للاستخدام.
البلوتونيوم ذاته عنصر اصطناعيّ، ويمكن إنتاجه بسهولة نسبيًّا في المفاعلات النّوويّة. عنصر اليورانيوم، بالمقابل، واسع الانتشار في الطّبيعة في الكرة الأرضيّة، لكنّ الغالبيّة العظمى منه، أكثر من 99 بالمئة من اليورانيوم في الطّبيعة، هي من نظير اليورانيوم 238 غير القابل للانشطار. المادّة الوحيدة ذات القابليّة للانشطار والموجودة في الطّبيعة هي نظير اليورانيوم 235، لكنّ نسبتها من مجمل اليورانيوم ضئيلة جدًّا.
تتّصف الموادّ ذات القابليّة للانشطار بالصّفة التّالية: عندما يصطدم نيوترون بنواة الذّرّة يصبح احتمال انشطارها كبيرًا نسبيًّا (أكبر من 60 بالمئة) إذ تنشطر النّواة إلى نواتين غير متطابقتين. تنبعث نيوترونات جديدة خلال هذه العمليّة، وتنبعث كمّيّة كبيرة من الطّاقة. ما المقصود بكمّيّة كبيرة؟ كمّيّة الطّاقة الّتي تنبعث من انشطار جميع الذّرّات في كيلوغرام واحد من اليورانيوم أكبر بمليون مرّة من كمّيّة الطّاقة الّتي تنبعث من حرق كيلوغرام من الفحم.
قد تتصادم النّيوترونات المنبعثة مع ذرّات أخرى فتؤدّي إلى انشطارات جديدة. عدد النّيوترونات المنبعثة من عمليّات انشطار النّويات ليس ثابتًا، لأنّ الانشطار قد يحدث بعدّة مسارات، ومعدّل عدد النّيوترونات المنبعثة 2.5 - 3 نيوترونات حسب نوع المادّة المنشطرة. مجموع عدد النّيوترونات والبروتون في نواتج الانشطار يساوي عددها الأصليّ قبل الانشطار.
تحدث عمليّة ردّ فعل متسلسلة وتتعاظم بسرعة فائقة، لأنّ كلّ انشطار يتطلب نيوترونًا واحدًا فقط، بينما تنبعث منه عِدّة نيوترونات، ذلك بافتراض أنّ النّيوترونات الّتي تنتج من الانشطار تؤدّي إلى حدوث أكثر من انشطار واحد إضافيّ في الذّرّات المجاورة. يخرج ردّ الفعل هذا المتسلسل والمتعاظم عن السّيطرة خلال وقت قصير جدًّا - أقلّ من جزء من مليون من الثّانية - فيؤدّي إلى حدوث عدد كبير جدًّا من الإنشاطارات وانبعاث كمّيّة كبيرة من الطّاقة. تعود سرعة هذه العمليّة للسّرعة الفائقة للنّيوترونات المنبعثة الّتي تصل إلى ما يقارب 14 ألف كيلومتر في الثّانية. على ضوء دور النّيوترونات المركزيّ في التّفاعل المتسلسل، ليس غريبًا أنَّ جيمس شادويك، أوّل من اكتشف النّيوترونات، شارك في تطوير أوّل قنبلة انشطاريّة في مشروع مانهاتن أثناء الحرب العالميّة الثّانية.
تؤدّي إضافة نيوترون واحد إلى نواة اليورانيوم إلى انشطارها إلى نواتين (نواة الكريبتون ونواة الباريوم) وانطلاق الطّاقة وثلاثة نيوترونات | تخطيط: CLAUS LUNAU / SCIENCE PHOTO LIBRARY
من النّظرية إلى التّطبيق
العوامل الرّئيسيّة لإحداث التّفاعل المتسلسل هي كثافة المادّة القابلة للانشطار وكتلتها. يعود ذلك إلى أنّ جزءًا من النّيوترونات النّاتجة لا يؤدّي إلى انشطارات جديدة، بل يتسرّب إلى البيئة المحيطة. كلّما ازدادت كثافة المادّة ازداد احتمال اصطدام النّيوترون بذرّة قابلة للانشطار، لأنّ الذّرّات تكون قريبةً من بعضها البعض. ويزداد حجم المادّة المُعدّة للانشطار مع ازدياد كتلتها، ممّا يتطلّب من النّيوترون عبور مسافة أطول داخل المادّة قبل أن يخرج إلى البيئة المحيطة، فيقلّ بذلك احتمال خروجه من المادّة دون أن يؤدّي إلى حصول انشطار.
إذا فرضنا أنّ كثافة المادّة المُعَدّة للانشطار ثابتة وشكلها كرويّ، يترتّب على ذلك وجود كتلة حرجة لكلّ مادة مُعدّة للانشطار، بحيث لا يحدث تفاعل متسلسل ومتعاظم تحتها، إنّما فوقها. يكون التّفاعل سريعًا جدًّا إذا كانت كتلة المادّة كبيرة فيحدث انفجار تتبعثر منه المادّة المعدّة للانشطار فتنهار الظّروف المؤاتية والضّروريّة لاستمرار حدوث التّفاعل ممّا يؤدّي إلى توقّفه في نهاية الأمر. تتراوح الكتلة الحرجة للموادّ القابلة للانشطار في الظّروف المناسبة ما بين عدّة كيلوجرامات وبضع عشرات من الكيلوجرامات (يمكن محاكاة الكتلة الحرجة في هذا الرّابط).
ما الّذي يجعل صنع القنبلة الانشطاريّة معقّدًا؟ السّبب الأوّل هو صعوبة الحصول على المادّة القابلة للانشطار. يجب بناء مفاعل نوويّ لإنتاج البلوتونيوم، أو عَزْل نظير اليورانيوم القابل للانشطار- 235، الّذي تحتوي نواته على 143 نيوترونًا، وهو نادر الانتشار في الطّبيعة، من خاماته. فقط 0.72 من الواحد بالمئة من إجماليّ اليورانيوم في الكرة الأرضيّة هو يورانيوم 235. تُسمّى عمليّة فصله عن خاماته بعمليّة "تخصيب اليورانيوم"، أي زيادة نسبة اليورانيوم 235 من إجماليّ اليورانيوم المستخرج، وهذه عمليّة صعبة التّنفيذ.
المفاعل النّوويّ وسيلة مكلِفة وتشغيله معقّد، خاصّةً إذا كان مٌعَدًّا لإنتاج البلوتونيوم اللّازم للقنابل النّوويّة. أضف إلى ذلك أنّ فصل البلوتونيوم عن الوقود النّوويّ الّذي تمّ استخدامه في العمليّة ليس بالمهمّة السّهلة إذ يتطلّب ذلك معالجة موادّ نشِطة إشعاعيًّا وخطيرة جدًّا في مصنع كبير يصعب حجبه عن الأبصار.
تخصيب اليورانيوم عمليّة معقّدة، لأنّ الصّفات الكيميائيّة للنّظائر متطابقة تقريبًا، كما أنّ الاختلاف في كتلها صغير جدًّا. تتطلّب عمليّة الفصل النّاجعة استخدام الآلاف من أجهزة الطّرد المركزيّ. منشآت التّخصيب كبيرة وتستهلك الكثير من الكهرباء، ومن الصّعب التّعتيم على وجودها. ليس من السّهل، إذًا، حتّى على الدّول ذات السّيادة، إنتاج المادّة القابلة للانشطار بشكل سرّيّ، ولا يمكن للمنظّمات الإرهابيّة بقواها الذّاتيّة إنتاج مادّة قابلة للانشطار لاستخدامها في إعداد قنبلة، دون استخدام موارد دولة تدعمها.
إذا نجحنا في إنتاج كمّيّة كافية من المادّة القابلة للانشطار فسوف نواجه التّحدّي التّقنيّ في تصنيع القنبلة. يبدو، لأوّل وهلة، أنّ كلّ ما يستدعي الأمر هو إنتاج كتلة تزيد عن الكتلة الحرجة ثمّ إطلاق النّيوترونات باتّجاهها في اللّحظة المناسبة لتبدأ العمليّة المتسلسلة. تكمن المشكلة في أنّ النّيوترونات موجودة دائمًا في البيئة المحيطة وهي تنبعث من المادّة المعدّة للانشطار نتيجة للعمليّات الّتي تحدث داخلها. لذلك، من المحتّم أن يؤدّي أحد النّيوترونات إلى حدوث انفجار بعد تجميع الكتلة الحرجة الأوّليّة بوقت قصير. يؤدّي حدوث هذا الانفجار إلى تبعثر المادّة المنشطرة (والتّقنيّ المسكين الّذي أعدّها) ويكون انفجارًا صغيرًا نسبيًّا - تساوي شدّته انفجار بضع كيلوجرامات من المادّة المتفجّرة العاديّة.
واجهت هذه المشكلة العلماء والتّقنيّين الّذين عملوا في مشروع مانهاتن لتصنيع القنابل النّوويّة الأولى، الّذي أداره الفيزيائيّ روبرت أوبنهايمر، وطوّروا طريقتين للتّغلّب عليها. كانت الأولى طريقة المدفع الّتي تناسب اليورانيوم فقط. يتمّ في هذه الطّريقة إطلاق كتلة من اليورانيوم أصغر من الكتلة الحرجة باتّجاه كتلة أخرى مثلها فتَتّحد الكتلتان وتُكوّنان كتلةً أكبر من الكتلة الحرجة. استُخدمت هذه الطّريقة في قنبلة "الولد الصّغير" الّتي أُلقيت على مدينة هيروشيما في اليابان. اِنفجر 64 كيلوجرامًا من اليورانيوم المُنضّب (المُخصّب) بقوّة تساوي 15 ألف طن من الـ TNT- وهي المادّة المتفجّرة التّقليديّة الّتي تُستخدم مقياسًا لقياس قوّة الانفجارات.
أمّا القنبلة الثّانية (الرّجل السّمين) الّتي أُلقيت على ناجازاكي، فقد استُخدمت فيها طريقة الانهيار. يقومون، بهذه الطّريقة، بتفجير كمّيّة كبيرة (حوالي 2.5 طن في قنبلة ناجازاكي) من المادّة المتفجّرة دفعةً واحدةً وذلك لضغط وزيادة كثافة كرةٍ من البلوتونيوم كتلتها أقلّ من الكتلة الحرجة لتصبح أكبر من الكتلة الحرجة. تمّ ضغط 6.5 كيلوجرامًا من البلوتونيوم لتزداد كثافتها عن الكثافة الأصليّة بضعفين ونصف فأصبحت 40 غرامًا للسّنتيمتر المكعّب الواحد. كانت قوّة الانفجار ما يعادل 21 ألف طن من الـ TNT. تناسب هذه الطّريقة جميع الموادّ القابلة للانشطار، وتُعدُّ أكثر نجاعةً من طريقة المدفع.
نماذج لقنبلة "الرّجل السّمين" (عن اليمين) و"الولد الصّغير" في موقع مشروع مانهاتن في لوس ألاموس. يقف الفيزيائيّ الإيطاليّ - أمريكيّ إميليو سيغري، وهو أحد مخضرمي مشروع مانهاتن، جنب النماذج. | المصدر: EMILIO SEGRE VISUAL ARCHIVES / AMERICAN INSTITUTE OF PHYSICS /SCIENCE PHOTO LIBRARY
تنطلق من القنابل الهيدروجينيّة أيضًا كمّيّة هائلة من الطّاقة خلال وقت قصير. تنصهر ذرّات خفيفة وتندمج بدلًا من انشطار نويات ثقيلة: تندمج نويات الهيدروجين وتُكوّن نويات هيليوم وزنها أقلّ من مجموع أوزان النّويات الأصليّة. يتحوّل فارق الكتلة إلى كمّيّة هائلة من الطّاقة تنبعث خلال انفجار ضخم. تكمن أفضليّة هذا التّفاعل في سهولة إنتاج الوقود اللّازم للانصهار مقارنةً بالوقود اللّازم لعمليّات الانشطار النّوويّ. أمّا سلبيّة العملية فهي أنّها تحدث فقط في درجات حرارة عالية جدًّا وكثافة هائلة.
يمكن الحصول على هذه الظّروف، من درجة الحرارة والكثافة، بواسطة تفجير نوويّ يعتمد على عمليّة الانشطار، عندما تحتوي القنبلة الهيدروجينيّة على قنبلة انشطار عاديّة تنفجر هي أوّلًا وتستغلّ الطّاقة المنبعثة منها في ضغط وتسخين الهيدروجين المستخدم كوقود للقنبلة الهيدروجينيّة. كمّيّة الطّاقة النّاجمة عن عمليّات الانصهار النّوويّ تعادل 10 إلى 50 ضعفًا من الطّاقة المنبعثة من قنبلة الانشطار. وتؤدّي عمليّات الانصهار إلى انبعاث النّيوترونات الّتي تؤدّي إلى حدوث انشطار آخر. من هنا، فإنّ قنابل الانصهار المتطوّرة قادرة على تحرير كمّيّات من الطّاقة أكبر بعشرين ضعفًا وأكثر من الطّاقة الّتي نجمت عن قنبلة الانشطار الّتي أُلقيت على ناجازاكي، في حين أنّ وزنها أصغر بعشرين مرّة.
يؤدّي الانشطار النّوويّ المصاحب لعمليّة الاندماج النّوويّ إلى تكوين كمّيّة كبيرة جدًّا من الغبار النّوويّ المشعّ، علمًا أنّ عمليّة الانصهار ذاتها لا تُكوّن موادّ نشطة إشعاعيًّا.
عسكريًّا، توجد للقنبلة الهيدروجينيّة أفضليّة على قنبلة الانشطار النّوويّ من حيث الحجم. تقرّر الكتلة الحرجة حجم قنبلة الانشطار، أمّا الشّرط الوحيد الّذي يحّدد حجم وقوّة قنبلة الانصهار النّوويّ فيعود إلى اعتبارات عمليّة تعود إلى قدرة الطّائرات والصّواريخ على حمل هذه الكتلة. على الرّغم من ذلك فإنّ بناء القنبلة الهيدروجينيّة مَهمّة أكثر تعقيدًا من بناء القنبلة العاديّة. تشهد على ذلك الإخفاقات الكثيرة الّتي حصلت في التّجارب النّوويّة الأولى الّتي أُجريت على القنابل الهيدروجينيّة. بالمقابل، لم تُخفِق أيّ من الدّول العظمى النّوويّة في تجربتها الأولى على قنبلة الانشطار النوويّ، ما عدا كوريا الشّمالية، ربّما.
نموذج أكبر قنبلة هيدروجينيّة في التّاريخ، "قنبلة القيصر" السّوفييتيّة المعروضة في أحد المتاحف في روسيا. لم يتمّ استخدام القنبلة في أيّة حملة عسكريّة أبدًا | المصدر: SPUTNIK / SCIENCE PHOTO LIBRARY
المخزن العالميّ للأسلحة النّوويّة
معظم القنابل الّنوويّة في عصرنا الحاضر هي قنابل هيدروجينيّة. يعود ذلك إلى كون هذه القنابل أقوى وأصغر حجمًا من القنابل الّتي تعتمد على الانشطار فقط. طوّرت الولايات المتّحدة والاتّحاد السّوفييتي في الماضي قنابل هيدروجينيّة ذات قوّة هائلة تعادل ملايين الأطنان من الـ TNT.
تُسمّى أكبر قنبلة تمّ اختبارها حتّى اليوم بـِ "قنبلة القيصر" حيث وصلت قوّتها إلى 50 مليون طن، أي ما يعادل قوّة ثلاثين ألف قنبلة كالّتي أُلقيت على هيروشيما! لم يتمّ استخدام هذه القنبلة في الأغراض العسكريّة، وإنّما بُنيت في الاتّحاد السّوفييتي لأغراض دعائيّة فقط. لا توجد اليوم قنابل ضخمة إلى هذا الحدّ، ومعظم الأسلحة النّوويّة أقوى بِ 10 - 30 مرّة "فقط" من شدّة القنابل الّتي أُلقيت في الحرب العالمية الثّانية. لا توجد في الواقع لدى الولايات المتّحدة ولا لدى روسيا أسلحة نوويّة تزيد قوّتها عن 1.2 ميجا طن (مليون طن). يعود ذلك إلى أنّ معظم الصّواريخ النّوويّة قادرة على حمْل عدّة رؤوس متفجّرة صغيرة الحجم في آنٍ واحد، وهي تسبّب ضررًا أكبر من الضّرر الّذي يسبّبه رأس متفجّر كبير واحد.
الغالبيّة العظمى من الأسلحة النّوويّة اليوم هي قنابل مُعدّة لإلقائها من الطّائرات أو كرؤوس متفجّرة محمولة على الصّواريخ. أمّا في الماضي فقد طُوّرت قذائف وقذائف هاون وطوربيدات وصواريخ جوّ - جوّ وصواريخ أرض - جوّ، وعبوات ناسفة صغيرة يحملها شخص واحد وألغام. توقّفت غالبيّة هذه الاستخدامات واختفت، لأنّها قد أُعِدّت أصلًا للتّعويض عن قِلّة دقّة السّلاح بشدّة التّدميراالكبيرة، وقلّت اليوم الحاجة لمعظم وسائل الحرب النّوويّة بسبب توفّر الوسائل الحربيّة التّقليديّة ذات الدّقّة العالية.
صاروخ حديث عابر للقارّات قادر على حمْل ثمانية رؤوس نوويّة. تقنيّون ورأس نوويّ W87 | المصدر: nuclearweaponarchive.org
إشعاعات ودمار هائل
لا يوجد فرق كبير بين تأثير قنابل الانشطار والقنابل الهيدروجينيّة. شدّة الانفجار - أي كمّيّة الطّاقة المنبعثة - هي العامل الرّئيسيّ الّذي يؤثّر على فعاليّة القنبلة. تتحوّل معظم هذه الطّاقة إلى حرارة. تؤدّي كمّيّة هائلة من الحرارة إلى احتراق الموادّ القابلة للاشتعال، وتؤدّي إلى الإصابة بالحروق حتّى على بعد كبير من موقع الانفجار، وينبعث الجزء الآخر من الطّاقة على شكل طاقة حركيّة تُكوّنُ أمواجًا ارتداديّةً قادرة على هدم المباني، ويطال ضررها وتأثيرها الأماكن الّتي تبعد كيلومترات عن موقع الانفجار.
صحيحٌ أنّ جسم الإنسان مقاوم للارتداد المباشر، إلّا أنّه يتعرض للإصابة من الأجسام المتطايرة والزّجاج المُهشّم.
تتكوّن السّحابة الفطريّة الّتي أصبحت رمزًا للتّفجيرات النّوويّة نتيجةً للرّياح القويّة النّاجمة عن الأمواج الارتداديّة. تشتعل الكثير من الحرائق الّتي تؤدّي إلى زيادة شدّة الدّمار عند انفجار القنبلة النّوويّة فوق منطقة مأهولة بالسّكّان، كما حدث في هيروشيما وناجازاكي.
رمز التّفجيرات النّوويّة. فِطر التّفجير في التّجربة الأمريكيّة Castle Romeo في جزر بكيني سنة 1954 | المصدر: United States Department of Energy
الإشعاع النّاجم عن القنبلة النّوويّة ذو تأثير ثانويّ. تنتشر في منطقة الانفجار إشعاعات قويّة بشكل فوريّ، إلّا أنّ انتشارها يكون عادةً على نطاق ضيّق أصغر بكثير من الأمواج الارتداديّة والإشعاع الحراريّ. يكمن الخطر الأكبر في الغبار النّوويّ - وهي الموادّ ذات النّشاط الإشعاعيّ الّتي تتكوّن في عمليّات الانشطار وتختلط بالتّراب والرّمال وشظايا الانفجار، وتُكوّنُ غبارًا ذا نشاطٍ إشعاعيّ. ينشر الغبار النّوويّ إشعاعات شديدة، لكنّها سرعان ما تخفّ شدّتها فتصبح مساوية لعُشر شدّتها البدائيّة بعد مرور بضع ساعات.
يقلُّ خطر تكوّن الغبار النّوويّ نوعًا ما، لأنّ معظم الأسلحة النّوويّة مبرمجة للانفجار على ارتفاع مئات الأمتار عن سطح الكرة الأرضيّة، وليس على الأرض مباشرة. يتناثر الغبار النّوويّ مع الرّياح في هذه الحالة ولا يترسّب في منطقة الانفجار. تتناثر الأشعّة على مساحة كبيرة، لكنّ شدّتها تكون منخفضة نسبيًّا. يتضاءل النّشاط الإشعاعيّ تدريجيًّا في منطقة التّفجير النّوويّ، فهيروشيما وناجازاكي اليوم آمنتان ويمكن العيش فيهما، ومحيطهما خالٍ من النّشاط الإشعاعيّ. (يمكنكم محاكاة التّفجيرات النّوويّة في ظروف متنوّعة في هذا الرّابط).
هيروشيما ونجازاكي اليوم خاليات من النشاط الإشعاعيّ . نصب تذكاريّ للّذين لاقوا حتفهم من القنبلة النّوويّة الّتي أُلقيت على هيروشيما. | المصدر: ANDY CRUMP / SCIENCE PHOTO LIBRARY
هل الخطر قائم في الحياة اليوميّة أيضًا؟
هل الخطر من الأسلحة النّووية قائم حتّى دون استخدامها وهي محفوظة في مخازن الأسلحة؟ الجواب بشكل عامّ هو لا. تنبعث إشعاعات قليلة جدًّا من القنابل المخزّنة. تُستخدم، عادةً، تركيبةُ البلوتونيوم الّتي تنبعث منها نسبة قليلة من الإشعاعات (نسبة منخفضة جدًّا من البلوتونيوم 240) في الغوّاصات الأمريكيّة المسلّحة بالصّواريخ العابرة الّتي تحمل رؤوسًا نوويّة، وذلك عندما يتواجد بالقرب منها طاقم الغوّاصة لفترات زمنيّة طويلة.
كان احتمال حصول حوادث انفجارات غير مخطّطة لقنابل نوويّة كبيرًا نسبيًّا في الماضي، لكنّ هذا الاحتمال ضئيل جدًّا في أيّامنا. تُبنى الرّؤوس المتفجّرة اليوم بحيث لا تؤدّي الحوادث - مهما كانت درجة خطورتها، كسقوط الطّائرة الّتي تحمل القنابل - إلى انفجار نوويّ غير مُخطّط. وتُبذل الجهود لتأمين عدم تناثر المادّة النّشِطة إشعاعيًّا إلى البيئة المحيطة في حال حصول مثل هذه الحوادث. أضف إلى ذلك أنّ الرّؤوس النّوويّة التّابعة للدّول العظمى النّوويّة تكون مُزوّدةً بآليّات تمنع استخدامها بدون إدخال الشّيفرة المناسبة، و لن تنجح أيّة جهة معادية أو غير مسؤولة تفجيرها حتّى لو استطاعت السّيطرة عليها.
حدثت في العقود الأخيرة حوادث كثيرة تتعلّق بأسلحة نوويّة. لم يحدث انفجار نوويّ في أيٍّ من هذه الحوادث، لكنّ حدوثها كان قريبًا جدًّا في بعض الحالات. لم تتناثر موادّ نشِطة إشعاعيًّا إلى البيئة المحيطة في القسم الأكبر من هذه الحوادث.
وسائل أمانٍ كثيرة. أنابيب إطلاق الصّواريخ الموجودة في الغوّاصة الأمريكيّة أوهايو | تصوير: US AIR FORCE / SCIENCE PHOTO LIBRARY
قنبلة السّلام؟
يتمّ إعداد الأسلحة النّوويّة اليوم للاستخدام العسكريّ فقط، أمّا في الماضي فقد دُرست إمكانيّة الاستعانة بها للأغراض المدنيّة، خاصّةً في المحاجر والمناجم. المشكلة الرّئيسيّة في ذلك هي أنّ كمّيّة الإشعاعات المنبعثة ستكون أعلى من المتاح حتّى لو تمّ تخطيط الآليّة النّوويّة لتبعثر أقلّ ما يمكن من المادّة النّشطة إشعاعيًّا.
هناك خطر انتشار الأسلحة النّوويّة ووصولها إلى جهاتٍ غير مسؤولة، إذ لا يوجد فرق جوهريّ بين جهاز التّفجير النّوويّ المستخدم في المحاجر والمناجم وبين القنبلة النّوويّة. أضف إلى ذلك أنّه تمّ على مرّ السّنين إبرام معاهدات دوليّة لمنع إجراء التّجارب النّووية، في الجوّ بشكل خاص. تخلّت الولايات المتّحدة، بناءً على ذلك، منذ سنوات السّبعينيّات من القرن الماضي (القرن العشرين) عن برنامج استغلال الأجهزة النّوويّة للاستخدام المدنيّ. كان برنامج الاتّحاد السّوفييتي في هذا المجال أكثر اتّساعًا إلّا أنّه تمّ التّخلّي عنه في النّهاية.
دُرست، أيضًا، إمكانيّة استخدام القنابل النّوويّة لتشغيل وتحريك السّفن الفضائيّة. بادرت الولايات المتّحدة في سنوات الخمسينيّات من القرن الماضي إلى تخطيط "مشروع أوريون" لفحص هذه الإمكانيّة. تخلّت الولايات المتّحدة في نهاية الأمر عن هذا المشروع أيضًا في أعقاب حظر القيام بالتّجارب النّوويّة في الجوّ والفضاء، وحظر استخدام السّلاح النّوويّ بشكل فعليّ في الفضاء.
نجمت عن تطوير الأسلحة النّوويّة نتائج ذات صلة بالحياة اليوميّة. استُخدِمَ التِّفلون، المعروف لنا كطلاءٍ للمقالي، مثلًا، لأوّل مرّة في مشروع منهاتن كطلاءٍ مقاومٍ كيميائيًّا للفلور الّذي استُخدم بدوره في عمليّة تخصيب اليورانيوم.
الأفكار حول حفر المحاجر والمناجم بواسطة التّفجير النّوويّ . جُرن سدان في نيفادا يبلغ قطره حوالي 400 متر وقد نجم عن تفجير نوويّ تمّ التّخطيط له مسبقًا. | تصوير: OMIKRON / SCIENCE PHOTO LIBRARY
النّادي النّوويّ
توجد اليوم خمس دول تُقرُّ المعاهدات الدّوليّة بأنّها دول عظمى نوويّة: الولايات المتّحدة، روسيا (الاتّحاد السّوفييتي سابقًا)، بريطانيا، فرنسا والصّين. الدّول الّتي أجرت العدد الأكبر من التّجارب النّوويّة هي الولايات المتّحدة والاتّحاد السّوفييتي، في أواسط القرن العشرين بشكل خاصّ، أمّا الدّول الثّلاث الأخرى فقد أجرت العشرات من التّجارب فقط.
تمتلك دول أخرى قدرات نوويّة عسكريّة وهي الهند وباكستان وكوريا الشّماليّة، وقد أجرت هذه الدّول القليل من التّجارب النّوويّة. كانت لدى جنوب إفريقيا في سنوات الثّمانينيّات من القرن العشرين ستّ قنابل نوويّة وقد تمّ تفكيكها قبل انتهاء ولاية حكم التّفرقة العنصريّة بقليل. أُلقيت على إيران عقوبات اقتصاديّة بسبب الشّكوك بأنّها تحاول تطوير قنبلة نوويّة، لكنّها، كما هو معروف، لم تبلغ هذه القدرة حتّى اليوم . تمتلك دولة إسرائيل أيضًا، حسب منشورات أجنبيّة، السّلاح النّوويّ. حاولت دول أخرى مثل العراق وسوريا في الماضي تطوير قدرات كهذه إلّا أنها أُوقفت قبل أن تبلغ الغاية.
يُطرح السّؤال التّالي في نهاية الأمر: أليس من الخطر كشف جميع أسرار القنبلة النّوويّة؟ الإجابة القاطعة هي لا. لقد اعتُبرت المعلومات الّتي أوردناها أعلاه ومعلومات أخرى سرّيّة في الماضي، لكنّها اليومَ معروفة للجميع. لم تعد معظم الموادّ والمعلومات حول الأسلحة النّوويّة سِرّيّةً عدا عن التّخطيطات الكاملة للأسلحة والأفكار المتطوّرة نسبيًّا، خاصّةً تلك المتعلّقة بالقنبلة الهيدروجينيّة. المبادئ المركزيّة معروفة منذ منتصف القرن الماضي. يمكن أن نجد في الويكيبيديا استرجاعًا غير رسميّ، لكنّه في غاية الدّقّة، لتخطيطات القنابل الّتي أُلقيت على هيروشيما وناجازاكي.
العقبات الرّئيسيّة الّتي تواجه أيّة دولة أو تنظيم تحاول الحصول على أسلحة نوويّة هي عقبات اقتصاديّة، لوجستيّة وسياسيّة، أمّا المعرفة العلميّة فهي موجودة ومتاحة للجميع. قسم كبير من المعلومات الّتي أوردناها كان قد نُشِرَ في تقرير سميث مع انتهاء مشروع مانهاتن والحرب العالمية الثّانية.
أجرت الولايات المتّحدة سنة 1964 تجربةً طُلبَ فيها من ثلاثة علماء شباب عديمي الخبرة والتّجربة في المجال النّوويّ تخطيط قنبلة نوويّة بالاعتماد على المعلومات المكشوفة الواردة في الكتب والمجلّات العلميّة. قدّم هؤلاء العلماء الثّلاثة بعد ثلاث سنوات تخطيطًا نهائيًّا ما زال سرّيًّا حتّى اليوم، ولكن يبدو أنّه يمكن بناء قنبلة قابلة للاستخدام بالاعتماد عليه. المعلومات في أيّامنا متوفّرة بكثرة. على الرّغم من ذلك يبقى إنتاج المادّة القابلة للانشطار لاستخدامها كسلاح نوويّ مَهمّة صعبة ومُكلِفة ومُعقّدة جدًّا. نأمل أن لا نرى في المستقبل إنتاجًا واسعًا للأسلحة النّوويّة، واستخدامًا لها في الحرب، حتّى لوافترضنا، منطقيًّا، أنّ الاحتمال بأن يقود هذا السّلاح إلى دمار الإنسانيّة هو احتمال ضئيل جدًّا.
الترجمة للعربيّة: أ. خالد إبراهيم مصالحة
التدقيق والتحرير اللغوي: د. عصام عساقلة
الإشراف والتحرير العلمي: رقيّة صبّاح أبو دعابس