كيف تتواصل الحيوانات فيما بينها؟ هل تتكلّم بلغة لا نفهمها أم تعتمد على قواعد التّواصل الأساسيّة فقط؟ ما هي وظيفة الإيماءات، الرّوائح، والألوان؟ ولماذا لا تستطيع التّكلّم بلغة الإنسان؟
في فيلم ديزني الجديد، "Zootropolis"، تمشي الحيوانات على قدمين، ترتدي ملابس، تسافر بالقطار، تعمل في مهن مختلفة، وتنطق باللّغة الإنجليزيّة (أو بلغة أخرى، حسب مكان مشاهدة الفيلم). من الجليّ أنّ العالم المصوَّر في الفيلم لا يمكن أن يكون حقيقيا، كما أنّ عالمنا سيكون مختلفًا تمامًا لو لم نتمكّن من التّواصل بشكل ناجع مع بعضنا. طبعًا، تتواصل الحيوانات أيضًا مع بعضها، ويشهد على ذلك كلّ من شاهد لقاءً بين كلبين. مع ذلك، فإنّ لغتنا مختلفة تمامًا عن طريقة تواصل الحيوانات. فما الذي يجعل لغة الإنسان مميّزة؟
الإنسان وباقي المخلوقات الحية
تقوم لغة الإنسان على مبدأَين. أولّهما المفردات - مجموعة من الأصوات والمقاطع اللّفظيّة المتّفَق عليها من جميع متحدّثي اللّغة على أنّها تمثّل شيئًا أو مفهومًا معيّنًا؛ وثانيهما القواعد والنّحو - خوارزميّة مبنيّة في دماغ كلّ متحدّث للّغة تتيح له ربط الكلمات ببعضها بطرائق لا نهائيّة، للتّعبير عن أيّ فكرة تخطر في ذهنه. وبهذه الطريقة، يتحدّث النّاس فيما بينهم عمّا حدث قبل عام، يخطّطون معًا للشّهر القادم، يتناقلون اكتشافات شخص ثالث في بلد آخر، وحتّى يناقشون طريقة تطوّر اللّغة الّتي يتحدثّون بها.
أمّا التّواصل بين الحيوانات فيعتمد بمعظمه على التّعبير عن مزاج الحيوان أو نيّته. فالقطّ يهرهر للتّعبير عن رضاه، يزفر عندما يكون على وشك الهجوم، ويُصدر أصوات مواء عالية بالقرب من أنثى يشتهيها وهي في فترة هياجها الجنسيّ. تخصّ هذه الأصوات هذه المعاني ولا تعبّر عن معنى مختلف عند اختلاف السياق، بينما تحمل كلمة "قطّ" المعنى نفسه في سياقات مختلفة في لغتنا، كما في الجملتَين "أختي لديها قطّان" و "قطّة أختي تخدشني".
أمّا عند الحيوانات الأكثر قُربًا منّا، مثل القرود، فثمّة بوادر لتطوّر لغة، إذ إنّ الأصوات الّتي تُصدرها لا تعبّر عن حالتها فقط، بل تشير أيضًا إلى أشياء أو حيوانات معّينة. الإثبات الأوّل على ذلك هو سعدان الفرفت Vervet Monkey، الذي يعيش في شرق أفريقيا وجنوبها. فمنذ 35 عامًا، اكتشف الباحثون أنّ هذه السّعادين تُصدر نداءات تحذيريّة مختلفة عندما ترى نمرًا أو عُقابًا أو ثعبانًا. وفي حين أنّ نداء تحذير عاديّا يمكن أن ينتج ببساطة عن الخوف (ولا يختلف بالتالي عن زفير القطّ)، تشير النداءات المختلفة للحيوانات المفترسة المختلفة إلى وجود علاقة بين نوع الحيوان والصّوت الصّادر. تختلف أيضًا ردود فعل القرود عندما تسمع نداءات مختلفة، فهي تركض نحو الأشجار استجابة لنداء "النّمر"، توجّه نظرها إلى الأعلى عندما تسمع كلمة "نسر"، وتنظر إلى الأسفل كردّ فعل على نداء "الأفعى".
وقد نُشرت منذ ذلك الحين أبحاث تشير إلى أنّ الأنواع المختلفة من القرود والقرود العليا تصدر أصواتًا تعبّر عن مفاهيم مختلفة: فقرود طمارين تُصدر نداءات تحذيريّة مختلفة عندما تميّز مفترسات مختلفة، فيما تُصدر قرود كابوشين والشّمبانزي أصواتًا مختلفة استجابةً لأنواع مختلفة من الطّعام، إضافة إلى أمثلة عديدة أخرى. أُجريت دراسات مشابهة على الطّيور أيضًا، وادُّعي أنّ لدى الغربان وحتّى الدّجاج نداءات تعبّر عن أنواع معيّنة من الطّعام. في حالات نادرة، يمكن تمييز مجموعة نداءات تُصدرها الحيوانات بترتيب معيّن - ويعتقد بعض الباحثين أنّ هذه بداية تكوين جُمَل. لقرود كامبل - القرود الصّغيرة التي تعيش في غرب أفريقيا - ستّة نداءات أساسيّة، لكنّها تستطيع ربطها معًا بأشكال مختلفة لبناء "جُمَل" تعبّر عنها حسب الموقف. ووفقًا لدراسة جديدة حول الطّيور المغرّدة، نُشرت في آذار 2016، لا تكتفي القرقفيّات اليابانيّة بإصدار نداءات ذات معنى معين، إنّما تربطها معًا بتسلسل ذي معنى؛ فمعنى "النداء أ" متبوعًا بـ "النّداء ب" يختلف عن "النداء ب" متبوعًا بـ "النّداء أ".
هل هي لغة حقًّا؟
إلى جانب نشر العديد من الدّراسات المشابهة، كثرت أيضًا أصوات المشكّكين بالأمر، الذين يدّعون أن لا علاقة بين النّداءات الّتي تصدرها الحيوانات وبين الكلمات في اللغة البشرية، حتّى إن كانت النّداءات تعبّر عن غرض أو حيوان ما. فبين أبرز ميزات الكلمات اعتباطيّتها. فلا علاقة بين كلمة "قطّ" وبين الحيوان الذي تشير إليه الكلمة سوى القرار الاعتباطي للناطقين باللّغة العربيّة. لهذا السبب، فإنّ للمفهوم "قطّ" أسماء أخرى باللّغات الأخرى - "كات" بالإنجليزيّة، "جاتو" بالإسبانيّة، و"بيرالو" بالنّيباليّة. بالإضافة إلى ذلك، لا يعرف الأطفال الصغار ما هي الأصوات الملائمة للمفاهيم المختلفة، بل يكتسبون ذلك من الكبار حولهم. ليس من الواضح أبدا إذا كانت هذه هي الحال أيضًا بالنّسبة لـ "كلمات" الحيوانات. فقرود الفرفت مثلًا تعيش في الكثير من المناطق في أفريقيا. مع ذلك، فإنّ النّداءات الّتي تعبّر عن النّسر، النّمر، أو الأفعى في إثيوبيا هي نفسها المستخدمة في جنوب أفريقيا. كما يبدو أنّ القرود الصّغيرة لا تكتسب النّداءات من والديها، بل تعرف منذ الولادة أيّ نداء يناسب أيّ مُفترِس. هناك أصوات أخرى، مثل تغريد الطّيور وصوت الحيتان، يكتسبها الصّغار من البالغين في المجموعة، لذا فقد نجد أغاني مختلفة وسط مجموعات سكّانيّة مختلفة. ولكن يبدو أنّ هذه الأصوات بالتّحديد لا تعبّر عن مفهوم معيّن.
ومن غير الواضح أيضًا إلى أي مدى تتحكّم الحيوانات بالأصوات الّتي تصدرها وتستطيع تحديد الوقت الملائم لإصدار الصّوت. يُصدر الإنسان أيضًا أصواتا فطريّة كهذه لا يمكنه السّيطرة عليها. فعندما نتعرّض لضربة مثلًا، يصعب علينا كثيرًا حبس الصّرخة في أفواهنا. وحتّى أولئك الّذين يحاولون ضبط أنفسهم للتّوقّف عن الضّحك يعون صعوبة فعل ذلك. ووفقًا لادّعاء بعض الباحثين، تنتمي نداءات الحيوانات، حتّى تلك الّتي تشير إلى مفاهيم محددة، إلى هذه الفئة، وبالتّالي تختلف جوهريًّا عن لغة الإنسان. توضح إحدى الحالات الّتي وصفتها الباحثة كاثرين هوبيتر(Hobaiter) هذا الادّعاء: كانت في مجموعة الشّمبانزي الّتي راقبتها أنثى تريد تناول لحم القرد الّذي اصطاده أحد الذّكور، إلّا أنّ الذّكر لم يوافق على مشاركتها طعامه. انتظرت الأنثى حتى نوم الذّكر، واقتربت منه بحذر لسرقة بعض اللّحم. وقد تمكّنت من بلوغ اللّحم دون استيقاظ الذّكر مرسلةً يدها لتناوله، إلّا أنّ فطرتها غلبتها وأصدرت صوتًا مرتبطًا بتناول الطعام. استيقظ الذّكر وطُردت الأنثى الجائعة مذلولة. توضح هذه القصّة أنّ بعض نداءات الحيوانات على الأقل هي ردود فعل غريزيّة وليست نتيجة تخطيط مسبق للتّواصل.