الفوبيا، أو الرهاب، هي حالة من الخوف الشديد وغير المنطقيّ من عامل خارجيّ معيّن، ويمكن أن تنشأ تجاه أيّ شيء تقريبًا. بمناسبة الهالوين، خرجنا لنتحقّق من آخر مستجدّات العلم حول مسبّبات وأعراض أبرز أنواع الفوبيا، من فوبيا المرتفعات إلى فوبيا الأماكن المغلقة وحتّى فوبيا المياه

مع حلول نهاية شهر أوكتوبر من كلّ عام، تحلّ "ليلة كلّ القدّيسين" في الولايات المتّحدة وعدّة دول أخرى، والهالوين هي ليلة عيد الرعب الّذي بات يُعرف بعيد "الهالوين" الشهير. إذًا لننتهز هذه الفرصة لنستكشف معًا جوهر الخوف وكيفيّة تطوّره من مجرّد خوف طبيعيّ إلى فوبيا أو رهاب يمكن أن يعيق الحياة اليوميّة.

الخوف ظاهرة قديمة في عالم الأحياء، سبقت حتّى ظهور الإنسان، وطالما كان ردّ فعل أو "عاطفة" طبيعيّة وضروريّة لبقاء ونجاة الكائنات الحيّة المتطوّرة. يلعب الخوف دورًا حاسمًا في تعزيز قدرتنا على حماية أنفسنا والنجاة من المخاطر، مانحًا إيّانا فرصة التعلّم للعيش بحذر وأمان في محيطنا.

 من ناحية أخرى تندرج الفوبيا (الرهاب) ضمن الاضطرابات الوظيفيّة. وفقًا لـ DSM-5، الدليل التشخيصيّ والإحصائيّ للاضطرابات النفسيّة الّذي تصدره جمعيّة علم النفس الأمريكيّة، تعتبر الفوبيا نوعًا من اضطرابات القلق، وهي حالة يعاني فيها الشخص من خوف غير منطقيّ يمكن أن يؤثّر في أدائه اليوميّ إلى حدّ كبير. كما  تُعرف الفوبيا بأنّها خوف حقيقيّ مفرط لا يتطابق مع مستوى الخطر الحقيقيّ الّذي قد يواجهه الشخص في ظرف معيّن، سواء كان ذلك أثناء التفاعل مع مصدر الخوف، والّذي يمكن أن يمتثل بحيوان أو جسم أو موقف أو حتّى بفكرة معيّنة. وعادة ما يغيّر الأشخاص الّذين يعانون من الفوبيا سلوكهم لتفادي الاتّصال بمصدر الخوف، ومجرّد التفكير في مصدر الرهاب يكفي لإثارة قلقهم. وكلّما كان المصاب بالفوبيا أكثر عرضة لمسبّب القلق في الحياة اليوميّة، كلّما تأثّرت قدرته على إدارة روتين حياته الطبيعيّ، وتأثّرت جودة حياته أكثر.

عادةً ما تبدأ أعراض الفوبيا في مرحلة الطفولة، علمًا أنّه من الممكن أن تنشأ الفوبيا في أيّ جيل. كما أنّ النساء أكثر عرضة بمرّتَين للإصابة بالفوبيا مقارنةً بالرجال، ويرجّح أنّ ذلك يعود إلى الفروقات الهرمونيّة والكيميائيّة بل والثقافيّة بين الجنسين، إلّا أنّه قد يعود أيضًا إلى أنّ الرجال أقلّ ميلًا لطلب المساعدة، ما يؤدّي إلى تشخيصهم بنسبة أقلّ. وفقًا لبيانات منظّمة الصحّة النفسيّة الأمريكيّة، فإنّ شخصًا واحدًا من بين كلّ ثمانية أشخاص في الولايات المتّحدة سيواجه فوبيا معيّنة في مرحلة ما من حياته، وقد تستمرّ هذه الفوبيا لعدّة سنوات، وفي الحالات المستعصية قد تدوم مدى الحياة.

نظرًا لوجود العديد من أنواع اضطرابات القلق الّتي تحمل بعض أوجه  الشبه فيما بينها، سنستخدم كلمة "فوبيا" في المقالة التالية للإشارة فقط إلى الاضطرابات المتعارف عليها رسميًّا بـ "الفوبيا المحدّدة" دون التطرّق إلى اضطرابات القلق الأخرى، والّتي تُسمَّى فوبيات بشكل مضلّل أحيانًا. "القلق الاجتماعيّ" على سبيل المثال، يُسمَّى أحيانًا فوبيا اجتماعيّة دون أن يكون فوبيا محدّدة فعليًّا، وكذلك الأمر بالنسبة للقلق من الأماكن العامّة والّذي يُشار إليه بالأجروفوبيا (رهاب الخلاء، Agoraphobia) في حين يجسّد خصائص مختلفة وتعريف سريريّ مختلف.


عادةً تظهر الفوبيا لأوّل مرّة في الطفولة، ولكن يمكن تطوير فوبيا في أيّ جيل. طفلة تخفي وجهها من الخوف | المصدر: Shutterstock, Parkin Srihawong

مهد الخوف

لانزال حتّى يومنا هذا نجهل الأسباب الّتي تجعل بعض الأشخاص دون غيرهم أكثر عرضة للإصابة بأحد أشكال الفوبيا. ومع ذلك  يبدو أنّ مسار الإصابة بالفوبيا يمرّ دومًا ب"عمليّة تعلّم" تنتهي باكتساب الفوبيا. للتوضيح، قد يطوّر طفل ضلّ طريقه في حفلة عيد ميلاد فوبيا البالونات (غلوبوفوبيا). وحتّى أنّه لا يلزم أن تكون العلاقة بين المصاب بالفوبيا والتجربة المؤلمة مباشرة. فقد يصاب شخص آخر بغلوبوفوبيا بسبب حادثة مختلفة تمامًا، كالتعرّض لهجوم إرهابيّ مثلًا، حيث إنّ صوت انفجار البالونات الصاخب قد يذكّره بتلك اللحظات المرعبة. كما تُثار الفوبيا أحيانًا  بمجرّد مشاهدة حدث صادم على التلفزيون، أو حتّى بمجرّد القراءة عنه في مقال أو كتاب.

تندرج تجربة "ألبرت الصغير"، الّتي أجراها علماء السلوك البشريّ جون واتسون (Watson) وروزلي راينر (Rayner) من جامعة جون هوبكينز في الولايات المتّحدة، ضمن  الدراسات الرائدة والمشهورة في مجال الفوبيا. في هذه التجربة، قدّم الباحثان فأرًا أبيض لطفل لم يتجاوز عمره سنة واحدة، وأُطلق عليه اسم 'ألبرت' في الدراسات. بينما كان ألبرت يلعب بالفأر، أصدر العلماء فجأة صوتًا عاليًا ومخيفًا من مطرقة تضرب على قضيب حديديّ، ما أثار خوف ألبرت الّذي انفجر في البكاء. بعد أن هدأ ألبرت وعاد للّعب مع الفأر، قام العلماء بإسماع ضوضاء المطرقة في كلّ مرّة يلمسه لينفجر ألبرت المذعور في البكاء مرّة أخرى. بعد تكرار هذه العمليّة عدّة مرّات، بدأ ألبرت يرتبط بالفأر الأبيض بشعور الخوف والقلق فرفض الاستمرار في اللعب مع الفأر الأبيض والفرويّ. وعلاوة على ذلك، باتت مجرّد رؤية الفأر كافية لإثارة بكائه ومحاولته الابتعاد عنه قدر الإمكان.

هكذا أظهر الباحثون كيف يمكن للإنسان ان يكتسب الخوف من شيء ليس مخيفًا في حدّ ذاته بربطه بمحفّز مشحون، وبذلك جعل الشخص يخاف من محفّزات معيّنة. عندما عرضوا على ألبرت حيوانات ذات فراء بيضاء أخرى مثل أرنب أو كلب صغير، بكى وخاف منها أيضًا، فهو أصبح يرى بالكائنات الفرويّة البيضاء الصغيرة تهديدًا يجدر الخوف منه. وفي أحد تقارير هذا البحث تبيّن أنّ ألبرت ذُعر حتّى من مشاهدة معطف فرو شتويّ بل وحتّى من قناع بابا نويل/سانتا كلاوس.


تجربة غير أخلاقيّة: الصغير ألبرت ينفجر بالبكاء عند رؤية شخص يرتدي قناع سانتا كلاوس | المصدر: أرشيف علم النفس في أكرون | جون بي واتسون

 

ما زالت تجربة 'ألبرت الصغير' والّتي أُجريت في العشرينات من القرن الماضي، أي منذ حوالي مئة عام، مثيرة للجدل حتّى يومنا هذا بسبب الأسئلة الأخلاقيّة الذتي تثيرها. في عصرنا الحالي، مع معايير الأخلاقيّات في البحث العلميّ، لم يكن ليُسمح للباحثين بإجراء تجربة مثل هذه تسبّب الأذى لطفل. تُبيّن هذه التجربة بوضوح كيفيّة عمل آليّة التكييف الكلاسيكيّ، وهي طريقة تعلّم أساسيّة تربط بين محفّزين؛ حيث يؤدّي الاستجابة لمحفّز واحد- كالخوف من صوت مرتفع- إلى استجابة مماثلة بسبب محفّز حياديّ لم يكن يثير هذه الاستجابة من قبل، مثل الفأر الأبيض. ومع ذلك، بعكس الفوبيا، لم تستمرّ استجابة الخوف لدى ألبرت لفترة طويلة؛ للحفاظ على هذا الخوف تجاه الحيوانات الفرويّة، كان يجب على الباحثين تكرار الربط بالصوت الصاخب كلّ بضعة أيام.

بالإضافة إلى الجدل الأخلاقيّ، واجهت تجربة 'ألبرت الصغير' انتقادات عديدة في مجال علم النفس. من أبرز هذه الانتقادات أنّ التجربة اعتمدت على مشارك واحد فقط، دون وجود مجموعة مرجعيّة (control group) للمقارنة. كما أنّ الوصف المكتوب لردود فعل ألبرت كان الأسلوب الوحيد المستخدَم لتوثيق استجاباته العاطفيّة، دون إمكانيّة لقياس البيانات بشكل دقيق وتحليلها إحصائيًّا. أضف إلى ذلك، أنّ هناك من أشار إلى أنّ ألبرت كان يعاني من مشاكل عصبيّة، وكان يتلقّى العلاج في المستشفى خلال فترة التجربة، ما يثير تساؤلات حول مدى صحّة الاستنتاجات المتعلّقة بالاستجابات العاطفيّة للأطفال الرضّع بشكل عام.

مِمَّ نخاف؟

لا تنشأ جميع الفوبيات في ظروف تجريبيّة محكمة، وغالبًا ما يكون من الصعب تحديد اللحظة الدقيقة الّتي تنبثق فيها فوبيا معيّنة والعوامل الّتي تثيرها. يذهب بعض الباحثين إلى الاعتقاد بأنّ بعض الفوبيات قد تطوّرت عبر التاريخ البشريّ كاستراتيجيّات للبقاء؛ فعلى سبيل المثال، تُعدّ الفوبيا من الثعابين واحدة من الفوبيات الأكثر شيوعًا وإنّه لأمر بديهيّ أنّ تجنّب الثعابين يمكن أن يحمي الإنسان من لدغة خطيرة. وهذا الأمر ينطبق أيضًا على فوبيات أخرى شائعة مثل الخوف من المرتفعات أو الأماكن المزدحمة.

على الرغم من أنّه قد يكون هناك أساس تطوّريّ لبعض الفوبيات، يبدو أنّه أقلّ أهميّة بكثير مقارنة بالعوامل البيئيّة. وفعلًا  تشير الدراسات على التوائم إلى أنّ احتمال إصابة التوائم المتطابقة- الّتي تشترك في نفس الجينات- بنفس الفوبيا ليس مرتفعًا بأيّ شكل بتاتًا.

يمكن أن تظهر الفوبيا تجاه أيّ شيء تقريبًا، من الدبابيس ووسائد الريش وحتّى الفضائيّين. وبالطبع، من المستحيل مناقشة كلّ أنواع الفوبيات الممكنة هنا. لكنّنا سنركّز على بعض الفوبيات الأكثر شيوعًا أو تلك الّتي تثير الاهتمام بشكل خاصّ، لنستكشف ما يقوله البحث العلميّ عنها.

أكروفوبيا: الخوف من الأماكن المرتفعة

الفوبيا من الأماكن المرتفعة (رهاب المرتفعات، Acrophobia) هي فوبيا يعاني منها الأشخاص بشعور قويّ بالخوف والقلق عندما يكونون في أماكن مرتفعة أو حتّى عند التفكير فيها. من الطبيعيّ بل ومن المعقول أن يشعر الإنسان بعدم الراحة عند النظر لأسفل من مكان مرتفع، فالسقوط منه خطير وسيشعر معظم الناس بدرجة من عدم الراحة عند النظر لأسفل من قمّة جرف مرتفع أو حتّى من سطح ناطحة سحاب. لكن ما يميّز مَن يعانون من الأكروفوبيا هو حدّة خوفهم الّتي تؤثّر في حياتهم اليوميّة بشكل ملحوظ. فيصبح البعض يواجه صعوبة في أمور بسيطة مثل صعود الدرج، الوقوف على شرفة، أو حتّى الدخول إلى مبنًى عالٍ، على الرغم من وجود الحواجز الآمنة. حتّى ارتفاعات بسيطة مثل بضع درجات على سلّم أو الوقوف على كرسي يمكن أن تثير الفوبيا.

أظهرت الدراسات الّتي تناولت تطوّر الإدراك البصريّ للعمق لدى الأطفال الصغار كيف يمكن أن يشعر الإنسان  منذ سنّ مبكّرة بعدم الارتياح عند الوقوف على أرضيّة زجاجيّة توهمنا بالارتفاع. عندما زحف الأطفال على سطح زجاجيّ يبدو وكأنّه مرتفع، ارتفعت وتيرة نبض قلوبهم. والأكروفوبيا من الفوبيات الشائعة، إذ تصيب واحدًا من كلّ عشرين شخصًا. السؤال المهمّ هو: كيف يتحوّل هذا الخوف الأوّليّ الّذي يشعر به الجميع إلى حدّ ما، إلى فوبيا مؤثّرة في حياة بعض الأشخاص؟


أكروفوبيا: خوف شديد جدًّا من الارتفاعات، حتّى تلك الّتي لا تشكّل أيّ خطر على الإطلاق | المصدر: simona pilolla 2, shutterstock

تراكمت، في السنوات الأخيرة، الأبحاث الّتي تشير إلى أنّ الخوف من الارتفاعات قد لا ينشأ  بالضرورة عبر التعلّم. أفادت دراسة طوليّة في أستراليا ونيوزيلندا بعد أن راقبت حوالي ألف طفل حتّى سن الـ 18، أنّ الأطفال الّذين تعرّضوا لسقوط من الأماكن المرتفعة لم يكونوا أكثر عرضة لتطوير فوبيا من الارتفاعات.

كما تمّ إثارة فرضيّة أخرى مفادها أنّ رهاب المرتفعات قد ينشأ من عيب جسديّ يحدث مشاكل في التوازن والاستقرار، ما يؤدّي إلى تقويض شعورهم بالأمان في الأماكن المرتفعة. للتحقّق من ذلك، أجرت دراسة في 2008 اختبارات توازن شاملة (Posturography) على 31 شخصًا يعانون من فوبيا الأماكن المرتفعة. يقوم هذا الاختبار على تقييم قدرة التحكّم بالجسم والإدراك المكانيّ، أي على مدى التنسيق بين توازن الجسم، الرؤية، وآليّات الإحساس في أقدام المشاركين. ووجد الباحثون أنّ توازن الأشخاص الّذين يعانون من أكروفوبيا كان في الواقع أقلّ كفاءة مقارنة بالآخرين، وواجهوا صعوبة في السيطرة على استقرارهم. 

وغالبًا ما يعاني هؤلاء الأشخاص من ضعف في الإدراك المكانيّ، ومن حالات عدم الراحة المرتبطة بالحركة، مثل الغثيان أثناء السفر، وكذلك من ميل للدوار، ضيق التنفّس وتسارع نبضات القلب. كما تمّ العثور على أعراض مماثلة لدى الأشخاص الّذين يعانون من مشاكل في نشاط الجهاز الدهليزيّ، المسؤول عن الحفاظ على التوازن والإدراك المكانيّ. الدوار مثلًا، هو حالة تتميّز بالدوخان وفقدان حسّ الاتّجاهات. يجري حاليًا نقاش حادّ بين الباحثين حول ما إذا كانت هناك صلة بين الدوار والأكروفوبيا.

أظهر باحثون آخرون أنّ جودة التوازن والتحكّم في الجسم تتنبّأ جيّدًا بمستوى خوف الشخص من الارتفاعات. استنادًا إلى فكرة أنّ الأشخاص الّذين لديهم صعوبة في السيطرة على توازنهم يعتمدون بشكل رئيس على بصرهم للحركة، أُجريت سلسلة من الاختبارات المعقّدة على 45 مشاركًا لتحليل هذه العلاقة. في أحد الاختبارات، طُلب من المشاركين تعديل عصا داخل إطار منحنٍ لجعلها عموديّة على الأرض، حيث أظهر الأشخاص الّذين يعتمدون على الرؤية ميلًا لوضع العصا بزاوية مائلة قليلًا، بينما كان الأشخاص الّذين يعتمدون على التوازن أكثر دقّة. هكذا فحصوا ما إذا كان هناك صلة بين الخوف من الأماكن المرتفعة ودرجة الاعتماد على الاستقرار الجسديّ أو الرؤية. في اختبار آخر، طُلب من المشتركين الوقوف لمدّة دقيقتَين على حافّة ضيّقة بحيث يكون كعب إحدى القدمين ملتصقًا بأصابع القدم الأخرى، ومن ثمّ إغلاق عيونهم وتشابك أيديهم. تمّ قياس كميّة الحركة اللازمة لهم للحفاظ على التوازن ومعدّل السقوط، ما سمح بتقييم جودة استقرارهم وتوازنهم. هذه النتائج تساعد في فهم العلاقة بين الخوف من الارتفاعات واعتماد الأشخاص على الرؤية مقابل التوازن الجسديّ.

في تجربة أخرى، خضع المشاركون لاختبار على ارتفاع خمسة طوابق لقياس مستوى قلقهم في مواقف مختلفة. كانت الفرضيّة بأنّ الأشخاص الّذين يعتمدون بشكل كبير على بصرهم ويجدون صعوبة في الحفاظ على التوازن بأعين مغلقة، سيشعرون بخوف أكبر من الارتفاعات. وقد أكّدت النتائج هذه الفرضيّة.

تُظهر مثل هذه الدراسات مدى التعقيد الكبير في العلاقة بين الجسم والعقل. حتّى الآن، ما زال الغموض يكتنف السؤال: هل صعوبات التوازن تسبّب الفوبيا، أم أنّ الفوبيا تؤدّي إلى هذه الصعوبات؟ كلّما زاد فهمنا لهذه الروابط، كلّما تحسّنت قدرتنا على مساعدة من يعانون من هذه الاضطرابات.

كلوستروفوبيا: الخوف من الأماكن المغلقة

 يعاني واحد من كلّ ثمانية أشخاص في العالم بدرجة أو بأخرى من كلوستروفوبيا (رهاب الأماكن المغلقة). وكما هو الحال عند أغلب أنواع الفوبيا، نجد أنّ الكلوستروفوبيا أكثر شيوعًا عند النساء. يبدأ القلق لدى الأشخاص المصابين بالكلوستروفوبيا عندما يجدون أنفسهم في مكان ضيّق أو مغلق، أو حتّى عند الاقتراب من مثل هذه الأماكن. يشمل ذلك الكهوف، الأنفاق، المصاعد، القبو، الطائرات، وأماكن ضيّقة كتلك المُستخدمة في التصوير الطبيّ مثل جهاز الرنين المغناطيسيّ (MRI). ما يثير الدهشة هو أنّ هذا الخوف قد يظهر حتّى في الأماكن الّتي تحوي مخارج واضحة كالنوافذ أو الأبواب.


يشكّل فحص الرنين المغناطيسيّ مشكلة هائلة للمصابين بالكلوستروفوبيا | المصدر zlikovec, shutterstock

 كان الاعتقاد السائد في السابق أنّ الكلوستروفوبيا تنبع غالبًا من تجارب صادمة خلال الطفولة. هناك حالات تدعم هذه الفكرة، كقصّة سيّدة في الخامسة والخمسين من عمرها تواجه صعوبة في الخضوع لفحص CT، الّذي يشبه الأنبوب في شكله، بسبب فوبيا تطوّرت في طفولتها بعد أن تمّ حبسها في مقصورة مرحاض صغيرة لأكثر من عشر دقائق. لكن مع مرور الوقت، بدأ هذا التصوّر يتغيّر ويتّسع. إذ إنّ العديد من حالات الكلوستروفوبيا الّتي ظهرت مؤخّرًا لا ترتبط بحدث محوريّ محدّد في الطفولة، ما يشير إلى أنّ الفوبيا قد تنشأ من عوامل أخرى غير تجارب الطفولة الصادمة. يبدو أنّ آليّة اكتساب الخوف وتعلّمه ليست السبب الوحيد وراء الكلوستروفوبيا.

في دراسة حديثة أُجريت عام 2020، توصّل الباحثون إلى اكتشاف مهمّ يتعلّق بالكلوستروفوبيا عند الفئران. فقد لاحظوا وجود مسار عصبيّ محدّد ينشط عندما توضع الفئران في مكان ضيّق ومغلق. والأمر المثير للاهتمام هو أنّه عندما قاموا بتنشيط هذا المسار عصبيًّا بشكل اصطناعيّ دون وجود الفئران في مكان مغلق، بدأت الفئران تظهر سلوكيّات تشبه تلك المرتبطة بالكلوستروفوبيا. هذه النتائج تشير إلى أنّ الكلوستروفوبيا قد تكون مدفوعة بأسس فيزيولوجيّة واضحة، على الأقلّ في الفئران، وتفسّر السلوكيّات الّتي ترتبط بها.

توفّر الدراسات الجينيّة الحديثة رؤًى جديدة حول الفوبيات، إذ تشير إلى أنّ الجينات قد تلعب دورًا في تطوّرها. من بين هذه الاكتشافات، هناك جين معيّن يُنتج بروتينًا فعّالًا في منطقة من الدماغ مسؤولة عن معالجة العواطف تحت الضغوط النفسيّة. تبيّن أنّ الطفرات في هذا الجين مرتبطة بزيادة ميل الأشخاص لتجربة نوبات القلق المتكرّرة.

في دراسة مثيرة أُجريت عام 2013، أظهر الباحثون أنّ العبث بهذا الجين عند الفئران قد يؤدّي إلى سلوك يشبهالكلوستروفوبيا. لوحظ أنّ الفئران الّتي خضعت لهذا التعديل كانت تعاني من عدم الاستقرار، تصدر أصواتًا تدل على الضيق، وتزداد وتيرة نبضات قلوبها. بالرغم من أنّ هذه الفئران كانت تنمو وتتصرّف بشكل طبيعيّ في الظروف العاديّة، إلا أنّ نقلها إلى قفص أصغر كان كافيًا لتظهر عليها علامات القلق والضيق. على النقيض من ذلك، واصلت الفئران غير المعدّل سلوكها الطبيعيّ حتّى في الأقفاص الصغيرة. دفعت هذه النتائج الباحثين للاستنتاج بأنّ البروتين الناتج عن الجين المعطوب يلعب دورًا رئيسًا في تنظيم الاستجابات العاطفيّة للثدييات، وأنّ التلف في هذا الجين قد يؤدّي إلى تفعيل غير طبيعيّ لمشاعر الخوف.

يشير البحث الجينيّ الحديث إلى وجود رابط بين جين معيّن وبين الشعور بالخوف لدى البشر أيضًا ، خصوصًا في حالات الكلوستروفوبيا. عند دراسة ومقارنة تسلسل هذا الجين بين الأشخاص الّذين يعانون من الكلوستروفوبيا وأولئك الأصحّاء، تمّ رصد تغييرات متكرّرة في الجين بين المجموعة المصابة. هذا يعني أنّ اختلافات معيّنة في الجين قد تُسهم في تطوير هذه الفوبيا. ومع ذلك، لا تزال الآليّة الدقيقة الّتي يؤثّر بها الجين في ظهور الكلوستروفوبيا الشائعة غير معروفة بشكل كامل، ولم يتمّ التحقّق منها بعد في البحث العلميّ. من الجدير بالذكر أيضًا أنّ النسخة المرتبطة بالكلوستروفوبيا  من هذا الجين ليست موجودة لدى جميع المصابين بهذه الفوبيا، وهناك أشخاص لا يعانون من الكلوستروفوبيا على الرغم من حملهم لهذه النسخة. يشير ذلك إلى أنّ هناك عوامل أخرى تلعب دورًا في تطوير الكلوستروفوبيا إلى جانب الجينات.


من المرجّح أن تشكّل عوامل وراثيّة مصدر الخوف من الدخول الى المغر |  Shutterstock, Ginger Livingston Sanders

أكوافوبيا: الخوف من الماء

 أبلغ أطبّاء من الولايات المتّحدة عام 2021 أنّ رجلًا يبلغ من العمر 69 عامًا اشتكى من سعال مزعج وضيق نفس بعد حوالي عام من بدء تلقّيه العلاجات ضدّ سرطان الرئة. لكن ما كان ملفتًا هو التغيير الحادّ الّذي طرأ على علاقته بالماء. في الوقت نفسه، حدث تغيير حاد فيّ علاقته بالماء. أصبح كلّ نشاط يتعلّق بالماء، حتّى مجرّد النظر إلى كوب من الماء، يثقل كاهله ويثير لديه صعوبة في التنفّس، بل وحتّى التفكير في الانتحار. وصل الحال بالرجل إلى تجنّب الماء بشكل تامّ، ما تسبّب في تعرّضه للجفاف عدّة مرّات. نظرًا لحالته المرضيّة، اعتقد الأطبّاء في البداية أنّ هذه الأعراض قد تكون نتيجة لحالة اختناق أو سعال أثناء شرب الماء، ما أدّى إلى تطوّر فوبيا من الماء. إلّا أنّ حالته قد تحسّنت بعد أربعة أشهر من العلاج بأدوية مضادّة للقلق وتمارين التنفّس، فعاد للشرب، والاستحمام والقيام بجميع الأنشطة المتعلّقة بالماء.

بينما يمكن أن يؤثّر تجنّب الأماكن المرتفعة أو المزدحمة في جودة الحياة، تعتبر الفوبيا من الماء، أو الأكوافوبيا، تحدّيًا أكثر خطورة يمكن أن يهدّد حياة المصابين بها. في الحالات الشديدة، يتجنّب المصابون بالأكوافوبيا أنشطة أساسيّة مثل تنظيف الأسنان، غسل الوجه واليدين، الاستحمام، وحتّى أنّهم يمتنعون عن شرب الماء. هذا النقص في السوائل وتدهور النظافة الشخصيّة يمكن أن يؤدّي إلى مشكلات صحيّة خطيرة مثل العدوى والجفاف.

نظرًا لخطورتها، تتطلّب الفوبيا الشديدة من الماء علاجًا سريعًا وناجعًا. أحد الأساليب الفعّالة في العلاج هو تقنيّة التعرّض التدريجيّ، حيث يواجه المريض مخاوفه بشكل مدروس ومتدرّج. مثال شهير على التغلّب على الأكوافوبيا موجود في فيلم ستيفن سبيلبيرغ 'الفكّ المفترس' (بالإنجليزية: Jaws)‏. تعاني الشخصيّة الرئيسة في الفيلم من الأكوافوبيا بسبب حادثة غرق في الطفولة، تواجه مخاوفها وتنجح في نهاية الفيلم بالتغلّب على قرش قاتل أثناء غرق القارب. يعكس هذا السيناريو مبدأ التعرّض التدريجيّ في العلاج، حيث يتمّ التغلّب على الفوبيا من خلال مواجهة الخوف تدريجيًّا وبشكل موجّه.

في علاج الأكوافوبيا ليست هناك ضرورة ملحّة للّجوء إلى طرق التعرّض العدوانيّة. إذ يمكن البدء بخطوات أكثر لطفًا وتدرّجًا. فيمكن للمرضى مثلًا البدء بمشاهدة صور ومقاطع فيديو تعرض الماء، أو وضع أيديهم تحت الماء الجاري في الصنبور بشكل تدريجيّ. كما يشمل العلاج خيارات أخرى مثل الأدوية المضادّة للقلق وتقنيّات الاسترخاء كتمارين التنفّس والتأمّل.

لا ينبغي الخلط بين الأكوافوبيا وبين الحالة الصحيّة القاتلة المعروفة باسم هيدروفوبيا. فبالرغم من تجلّي الخوف والنفور العميق من الماء، في كلا الحالتين، إلّا أنّ الهيدروفوبيا ليست فوبيا مكتسَبة، بل خوف مرضيّ من الماء، وهي أحد الأعراض المتقدّمة لمرض الكَلَب الّذي يظهر لدى 50-80٪ من المصابين به. 


يساعد العلاج بالتعرّض المصابينأن يتعلّموا مواجهة الخوف بطريقة تدريجيّة | المصدر: ThirtyPlus, shutterstock 

يصيب فيروس الكلب الثدييات بما في ذلك الكلاب، الثعالب، وكذلك البشر، وهو يستهدف ويؤذي جذع الدماغ، منطقة في الجهاز العصبيّ مسؤولة عن وظائف حيويّة عدّة مثل الوعي، وتيرة ضربات القلب والتنفّس. أحد الأعراض الرئيسة لمرض الكلَب هو صعوبة البلع، حيث تؤدّي محاولة البلع إلى تقلّصات قويّة في عضلات التنفّس، ما يسبّب انسداد الحلق. نتيجة لذلك، يعاني العديد من مرضى الكَلَب من سيلان اللّعاب وظهور الرغوة من الفم بسبب عدم القدرة على بلع اللّعاب. كما يظهر لدى المرضى نفور شديد من الماء، وبمجرّد رؤية الماء أو التفكير به قد يثير مثل هذه التقلّصات.

داء الكلّب مرض قاتل ومستعصٍ  (غير قابل للعلاج) بمجرّد ظهور الأعراض، ويؤدّي إلى الوفاة في غضون أسبوعين تقريبًا. ومع ذلك، إنّ اللّقاح المضادّ للكلَب فعّال بنسبة 100٪ في حال تمّ تلقّيه قبل ظهور الأعراض. لهذا السبب، من الضروريّ إبلاغ السلطات الصحيّة والحصول على التطعيم فورًا في حال تعرّضك لعضّة أو للعاب حيوان غير معروف لا تعرف ما إذا كان قد تمّ تطعيمه ضدّ الكلَب. 

هل يمكن العيش بدون خوف؟

تُستخدم طرق العلاج الّتي تساعد في التعامل مع الأكوافوبيا، مثل تقنيّات الاسترخاء والتهدئة والأدوية المضادّة للقلق، في مواجهة أنواع أخرى من الفوبيا أيضًا. ومع ذلك، يواجه الكثير من الأشخاص المصابين بالفوبيا عقبة رئيسة- الخوف نفسه- حيث تحول بهم دون طلب العلاج او السعي لمساعدة طبيّة أو نفسيذة لمواجهة وتجاوز مخاوفهم.

كما سبق وذكرنا، يعتبر العلاج بالتعرّض أحد الأساليب الأكثر شيوعًا ونجاعةً  لمعالجة الفوبيا. يعتمد هذا النهج على تعرّض المرضى تدريجيًّا وبشكل منظّم لمصدر قلقهم، وذلك لإعادة تأهيلهم تدريجيًّا للتأقلم مع وجوده وتعلّم التعامل مع الخوف الّذي يشعرون به. ازداد في الآونة الأخيرة استخدام الواقع الافتراضيّ كأداة في العلاج بالتعرّض، حيث يمكن للمرضى مواجهة مخاوفهم في بيئة افتراضيّة آمنة دون الحاجة لمواجهة المُحفّز الحقيقيّ. وقد أظهرت بعض الدراسات أنّ دمج العلاج بالتعرّض مع الأدوية المهدّئة يمكن أن يعزّز من فعاليّة كلا النهجين، ما يؤدّي إلى نتائج أفضل.

هل الحياة بلا خوف أسهل؟ يقدّم مقال نُشر عام 2011 حالة فريدة لامرأة عاشت بلا خوف بسبب تلف في اللوزة الدماغيّة، والمسؤولة عن معالجة الاستجابات العاطفيّة. وكانت تبوء كلّ محاولة لإخافتها بالفشل، حتّى مواجهتها بثعابين وعناكب سامّة، أو اصطحابها في جولات في منازل مسكونة، أو عرض أفلام الرعب عليها. ومن باب الفضول حاولت المرأة  لمس الثعابين السامّة دون أدنى خوف، ولولا تدخّل الباحثين في الوقت المناسب، لكانت ربّما تعرّضت للدغة. لذا يبدو أنّه من الخطير العيش بدون خوف.

ينطبق المنطق التطوّريّ على العديد من أشكال الفوبيا،، فهي تدفعنا لتجنّب المخاطر. ومع ذلك، لا يزال الغموض يكتنف كيفيّة تحوّل الخوف الطبيعيّ والمعقول إلى اضطراب قلق يعيق الحياة اليوميّة. الطريقة الأكثر فعاليّة للتغلّب على الفوبيا هي مواجهتها  ضمن بيئة علاجيّة واكتساب القدرة على التحكّم في الاستجابات العاطفيّة الّتي تنشأ تلقائيًّا. يثبت هذا النهج نجاحه في تسعين بالمائة من الحالات.

0 تعليقات