بحث جديد يشير إلى أنّ أجدادنا استخدموا الحواجب كوسيلة للتّواصل، ولكن الرّسائل الّتي تُنقَل عبرها تغيّرت مع الوقت

هناك عدّة أسباب يمكن أن تدفع العلماء لدراسة مسألة معيّنة والتّعمّق فيها. وبالنسبة لعالم الآثار النيويوركيّ بول أوهيغينز (O’Higgins)، كان السبب الوقت الطويل الذي تقضيه بناته أمام المرآة في الحمام لترتيب حواجبهنّ.  قالت بيني سبيكينز (Spikins)، الّتي تعمل مع أوهيغينز، لصحيفة نيويورك تايمز: "كان أوهيغينز يتساءل: لمَ هناك حواجب أصلا؟ فبدأنا نفكّر أنّها قد تكون ذات أهميّة كبيرة". بعد مسح جمجمة إنسان قديم، استنتج الباحثون أنّ هناك سببًا للاهتمام بالحاجبَين، إذ إنّ لهما دورا مهمّا في نقل الرّسائل الاجتماعيّة، والتّغييرات الّتي شهدناها خلال التّطور تعكس ذلك.

كان لدى العديد من أسلافنا حواجب مثيرة للإعجاب، أدّت إلى إبراز الحاجبين بعيدًا فوق العينين، وإلى تكوين  جبين مائل ليس موجودًا لدى البشر اليوم. الجبين العالي والأملس هو جديد نسبيًّا. فقد وُجدت في زامبيا أحفورة إنسان قديم من نوع Homo heidelbergensis، قُدّر أن تاريخها يعود إلى ما قبل 300 ألف سنة على الأكثر، ولا يزال لديها حاجبان بارزان وجبين مختلف تمامًا عمّا نراه اليوم في المرآة.

لماذا تغيّرت هذه المنطقة من وجهنا تحديدًا إلى هذا الحد؟ تستند التّفسيرات التي اقتُرحت في الماضي إلى  الاحتياجات العمليّة للجسم، مثل الحاجة إلى عضلات مضغ قويّة. تحتاج العضلات القويّة والكبيرة إلى الارتباط بعظام قويّة، وكان الادّعاء أنّ الهدف من وجود الحاجبين هو تمكين هذه العضلات من التّطوّر - العضلات الّتي كُنّا نحتاج إليها قبل أن نعرف كيفيّة معالجة طعامنا وطهوه.

المشكلة في هذه الادّعاءات أنّه يصعب كثيرا التحقق منها. فقد انقرض الإنسان القديم منذ عشرات الآلاف أو مئات الآلاف من السّنين، ولا يمكن قياس قوّة عضلاته وفحص تأثيرها على العظام. لذلك، توجّه أوهيغينز (O'Higgins)، سبيكينز (Spikins)، وزميلهما ريكاردو ميغيل غودينيو (Godinho) في بحثهم الجديد إلى الواقع الافتراضيّ.

فبعد فحص جمجمة إنسان هايدلبيرغ (Homo Heidelbergensis) من تنزانيا وصنع نموذج ثلاثيّ الأبعاد محوسب لها، أجرى الباحثون تغييرات على النموذج وأنشأوا نماذج أخرى، مع حواجب أصغر. وعندما فحصوا كيف تؤثّر التّغييرات المحوسبة على أداء عمل عضلات الفكّين في النّماذج المختلفة، وجدوا أنّ تصغير الحاجبين لم يؤثّر إطلاقا على قوّة المضغ وطريقته. وهكذا استنتج الباحثون أنّ الإنسان القديم لم يحتَج إلى الحواجب للمضغ أو لأيّ سبب جسديّ آخر. فقد كان في وسعه تدبّر أمره دونها.

ماذا كان دور هذه الحواجب إذًا، ولماذا اختفت خلال عمليّة التّطوّر؟

מודל ממוחשב לא מצא קשר בין רכסי הגבות לחוזק הלעיסה. גולגולת של Homo heidelbergensis | צילום: ויקיפדיה, Dorieo
نموذج محوسب لم يجد أيّة علاقة بين الحاجبين وقوّة المضغ. جمجمة Homo heidelbergensis | الصّورة من ويكيبيديا، Dorieo
 

رسائل معقّدة

للإجابة عن هذَين السؤالَين، ترك الباحثون أسلافنا، وانتقلوا لبحث أقرباء أبعد ولكنّهم لا يزالون على قيد الحياة -  قرود الميمون (Mandrillus sphinx). لدى ذكور هذه القرود نتوءات عظميّة في الوجه، على امتداد الأنف، لكنّها لا تستفيد من النّتوءات لأيّ غرض عمليّ. بدلاً من ذلك، النّتوءات مغطّاة بجلد ملوّن، وهي تُستخدم للتّواصل: لمغازلة الإناث والتّلميح لباقي الذّكور بوجود ذكر قوي، من غير المحبّذ إزعاجه. يرتبط حجم هذه العظام بالهرمونات الذّكريّة. فيبدو أنّ النّتوءات العظميّة تكون أكبرعند الذّكور الّتي لديها مستوى هرمون التّستوستيرون أعلى.

عند الإنسان أيضًا، تظهر الحواجب عند الذّكور أكثر من الإناث، ويبدو أنّها تتعلّق بالهرمونات أيضًا. يقول الباحثون أنّه يُحتمَل كثيرا أن تكون الحواجب الكبيرة في الماضي قد استُخدمت لنقل الرّسائل بطريقة مشابهة لما تفعله قرود الميمون حتّى يومنا هذا.

أتاح التّغيير الّذي حدث في شكل جماجمنا إرسال رسائل أكثر تعقيدًا مع الوقت - وأكثر وديّة أيضا. فبفضل الجبين الواسع والأملس لدى الإنسان الحديث، يمكننا تحريك الحواجب بعدّة أشكال. وبينما تُطلق الحواجب البارزة رسائل مثل: "أنا قويّ، أنا ذكر، لديّ الكثير من التّستوستيرون"، غالبًا ما تكون رسائلنا مختلفة تمامًا.

تقول سبيكينز: "بفضل الجبين المسطّح والعموديّ أكثر، أصبحت الحركة في المنطقة الّتي فوق العينين أسهل بكثير، ما يتيح للعضلات أن تُطلق إيماءات تواصليّة مركّبة للغاية". هذه الإيماءات، مثل رفع الحاجبين عندما نرى شخصًا مألوفًا يقترب، "تعبّر عن الودّ عادةً أكثر من  التّهديد".

يزعم الباحثون أنّه عندما بدأ البشر بالتّعاون أكثر معًا، وبإنشاء علاقات مركّبة أكثر، أصبحت القدرة على نقل رسائل كهذه واستقبالها  أكثر أهمية من القدرة على بثّ إشارات مخيفة. لذلك استُبدلت سلاسل الحواجب بجبين عالٍ ومستوٍ.

من الصّعب أن نحدّد ما إذا كانت الحاجة لتواصل مركّب واجتماعيّ هي الّتي دفعت تطوّر الحاجبين والجبين، أم أنّ هناك عاملا آخر لم نفكّر فيه بعد. ففي النهاية، لا يمكننا أن نرى التّواصل باستخدام تحريك الحاجبين في الأحافير. وكلّ ما يمكن للباحثين القيام به هو البحث ونفي الاحتمالات. لكن لا شكّ أنّ حواجبنا اليوم تساعدنا على التّعبير عن أنفسنا. لذلك، ليس من المفاجئ أن يهتمّ بعضنا كثيرًا بشكل حاجبيه.

 

 

الترجمة للعربيّة: د. ريتا جبران
التدقيق اللغوي: أ. موسى جبران
الإشراف العلمي والتحرير: رقيّة صبّاح أبو دعابس

 

 

0 تعليقات