أظهرت متابعة تاريخيّة لحالات الوفاة النّاجمة عن الجدري في لندن خلال 266 عامًا كيف أدّى التّطعيم إلى انخفاض في عدد الوفيات وتغيير في نمط المراضة

تعلّمنا جيّدًا في العام الأخير كم تنقصنا معرفة أساسيّة حول الأوبئة. لنفكّر ماذا لو نظرنا على مسيرة أحد الأوبئة الفتّاكة على مرّ القرون؟ هذا بالضّبط ما قام به باحثان من كندا، جمعا سجلّات تاريخيّة أسبوعيّة للوفيات في لندن من عام 1664 إلى عام 1930، وقاما بتحليل تفشّيات وباء الجدري على مدار 266 عامًا، على ضوء أحداث تاريخيّة مختلفة، تطوير التّطعيم والتّغييرات الّتي طرأت للحصول عليه.

وفقًا لمعطيات معيّنة استمرّ وباء الجدري ما لا يقلّ عن 2000 سنة، وبات فتّاكًا بشكل خاصّ منذ حوالي 500 سنة. أودى الجدري بحياة الملايين من النّاس على مدى عدّة أجيال، ويُعتبر أحد أكثر الأمراض المعدية الفتّاكة.

في نهاية القرن الثّامن عشر تمّ ابتكار أوّل تطعيم. بعد حوالي 200 سنة، في عام 1980، تمكّنوا من القضاء على الوباء نهائيًّا، بعد حملة تطعيم عالميّة. ومع ذلك، معرفتنا حول وتيرة تفشّيات الوباء على مرّ السّنين هي محدودة. استخرجت الدّراسات حول هذا الموضوع معلومات من سجلّات الدّفن الكنسيّة في إنجلترا ومن وثائق أسريّة، لتتبّع تفشّي الوباء، وأظهرت أنّ عدد حالات الوفاة وسط الرّضّع والأطفال كان مرتفعًا مقارنةً بالبالغين، وأنّه كان عددهم في المناطق الرّيفيّة في جنوب إنجلترا أقلّ؛ لأنّه كان من المعتاد عزل المرضى هناك. ومُنعت أيضًا التّجارة في الأسواق عند اندلاع المرض في هذه المناطق. هذه الدّراسات كانت محدودة لبضع عقود، 150 عامًا على الأكثر. اقتصرت البيانات على عدد الوفيات السّنويّة، دون متابعة كيفيّة انتشار المرض على مدار السّنة.

اكتشف مؤخّرًا ديفيد إيرن (Earn) وزميلته أولغا كريلوفا (Krylova) من جامعة ماكماستر (McMaster) في كندا مصدر معلومات غنيًّا ومفصّلًا حول انتشار المرض. قاموا بجمع سجلّات الوفاة الّتي وثّقتها الكنيسة الأنجليكانيّة في لندن على مدار أكثر من 250 عامًا، بين 1664 و 1930، الّتي تشمل توثيقًا أسبوعيًّا لعدد الوفيات وسبب الوفاة. توفّر هذه الوثائق معلومات غنيّة، خاصّة حول تفشّي الوباء في المدينة. نُشرت الدّراسة في المجلّة العلميّة PLOS Biology.

בעיגול אדום: מתים מאבעבועות שחורות | מקור: ויקיפדיה, נחלת הכלל
سِجلّ الكنيسة الأنجليكانيّة للوفيات في لندن عام 1665. في الدّائرة الحمراء: الوفيات النّاجمة عن الجدري | المصدر: ويكيبيديا، مشاع عام

اندلاع متكرّر للوباء

وجد الباحثون أنّه اندلع وباء الجدري في لندن كلّ سنة من جديد، ممّا يشير إلى أنّ انتشاره موسميّ. في نفس الوقت، لاحظوا أنّ الاندلاعات الكبيرة تحدث كلّ عامين تقريبًا، ممّا زاد من تعقيد فهم طبيعة انتشار الوباء. الاندلاعات الكبيرة جدًّا هي نادرة، وكانت تحدث على فترات متباعدة، بفارق عشرات السّنين.

اكتُشف أيضًا أنّه بعد عام 1840 تضاءلت حالات تفشّي الجدري وشدّته بشكل كبير، باستثناء الاندلاع الكبير عام 1871 الّذي انتشر خلاله المرض في جميع أنحاء أوروبا جرّاء الحرب الفرنسيّة البروسيّة. يبدو أنّ للانخفاض الّذي طرأ في منتصف القرن التّاسع عشر علاقة وثيقة بدخول قوانين حيّزة التنفيذ في عام 1840، الّتي أتاحت تلقّي التّطعيم المجّانيّ وفرضت وجوب تطعيم الأطفال.

تمّ تشديد قوانين تلقّي التّطعيم بعد تفشّي الوباء مجدّدًا عام 1871. قبل نهاية القرن التّاسع عشر، أُضيفت بعض التّحسينات على التّطعيم لرفع مستوى النّجاعة والأمان. نتيجة لذلك؛ توقّفت حالات الوفاة جرّاء الجدري في لندن بشكل كامل تقريبًا في أوائل القرن العشرين، ولم تحدث مجدّدًا حتّى خلال الحرب العالميّة الأولى.

רופא מחסן תינוק במאה ה-19 | מקור: JEAN-LOUP CHARMET / SCIENCE PHOTO LIBRARY
توقُّف الوفيات نهائيًّا بفضل التّطعيم. طبيب يطعّم طفلًا في القرن التّاسع عشر| المصدر: JEAN-LOUP CHARMET / SCIENCE PHOTO LIBRARY

على مرّ السّنين، تغيّر الطّابع الموسميّ للمرض. وجد الباحثون أنّ معظم الوفيات النّاجمة عن الجدري خلال القرن السّابع عشر وأوائل القرن الثّامن عشر، حدثت في أشهر الصّيف والخريف. أمّا  في منتصف القرن الثّامن عشر، باتت بُؤر تفشّي المرض في أشهر الشّتاء الأولى. يدّعي الباحثون بأنّ هذا التّغيير قد يعود للتّغييرات الّتي طرأت على طريقة الحياة في لندن والتّركيب السّكّانيّ تحت تأثير الثّورة الصّناعيّة.

بالإضافة إلى ذلك، في أوائل القرن الثّامن عشر شرعوا بعلاج المرضى بواسطة "نقل البثور" قبل تطوير التّطعيمات. في هذه العلاجات، كان ينقل السّائل المتكوّن في بثور (حويصلات) مرضى الجدري ويُدهن على شقوق صغيرة في جلد الأطفال. يمرض متلقّي السّائل عادة بالجدري بصورة خفيفة ويطوّر مناعة ضدّه. يعتقد الباحثون بأنّ هذا الإجراء هو الّذي أدّى إلى تغيير في طابع انتشار الوباء، وشكّل حتّى ضغطًا تطوّريًّا على الفيروس الّذي جعله أكثر معديًا أو فتّاكًا للأطفال وأقلّ للبالغين، كما يعتقد باحثون آخرون. ومع ذلك، فإنّ هذه النّظريّات تتطلّب المزيد من الأبحاث التّاريخيّة والجزيئيّة لعيّنات قديمة للفيروس.

لم تقلّل علاجات "نقل البثور" أو تطوير التّطعيم بشكل ملحوظ من وتيرة اندلاع الجدري إلى أن دخلت قوانين التّطعيم حيّز التّنفيذ في أوائل القرن التّاسع عشر، عندما توفّر التّطعيم ولكن لم يتمّ بعد سنّ قوانين لتنظيم استخدامه، شهد الباحثون انخفاضًا في عدد الوفيات في حالات تفشّي المرض، ولكن ارتفعت أيضًا وتيرة الاندلاعات. طرأ انخفاض ملحوظ خلال هذه الفترة في مستوى دقّة سجلّات الوفيات في الكنيسة، إلى أن بدأ تسجيل الوفيات الملكي عام 1840. لذلك لا يمكن للباحثين التّحديد بالضبط ما إذا كان الانخفاض في عدد الوفيات في أوائل القرن التّاسع عشر ناتجًا عن بداية استخدام التطعيم أم عن توثيق غير دقيق لحالات الوفاة.

يوفّر البحث الحاليّ أساسًا متينًا للباحثين؛ بإمكانهم استخدام البيانات في المستقبل لفحص كيفيّة تأثير التّغييرات الدّيموغرافيّة، الاجتماعيّة، السّياسيّة، البيئيّة والمناخيّة وغيرها على انتشار الوباء في لندن، ووصلها مع بيانات جُمعت من أماكن أخرى في إنجلترا وأوروبا. قد ينفعنا فهم طريقة انتشار وباء الجدري في إيجاد طرق لإبطاء أو منع تفشّي أوبئة أخرى في المستقبل.

 

0 تعليقات