يعلم الجميع أنَّ نمط الحياة النّشط يسهم في تحسين الصّحّة، ولكن اتّضح أنّه من المهمّ بشكل خاصّ أنّ يتجلّى أيضًا في تحسّن حقيقيّ في اللّياقة البدنيّة.

توصي منظّمة الصّحّة العالميّة الجميع، بغضّ النّظر عن حالتهم الصّحّيّة، بممارسة الرّياضة قدر الإمكان. وتستند هذه التّوصية إلى العديد من الدّراسات اّلتي تُشير الى أنّ نمط الحياة النّشط يرتبط بانخفاض معدّل الوفيات. ظهر هذا التحسّن حتّى في المجموعات السّكّانيّة المعرّفة أنّها ذات درجة خطورة مرتفعة.

تظهر صورة مشابهة في الدّراسات الّتي تعتمد على استبيانات التّقرير الذّاتيّ من قبل المشاركين، وفي الدّراسات الّتي فحصت مستوى النّشاط بأدوات موضوعيّة، مثل مقاييس التّسارع وتطبيقات عدّ الخطوات. تظهر دراسات المتابعة طويلة المدى أنّه حتّى بعد مرور 15 عامًا، ينخفض ​​معدّل الوفيات عندما يصبح الأشخاص أكثر نشاطًا، حتّى عند التّدقيق فقط على الدّراسات الّتي تستخدم مقاييس التّسارع.

ومع ذلك، فإنَّ النّشاط البدنيّ ليس بالضّرورة لياقة بدنيّة. على الرّغم من أنَّ العلاقة بينهما واضحة في كثير من الأحيان، إلّا أنّه ليس كلّ نشاط بدنيّ  ينعكس بالضّرورة في اللّياقة البدنيّة العالية. تظهر الفجوة بين الاثنين بشكل خاصّ لدى الأشخاص الّذين يمارسون مهنًا بدنيّة شاقّة لا تتضمّن تدريبًا منهجيًّا. وبما أنَّ معظم الدّراسات الرّصديّة تدرس مستوى النّشاط فقط، فإنّها لا تستطيع تحديد ما إذا كانت المساهمة في الصّحّة ترجع إلى النّشاط البدنيّ نفسه أو الى التّحسّن في مستوى اللّياقة البدنيّة الّذي قد يصاحبه.


تظهر الكثير من الأبحاث أنَّ نمط الحياة النشط يرتبط بانخفاض معدّل الوفيات.  أشخاص يركبون دراجات التمرين | Shutterstock, Kzenon

التّحمّل القلبي - الرّئويّ

يعبّر مصطلح اللّياقة البدنيّة  إلى حدّ كبير عن قدرة الجسم على مواجهة حالات الشّدّة (الضّغط النّفسيّ)، بدءًا من مستوى الخليّة الفرديّة حتّى الأعضاء أكملها. قدرة كهذه قد تفسّر انخفاض خطر الإصابة بالأمراض الّتي تهدّد الحياة. أحد مكوّنات اللّياقة البدنيّة الأكثر ارتباطًا بالصّحّة هو التّحمّل القلبيّ - الرّئويّ، أي قدرة الرّئتين والقلب على توصيل أكبر قدر ممكن من الأكسجين إلى العضلات الهيكليّة لإنتاج الطّاقة اللّازمة للنّشاط البدنيّ الشّاقّ.

إحدى طرق قياس مستوى اللّياقة البدنيّة المتغيّرة هي مقارنة استهلاك الشّخص الأكسجين أثناء أنشطة معيّنة. يسمّى المؤشّر MET وهو اختصار لـِ "المهامّ الأيضيّة المكافئة" (Metabolic Equivalent Tasks) ومستواه الأساسيّ (1) وهو يمثّل الطّاقة المبذولة في وضعيّة الرّاحة. في هذه الحالة، يستهلك الإنسان متوسّط 3.5 مل من الأكسجين في الدّقيقة لكلّ كيلوغرام من الجسم، لذلك من المتوقّع أن يستهلك شخص  يزن 70 كجم  245 مل من الأكسجين في الدّقيقة أثناء الرّاحة.

لاختبار الّلياقة البدنيّة للشّخص، يتمّ قياس الحدّ الأقصى لاستهلاكه الأكسجين أثناء المجهود. إذا كان هناك تغيّر في النّتيجة بين اختبار وآخر يمكن استنتاج أنَّ اللّياقة البدنيّة قد تغيّرت. على سبيل المثال، إذا كان الشّخص قادرًا على إنجاز تسعة MET كحدّ أقصى في ذروة الجهد في بداية الدّراسة، وبعد فترة يزيد إلى عشرة، فهذه علامة على تحسّن لياقته البدنيّة. وإذا انخفضت إلى 8، فهذا يعني أنّ لياقته البدنيّة قد انخفضت في الفترة بين الاختبارين.

لخّصت مراجعة المقالات المنشورة في عام 2022 نتائج 37 دراسة متابعة طويلة الأمد، مع أكثر من 2.2 مليون مشترك في المجموع، والّتي أخذت قياسات معتمدة - موضوعيّة  للّياقة البدنيّة. يظهر معدّل البيانات أنّ الأشخاص اّلذين يتمتّعون بأعلى مستويات اللّياقة البدنيّة يكونون أقلّ عرضة بنسبة 50% لخطر الوفيات النّاجمة عن أيّ سبب من الأسباب. على الرّغم من أنَّ هذه فجوة جديرة بالملاحظة، إلّا أنَّ الدّراسات الّتي تمّت مراجعتها لم تدرس التّغيّر مع مرور الوقت في اللّياقة البدنيّة للمشاركين، إنّما مستوى لياقتهم البدنيّة وقت الاختبار فقط. لذلك من الممكن أن تكون العلاقة السّببيّة هنا معاكسة: فمن الأسهل على الأشخاص الأصحّاء الاستمرار في النّشاط البدنيّ وتحسين لياقتهم البدنيّة.


لاختبار اللّياقة البدنيّة للشّخص، يتمّ قياس الحدّ الأقصى لاستهلاكه الأكسجين أثناء المجهود. اِمرأة تركب درّاجة خلال اختبار المجهود | BSIP, Laurent / B. Hop Ame / Science Photo Library

مؤشّر المحاربين القدامى

حاولت دراسة نشرت العام الماضي الإجابة عن ذلك. فحص الباحثون التّغيّر في اللّياقة البدنيّة لأكثر من 93 ألفًا من قدامى المحاربين من الولايات المتّحدة، ضمن فئة عمريّة واسعة، وبعضهم يعاني من أمراض القلب والأوعية الدّمويّة. خضع جميع الأشخاص الّذين تمّ اختيارهم للدّراسة لاختبارَيْ الجهد بفارق عام على الأقلّ بينهما. وفقًا للفروق بين الاختبارات، تمّ تصنيفهم إلى ثلاث مجموعات: مجموعة تحسّنت لياقتها البدنيّة، مجموعة انخفضت لياقتها البدنيّة، ومجموعة اللّياقة البدنيّة المستقرّة.

على غرار الدّراسات السّابقة، وُجد أنَّ مستوى اللّياقة البدنيّة يرتبط ارتباطًا وثيقًا بانخفاض خطر الوفاة - لدى أولئك الّذين يتمتّعون بلياقة بدنيّة عالية، حتّى لو كانوا يعانون من أمراض القلب والأوعية الدّمويّة، وكان أقلّ بنسبة 60 في المائة مقارنة بمجموعة اللّياقة البدنيّة المنخفضة. إضافة الى ذلك، كان التّغيّر في اللّياقة البدنيّة بارزًا أيضًا. في جميع الفئات العمريّة، أدّى انخفاض اللّياقة البدنيّة بمقدار اثنين أو أكثر في METs إلى زيادة خطر الوفاة بنسبة تصل إلى سبعة في المائة. ومع ذلك، في مجموعة اللّياقة البدنيّة العالية، بدأ الخطر في الزّيادة فقط بعد حدوث انخفاض كبير في اللّياقة البدنيّة بالفعل. ظلّت النّتائج صالحة حتّى عندما أُخذت بيانات إضافيّة في الاعتبار مثل الأمراض الأساسيّة، واستخدام الأدوية، وغيرها.

وعلى الرّغم من التّجديد، فإنَّ هذه الدّراسة لديها أيضًا نواقص كبيرة. أوّلًا وقبل كل شيء، تفتقر إلى تفسير أسباب تراجع اللّياقة البدنيّة. من الممكن جدًّا أن يكون الانخفاض في اللّياقة البدنيّة لدى بعض الأشخاص بسبب المرض، وليس العكس. كما أنّه ليس من الواضح أيضًا سبب إحالة الأشخاص إلى اختبارات الجهد من الأساس، لذلك من المستحيل معرفة ما إذا كانوا يمثّلون بالفعل باقي الجمهور. يرجع استخدام البيانات المتعلّقة بالمحاربين القدامى العسكريّين إلى وجود معلومات غنيّة عن حالتهم الصّحّيّة، ولكنّه ينطوي أيضًا على تحيّزات: على سبيل المثال، نسبة النّساء بينهم منخفضة جدًّا - خمسة في المائة فقط، وهناك تمثيل زائد لبعض الفئات الاجتماعية - الاقتصادية، وتختلف معدّلات الوفيات المرتبطة بالعمر بين الجنود مقارنة بعامّة السّكّان.

على الرّغم من ذلك، تظهر نتائج الأبحاث أنّه من المهمّ تحسين اللّياقة البدنيّة حتّى بما يتجاوز "تعليمات النّشاط". ووجدت الدّراسة أنَّ 46 في المئة من المشاركين انخفضت لياقتهم البدنيّة في الفترة ما بين الاختبارين، ومن هذا يظهر أنّ احتمال وفاتهم زاد أيضًا خلال هذه الفترة. ربّما يكون من الأفضل عدم الاكتفاء بإعطاء تعليمات للجمهور بزيادة النّشاط البدنيّ، بل التّركيز على التّمارين المخصّصة لتحسين اللّياقة البدنيّة. بالإضافة إلى ذلك، في الوقت نفسه، قد يكون من المفضّل البدء في الّتفكير في اتّجاه بحثيّ جديد، والّذي سيركّزعلى آثار التّغيّرات في اللّياقة البدنيّة على الصّحّة.

 

0 تعليقات