لم يعد خيالًا علميًّا بعد الآن - علماء يدّعون أنّهم نجحوا في إنشاء آلات بيولوجيّة من خلايا بشريّة

"رحلة مذهلة" (1966) هو عنوان فيلم أمريكيّ، عن طاقمٍ من الأطباء يتمّ تصغير أجسادهم إلى أحجام بالغة الصغر، ومن ثمّ يتمّ حقنهم في جسد عالمٍ من أجل إنقاذ حياته من جلطة دمويّة. إنّ الروبوتات المجهريّة التي ستجوب أجسادنا، مُصلحةً الأضرار فيه، هي إحدى الوعود المبتكرة لعلوم الحياة والطبّ. الأمل هو أن تتمكّن مثل هذه الروبوتات، على سبيل المثال، من نقل الأدوية المحاربة للسرطان مباشرة إلى الخلايا السرطانيّة، وإزالة الدهون المترسّبة في الأوعية الدمويّة والمسبّبة لتضييقها وانسدادها، أو المساهمة في الطبّ التجديديّ.

مؤخّرًا، هندَسَ علماءٌ آلات بيولوجيّة مجهريّة، من خلايا بشريّة، على شكلٍ كرويّ أو بيضاويّ بإمكانها التحرّك. أطلق العلماء على هذه الآلات اسم "أنثروروبوتس" - وهو مزيج بين الكلمة اليونانيّة "أنثروبوس" التي تعني إنسانًا، وكلمة "روبوت"، آلة مصمَّمة هندسيًّا لتنفيذ الأوامر.

ليست هذه هي المرّة الأولى التي ينجح فيها علماءٌ في هندسة روبوتات حيويّة، وهي روبوتات بيولوجيّة مصنوعة من خلايا كائنات حيّة. مجموعة من الباحثين قامت في السابق بإنشاء روبوتات حيويّة من خلايا جذعيّة جنينيّة للضّفدع الإفريقيّ (Xenopus laevis). أطلقوا على هذه الروبوتات اسم xenobots زينوبوتس، نسبة إلى اسم الضفدع، وهي أوّل روبوتات حيويّة تمّ إنشاؤها من خلايا فقط، وليس من خلال دمج خلايا مع مواد صناعيّة. وَلإنشائها، استخدم العلماء برنامج ذكاء اصطناعيذ تكهّن بالهياكل المحتملة لتركيبة الخلايا، وبمساعدته تمكّنوا من هندسة روبوتات زينوبوتس يمكنها التّحرك بأشكال مختلفة. تحرّكت الزينوبوتس بحرّيّة في طبق بتري في المختبر، واكتُشف بشكل مفاجِئ أنّها قادرة على التكاثر، وإنشاء ذريّة (مجموعة أكبر من الخلايا) تواصل عمليّة التكاثر.


الخلايا في الطبق تنظّمت بثلاثة أشكال من أشكال الأنثروروبوتس بقطر من 30 حتى 500 ميكرون. إنثروروبوت يبلغ من العمر سبعة أيّام مغطّى بالأهداب | Gizem Gumuskaya et al

الشعيرات التي تحرّك الجسم

تساءل العلماء عمّا إذا كانت قدرات الزينوبوتس نابعة من خصائص خاصة بالخلايا الجذعيّة للبرمائيّات، أو أنه بالإمكان إنشاء روبوتات حيويّة من أنواع أخرى من الخلايا أيضًا، على سبيل المثال من خلايا لثدييات، أو حتى من خلايا لِإنسان. في البحث الموجود حاليًّا، أثبت العلماء أنّ خلايا من الجهاز التنفسيّ لشخص بالغ، قادرةٌ أيضًا على تبنّي أشكال جديدة وقدرات حركة مماثلة في المختبر، بفضل الأهداب التي لديها (Cilia) – الأهداب هي العضّيّات المجهريّة، شبيهة الشعيرات، موجودة على سطح الخلايا الظهاريّة، تلك التي تبطّن أعضاء الجهاز التنفسيّ.

استخدم العلماء الذين صمّموا الزينوبوتس الأهدابَ من أجل منحها القدرة على الحركة. الأهداب موجودة في خلايا معظم الكائنات الحيّة التي تحتوي على نواة خليّة (حقيقيّات النوى)، لذلك يمكن العثور عليها في الضفادع وكذلك لدى الإنسان. في جهازنا التنفسيّ، تقوم الأهداب بإزالة المادة المخاطيّة والبكتيريا والفيروسات والعوامل الغريبة الأخرى أثناء حركتها، وتمنعها من الوصول إلى الرئتين.

بدأ كلّ أنثروروبوت حياته كخليّة وحيدة، وُضع داخل مادّة هلاميّة تحاكي البيئة الخارج-خلوية للجهاز التنفسيّ في الجسم. عندما أُنشِئ، كانت أهدابه تتّجه نحو الجزء الداخليّ للتجويف، وهو الحيز الدّاخليّ للجهاز التنفسيّ. نمت الخلية وتكاثرت، وبعد أسبوعين تمّ نقل الخلايا إلى بيئة أقلّ لزوجة لمدة أسبوع آخر، من أجل الحصول على الشكل المطلوب للأنثروروبوت، وفيه تتّجه الأهداب نحو الجزء الخارج-خلويّ، المقابل للتجويف، والذي في هذه الحال هو الهلام في طبق المختبر. تنظّمت الخلايا المزروعة في الطبق بثلاثة أشكال من الأنثروروبوتس، قطرها تراوح بين 30 إلى 500 ميكرون (الميكرون هو جزء من مليون من المتر) وعاشت ما بين 45-60 يومًا.

فيديو يظهر أنثروروبوتس أثناء الحركة:

خطوة صغيرة للأنثروروبوت، كبيرة للإنسانية

إن توسعة القدرات العلميّة من خلال إنشاء أشكال جديدة من خلايا مصدرها جسم الإنسان، ما هي سوى هدف واحد في أبحاث الأنثروروبوتس. المرجوّ هو استخدام مثل هذه الأبحاث لتحقيق فائدة طبّيّة. لذا، فبعد انتهاء المرحلة الأولى من إنشاء الأنثروروبوتس بنجاح، وضع العلماء أمام الروبوتات البيولوجيّة الجديدة سلسلة من الاختبارات لفحص القدرات.

الاختبار الأوّل كان اختبار حركة. كما توقّع العلماء، فعندما تحرّكت الأهداب التي تغطّي الطبقة الخارجيّة للأنثروروبوتس في السائل الخارج-خلويّ، عملت كمجاديف، وسبحت الأنثروروبوتس في طبق المختبر بخطوط مستقيمة أو بدوائر. لكنّ واحدًا من الأشكال الثلاثة للأنثروروبوتس لم يتحرّك على الإطلاق، أو أنّه قد تحرّك بشكل بسيط للغاية.

في الاختبار الثاني، قام العلماء بتحليل العلاقة بين التماثل في الأنثروروبوتس التي تمكّنت من التحرك، وطريقة حركتها. ارتبط هذا التماثل بموقع الأهداب وتوزيعها على سطح الأنثروروبوتس. وجد العلماء أنّ الأنثروروبوتس ذات التماثل ثنائيّ الجانب تتحرّك في خطّ مستقيم، بينما تميل الأنثروروبوتس التي لا يوجد فيها تماثل واضح إلى التحرّك في دوائر.

لمعرفة ما إذا كان بإمكان الأنثروروبوتس التحرّك في بيئة خارج-خلويّة، مختلفة عن تلك التي لخلايا الجهاز التنفسيّ، مثل التي قام العلماء بتربية الأنثروروبوتس فيها، أجروا اختبارَ حركةٍ آخر للأنثروروبوتس - وهذه المرّة في طبق الزرع لخلايا أعصاب. قاموا باستخدام اختبار الخدش، الذي يتمّ من خلاله تحديد خصائص أساسيّة لحركة الخلايا: أحدَثوا خدشًا في النسيج، وسمحوا للأنثروروبوتس بالتّحرك بحُرّيّة، ورأوا أنّها كانت قادرة على التحرّك فوق طبق الزرع للخلايا العصبيّة على الرغم من الخدش فيها، وخاصّة الأنثروروبوتس التي تتحرّك في دوائر.

الأمل هو أن نتمكّن في المستقبل من استخدام الروبوتات الحيويّة في هندسة أو تجديد الأنسجة. الاختبار الرابع والمثير للاهتمام أكثر من باقي الاختبارات، لم يفحص ما إذا كان بإمكان الأنثروروبوتس التحرّك في طبق خلايا متضرّرة فحسب (اختبار الخدش)، بل وفحص ما إذا كان بالإمكان إصلاحها أيضًا. جمع العلماء العديد من الأنثروروبوتس في طبق مختبر محدود المساحة بالقرب من بعضها البعض. في غضون 72 ساعة، قامت الأنثروروبوتس المتجمعة - الروبوتات الخارقة كما سمّاها العلماء – بعمل جسر على التمزّقات في الأنسجة، على غرار النمل حين يُنشِيء جسورًا في الطبيعة، لكي يعبّر فوق هاوية معيّنة. زادت تلك الجسور من تجديد الخلايا الموجودة أسفلها، لكن لا يزال من غير الواضح كيف حدث ذلك، وما هي مساهمة الأنثروروبوتس في ذلك.

 

فيديو يوضّح حركة الأنثروروبوتس على ظهر الخدش:

روبوتات أم كائنات حيّة؟

إنّ التطوّرات التكنولوجيّة والعلميّة الحاصلة في العقود الأخيرة، تتيح للعلماء إنتاج آلات بالغة الصّغر وروبوتات قادرة على التّحرك داخل الجسم بشكل حرّ، أو بمساعدة وسائل خارجيّة مثل التصوير بالرنين المغناطيسيّ. حجم هذه الروبوتات يتراوح بين بضعة ميكرونات وحتّى عدّة مليمترات. تتكوّن من معادن أو من مواد صناعيّة أو من مواد بيولوجيّة مثل الروبوتات الحيويّة – أو من مزيج بينهما. هندسة هذه الآلات، وخصوصًا هندسة الروبوتات الحيويّة، هي بمثابة تحدٍّ لتعريف الحياة. ما الذي يميّز الروبوتات الحيويّة عن الروبوتات العاديّة؟

بعض الأبحاث سبقت هندسة الأنثروروبوتس: الأبحاث على الزينوبوتس، والتي هي أوّل روبوتات تمّت هندستها من خلايا كائنات حيّة. الأبحاث الأخرى التي مهّدت الطريق تمّ إجراؤها على الأمراض المعدية في الجهاز التّنفسي. ساهم في الاكتشاف بشكل خاصّ بحثٌ تناول مرض التليّف الكيسيّ - وهو مرضٌ وراثي يتسبّب في تراكم المادّة المخاطيّة في الشعب الهوائيّة، ممّا يؤدّي إلى انسدادها. كان البروتوكول التجريبي لهذا البحث هو الأساس في عملية هندسة الأنثروروبوتس في المختبر، لكن هذا البحث لم يفحص الحركة الذاتيّة للهياكل. أحد العلماء، ويُدعى والتر فينكباينر، أوضح في مقابلة مع مجلة ساينتفيك أمريكان أنّ "هدفهم كان تطويرًا عُضَيًّا عُضْويّ Organoid، وهو جهاز خلايا ثلاثيّ-الأبعاد، يحاكي في هذه الحالة تحديدًا، وظيفة الجهاز التنفسيّ، من أجل اختبار علاجات محتملة لمرض التليّف الكيسيّ".

هل يمكن تسمية الأنثروروبوتس بـ "الروبوتات البيولوجيّة"؟ هل تختلف اختلافًا جوهريًّا عن العضو العضويّ (Organoid) هذا؟ أراد منشئو الأنثروروبوتس بحث قدرة خلايا جسم البالغين على تنظيم نفسها في أشكال جديدة. إذا كان بالإمكان إنشاء هياكل جديدة من خلايا بالغة ذات شكل معرّف، فيمكن إذًا استخدام هذه المعرفة في هندسة أنسجة وأعضاء. أراد كذلك منشئو الأنثروروبوتس أن يروا كيف تتحرّك الروبوتات الحيويّة، وذلك من أجل إنشاء روبوتات حيويّة في المستقبل، يتمّ استخدامها في الطبّ، ولكن لا يزال من غير المعروف ما إذا كانت الخلايا ستكون قادرة على تنظيم نفسها، والتحرّك بشكل مستقلّ نحو وجهة مطلوبة وأداء مهمّة حيويّة – أم أنّها تتحرّك بناءً على خصائصها وحركة الأهداب في السائل فحسب.

عندما نُشرت الأبحاث الأولى عن الزينوبوتس، أثيرت انتقادات عامّة حول الآثار الأخلاقيّة المترتّبة عن إنشاء آلات حيّة. قارن البعض ابتكار الزينوبوتس بوحش فرانكشتاين، ورأوا أنّه من الخطأ "لعب دور الرب". هل نتحدّث هنا عن كائن حيّ من نوع جديد؟ أم أنّ الأنثروروبوتس ستتجلّى في النهاية كآلة روبوتيّة مثل كلّ الآلات؟ يبدو أنّه لا يزال مبكرًا الإجابة على ذلك.

فيديو عن تصميم وبناء الزينوبوتس في نفس المعمل (20 دقيقة)

 

0 تعليقات