لقراءة المقال

خثار وريديّ في رحلات الفضاء

اكتُشِفت مؤخرًا ظاهرة جديدة عند أحد روّاد الفضاء في المحطّة الفضائيّة: خثار وريديّ عميق قد يوقف تدفّق الدّم

البقاء المطوّل تحت ظروف انعدام الجاذبيّة يؤثّر على صحّة روّاد الفضاء، وقد يكون، أحيانًا، خطيرًا. نشرت مجلّة New England Journal of Medicine مؤخّرًا  دراسة حالة (case study) لظاهرة جديدة مثيرة للقلق لدى أحد روّاد الفضاء في المحطّة الفضائيّة الدّوليّة، وهي الخثار الوريديّ العميق، أي جلطة دمويّة في الوريد الرّقبيّ الّذي يعيد الدّم من الرّأس والوجه إلى القلب .

أثيرت الشّكوك لوجود هذه الظّاهرة عن طريق فحص بواسطة الموجات فوق الصّوتيّة للرّقبة الّذي أجراه رائد الفضاء كجزء من دراسة تهدف إلى فحص إعادة توزيع سوائل الجسم تحت ظروف انعدام الجاذبيّة. لم يبلّغ رائد الفضاء عن الإحساس بأيّ صداع أو تفاقم في احتقان السّوائل في الوجه، الأمر الّذي يميّز ظروف انعدام الجاذبيّة، ولم يكن لديه، أيضًا،  أيّة خلفيّة عائليّة أو شخصيّة للخثار. أكّد فحص آخر أجراه رائد الفضاء في اليوم التّالي بواسطة الموجات فوق الصّوتيّة، بإرشاد اثنين من أطبّاء الأشعّة – المختصّين في التّصوير - الّذين كانوا على الأرض وحلّلوا نتائج الفحص، وجود خثار وريديّ.

لمعالجة المشكلة، توجّهت وكالة الفضاء للطّبيب ستيفان مول (Moll)، خبير في الجلطات الدّمويّة من جامعة نورث كارولينا. بسبب الخوف من انجراف الجلطة الدّمويّة  للأوعية الدّمويّة في الدّماغ وبالتّالي خطر الإصابة بالسّكتة الدّماغيّة، تقرّر علاج رائد الفضاء بأدوية مضادّة للتّخثّر. في بيان أصدرته وكالة ناسا بعد هذه الحادثة، ذُكر أنّه توفّرت في المحطّة الفضائيّة كمّيّة  محدودة من  الدّواء Enoxaparin ، الّذي يتمّ تناوله عن طريق الحقن في الجلد، ولهذا فحص الطّبيب مول ما هي الجرعة اللّازمة لمعالجة الخثار بنجاعة والّتي تكفي إلى أن يصل الدّواء مجدّدًا من الأرض إلى الفضاء. بعد ستّة أسابيع من تشخيص الجلطة، تمّ إيصال الدّواء Apixaban الّذي يتمّ تناوله بواسطة البلع، واستُبدِل العلاج الأوّل بهذا الدّواء.

من خلال المتابعة الطّبّيّة لحالة رائد الفضاء عن طريق فحص بالموجات فوق الصّوتيّة، لوحظ انخفاض في حجم الجلطة بعد أسبوع من العلاج بواسطة Apixaban. تواصل مول، أيضًا، مع رائد الفضاء عبر البريد الإلكترونيّ والهاتف للتّأكّد من حالته الصّحّيّة. تم إيقاف العلاج قبل أربعة أيّام  من العودة إلى الأرض، وعند الهبوط، أظهر الفحص بالموجات فوق الصّوتيّة تدفّقًا طبيعيًّا  للدّم في وريد الرّقبة، ممّا يشير إلى أنّه لم يعد مسدودًا، ولذا تقرّر إيقاف العلاج. اِختفت الجلطة كلّيًّا بعد عشرة أيّام  من الهبوط. وبعد ستّة أشهر من الهبوط، لم تظهر لدى رائد الفضاء أيّة أعراض غريبة.

מול במרכז לאימון אסטרונאוטים | צילום: NASA
العلاج عن بُعد لحالات طبّيّة لم تتمّ مواجهتها في الفضاء من قبل. الطّبيب مول في مركز تدريب روّاد الفضاء | مصدر الصّورة: NASA

 

دروس للمستقبل

يذكر الأطبّاء، في مقالهم، الحالة الطّبّيّة  أعلاه كمثال للتّعقيدات الّتي تميّز الطّبّ الفضائيّ مثل: الحاجة إلى اتّخاذ قرارات علاجيّة في غياب الأدلّة البحثيّة، إذ أنّه لم يتمّ حتّى  الآن علاج خثار الدّم في ظروف انعدام الجاذبيّة؛ الحاجة إلى فحص بواسطة الأمواج فوق الصّوتيّة على يد المريض نفسه (تحت إشراف أطبّاء الأشعّة)؛ كمّيّة  محدودة من الأدوية المضادّة للتّخثّر ومن المحاقن؛ صعوبة في سحب سوائل من أنابيب الاختبار في ظروف انعدام قوّة الجاذبيّة الّتي يمكنها التّغلّب  على التّوتّر السّطحيّ. للتّغلّب  على كلّ هذه الصّعوبات والتّحدّيات، يلزم بذل جهد مشترك لاتّخاذ قرارات طبّيّة  في عدّة وكالات فضاء.

الحالة المذكورة أعلاه شبيهة بنتائج  بحث أجري عام 2019 حول 11 عضوًا من أعضاء المحطّة الفضائيّة، الّذي أظهر تدفّقًا  غير طبيعيّ للدّم في الوريد الرّقبيّ. يسلّط البحثان الضّوء على فرادة (تميّز)  هذه الظّاهرة في ظروف انعدام الجاذبيّة، فجلطات الدّم في الوريد الرّقبيّ نادرًا  ما تحدث على الأرض دون وجود عوامل خطر مثل السّرطان، القسطار الوريديّ المركزيّ (إدخال قسطار ثابت في وريد كبير للاستعمال المطوّل)، أو التّحفيز المفرط به للمبيض في علاجات الخصوبة. ليست هذه العوامل  لم تكن موجودة عند رائد الفضاء فقط، وإنّما لم تكن  لديه، أيضًا، أيّة  خلفيّة طبّيّة، عائليّة أو شخصيّة للخثار.

يبدو أنّ رائد الفضاء كان محظوظًا، فهو لم يشعر بأيّة أعراض غريبة، ولولا الفحص بواسطة الموجات فوق الصّوتيّة الّذي أجراه لأهداف بحثيّة، لما تمّ الكشف عن الخثار، وما عرفنا نهاية الأمر- هذا ما أوضحته وكالة ناسا في بيان لها.. أضاف الطّبيب مول أنّه نحتاج لمزيد من الأبحاث على جلطات الدّم في الفضاء. "هل الأمر أكثر شيوعًا في ظروف انعدام الجاذبيّة؟ كيف نقلّل من خطر الخثار؟ هل هناك حاجة للمزيد من الأدوية في المحطّة الفضائيّة؟ هذه هي الأسئلة  الّتي نحتاج إلى إجابة عنها،  خاصّة وأنّ  هناك مخطّطًا لإرسال روّاد فضاء إلى مهامّ أطول على سطح القمر والمرّيخ". يؤكّد الأطبّاء، في المقال، ضرورة دراسة الموضوع بشكل أعمق، سواء باستخدام نماذج تجريبيّة أو بواسطة رقابة أكثر  دقّة لروّاد الفضاء، حتّى يتمّ تطوير استراتيجيّات لمنع الخثار، أو على الأقل للتّعامل معه.

 

فيديو من جامعة نورث كارولينا يُظهر طريقة علاج الطّبيب مول للحالة المذكورة (باللغة الإنجليزية):

 

 

الترجمة للعربيّة: د. ريتا جبران
التدقيق والتحرير اللغوي: د. عصام عساقلة