سحرت زهور التّوليب المكسورة الأنظار بجمالها الفريد ونقوشها الملتهبة، حتّى أنّها أشعلت في القرن السّابع عشر ما يُعرف اليوم بأوّل فُقاعة اقتصاديّة في التّاريخ الهولنديّ. لم يكن أحد ليتخيّل آنذاك أنّ وراء هذا الجمال السّاحر يقف فيروس نباتيّ خفيّ. ما طبيعة هذا الفيروس؟ وكيف يعمل على تشكيل هذه النّقوش والأنماط الفريدة على بتلات التّوليب؟
بدأت رحلة هولندا مع التّوليب بوصول هذه الأزهار البديعة من بلاط السّلاطين العثمانيّين في تركيا، سرعان ما أعجبت الطّبقة الهولنديّة الحاكمة والثّريّة بزهور التّوليب، فغدت جزءًا لا يتجزّأ من حدائقهم وشُرفاتهم. لم يكن التّوليب مجرّد زهرة، بل أصبح رمزًا للثّروة والطّموح والمقامرة، لا سيّما بعض الأصناف الّتي توشّحت بخطوط أو نقوش ملوّنة جميلة وغير منتظمة على بتلاتها. أدَّت هذه الأصناف إلى ارتفاع جنونيّ في أسعار التوليب، أعقبه انهيار حادّ. عرفت هذه الظّاهرة فيما بعد باسم "هوس التّوليب" (Tulipomania)، ويشير إليها بعض الاقتصاديّين كأوّل فُقاعة ماليّة مُسجّلة في التّاريخ.
أدّت هذه الأصناف إلى ارتفاع جنونيّ في أسعار التوليب أعقبه انهيار حاد. عرفت هذه الظّاهرة فيما بعد باسم "هوس التوليب" | لوحة رمزيّة لهوس التّوليب للفنّان JAN BRUEGHEL THE YOUNGER 1640
كيف تسبَّبت عدوى نباتيّة في تشكيل أنماط زهور التّوليب وإطلاق أوّل فُقاعة اقتصاديّة مسجّلة في التّاريخ؟
في ذروة الهوس، بين 1634 و1637، وصل سعر بُصيْلة واحدة من نوع "سيمبر أغوستوس" Semper Augustus – أحد أجمل أصناف التّوليب المخطّطة – إلى 3000 غيلدر، ما يعادل في ذلك الزّمن ثمن بيت فاخر في قلب أمستردام. لم يخطر في بال أحد حينها أنّ هذا الجمال اللّافت لم يكن نتيجة طفرة وراثيّة، أو مهارة زراعيّة، بل نتيجة عدوى فيروسيّة تُصيب الأزهار. منذ عام 1576، لاحظ عالم النّباتات الهولنديّ كارولوس كلوسيوس Carolus Clusius، وهو أوّل من زرع التّوليب في هولندا، أنّ الزّهور الّتي تتّخذ أنماطًا مخطّطة ومتوهّجة في ألوانها كانت غالبًا ما تُصاب بالوهن، وتفقد حيويّتها حتّى تذبل وتموت بعد فترة وجيزة، وبذلك كان كلوسيوس أوّل من رجَّح وجود عامل مَرَضيّ خلف هذا التّغيّر.
بحلول عام 1637، لاحظ مزارعو التّوليب أنّ تطعيم (Grafting) أزهار التّوليب العاديّة ببصيلات من زهور مخطّطة، أدّى بعد فترة إلى ظهور تلك الألوان والأنماط الغريبة على الزّهور العاديّة، لكن دون ان يدركوا ان الحديث يدور حول فيروس. لم يُحلّ لغز هذه الألوان والخطوط البديعة إلّا في عام 1928، حين أثبتت العالِمة دورثي كايلي (Dorothy Cayley) أنّ فيروسًا يُدعى فيروس تكسّر التّوليب (TBV)، وهو أحد أنواع الفيروسات النّباتيّة من عائلة البوتيفيروس (Potyvirus)، هو المسؤول عن هذه الظّاهرة، الّتي عرفت فيما بعد بتكسّر التّوليب.
وصل سعر بصيلة واحدة من نوع "سيمبر أغوستوس" Semper Augustus إلى ما يعادل ثمن بيت فاخر في قلب أمستردام. لوحة مائيّة تُظهر مثاليْن مختلفيْن من زهرة "سيمبر أغوستوس" | Brandemandus tulip book
الفيروسات المسبّبة لتكسر ألوان التّوليب
لا يُعدّ فيروس تكسّر التّوليب المسبّب الوحيد لهذه الظّاهرة، فعلى مدار السّنوات تمّ التّعرّف على مجموعة أخرى من الفيروسات القريبة الّتي تسبّب أنماطًا مختلفة من "تكسّر الألوان"، وتنتمي هذه الفيروسات غالبًا إلى عائلة Potyvirus، ومن أهمّها: فيروس بقع الزّنبق (Lily mottle virus - LMoV)، فيروس تكسّر التّوليب (Tulip breaking virus - TBV)، فيروس تكسّر التوليب رامبرانت (Rembrandt tulip-breaking virus - ReTBV).
تظهر أعراض المرض عادةً في موسم النّموّ التّالي للإصابة، وقد تشمل أوراقًا ملتوية أو أصغر من المعتاد، تشوّهات شكليّة، وألوانًا متغيّرة على شكل خطوط ريشيّة أو لهبية على البتلات. كما أنّ الأزهار المصابة قد تزهر قبل موعدها ثمّ تذبل سريعًا مقارنةً بالنّباتات السّليمة. تنتشر هذه الفيروسات غالبًا عن طريق الحشرات مثل حشرات المنّ، أو من خلال أدوات الزّراعة الملوّثة أو عند التّعامل مع بصيلات ملوّثة إذ لا تُنقل عبر البذور، بل من خلال التّكاثر الخضريّ (أي عبر الأبصال).
كيف يرسم الفيروس لوحات التّوليب؟ نموذج رياضيّ يكشف آليّات تكوّن الأنماط على البتلات
عرضت إحدى الدراسات الحديثة نموذجًا رياضيًّا يبيّن كيفيّة تكوُّن الأنماط البديعة على بتلات زهور التّوليب المكسورة، يقوم هذا النّموذج على التّفاعل بين عدوى فيروسيّة والجينات المسؤولة عن إنتاج صبغة الأنثوسيانين (anthocyanin)، وهي واحدة من أهم المركّبات المسؤولة عن الألوان الحمراء، البنفسجية والزرقاء في النباتات. يعتمد النّموذج على نظام من المعادلات التّفاضليّة الجزئيّة (partial differential equations، بإختصار PDEs) ويصف ديناميكيّات ثلاثة عناصر رئيسيّة داخل البتلة: الفيروس، الرّكيزة الخلوية (وهي الموارد التي يعتمد عليها الفيروس والصبغة معًا) وصبغة الأنثوسيانين.
كشفت دراسة حديثة عن نموذج رياضيّ يُظهر كيف تُرسم هذه الأنماط السّاحرة على البتلات نتيجة عدوى فيروسيّة تُصيب الجينات المسؤولة عن إنتاج الأنثوسيانين. a) زهرة توليب من نوع توليبا "أبسلون" (Tulipa Absalon) بأنماطِها المكسورة النّاتجة عن الإصابة الفيروسيّة | The Mount Vernon Ladies’ Association
c) تمثيل تخطيطي للنّموذج الرّياضيّ المقترح بالدراسة | مصدر الرّسم التّوضيحيّ: مقالة How the tulip breaking virus creates striped tulips
يعمل الفيروس كعامل منشّط يتكاثر ذاتيًّا على حساب الرّكيزة، ويثبط في الوقت نفسه إنتاج الصّبغة في الخلايا المصابة، ما يؤدّي إلى تفاوت في تراكم الصّبغة وظهور أنماط مكانيّة فاتحة، إذ تستمرّ الخلايا بإنتاج الصّبغة بالأماكن السّليمة، بينما تظهر المناطق المصابة بألوان فاتحة بسبب غياب الأنثوسيانين. يشمل النّموذج المقترح في الدّراسة آليّتين معروفتين لتكوّن الأنماط في الأحياء: عدم الاستقرار التورينغي أو نمط تورينغ (Turing instability)، النّاتج عن تفاعلات وانتشار غير متوازن بين المنشّطات والمثبّطات، وآليّة وولبرت للمعلومات الموضعية (Wolpert's positional information)، الّتي تعتمد على تدرّجات في تركيز الموادّ المنظّمة أثناء نموّ البتلة، ممّا يساعد الخلايا على تنظيم إنتاج الصّبغة بناءً على موقعها في البتلة، وبالتّالي تثبيت الأنماط النّاتجة عن الفيروس. ويفترض النّموذج أنّ البتلة تنمو تدريجيًّا من القاعدة إلى الطّرف، ويُعامل الحيّز النّسيجيّ كحيّز أحادي البعد يخضع لتوزيع ديناميكيّ للعدوى واللّون.
هل حكمت فيروسات البوتيفيروس على جميع أصناف التّوليب بالفناء؟
لم تُفكّ جميع شفرات الفيروسات الّتي تصيب أزهار التّوليب بعد؛ فما زال كثير من آليّاتها البيولوجيّة وتفاعلاتها مع الأزهار غير واضحة. ففي حين تسبّبت العدوى بانقراض أصناف نادرة مثل Semper Augustus، استطاعت أصناف أخرى مثل Absalon وَZomerschoon أن تحافظ على نمطها المكسور الساحر لعقود، دون أن تُظهر مؤشّرات واضحة على التّدهور أو الضّعف الوراثيّ. يطرح هذا التّباين عدة تساؤلات حول آليّات التّفاعل بين الفيروس والنّبتة.

كان صنف Zomerschoon، المسجّل منذ عام 1620، من أبرز الأصناف المعروفة خلال ذروة "هوس التوليب"، ولا يزال قائمًا حتى اليوم، رغم حمله المستمرّ للفيروس. زهرة التوليب "Zomerschoon" | مصدر الصورة: Old House Gardens
يُعدّ صنف التوليب Zomerschoon، المسجّل منذ عام 1620، أحد أبرز الأمثلة على هذه الظّاهرة؛ إذ كان من الأصناف المعروفة خلال ذروة "هوس التّوليب"، ولا يزال قائمًا حتّى اليوم، رغم حمله المستمرّ للفيروس. تشير بعض الفرضيّات إلى أنّ هذا التّفاوت قد يكون نتيجة تكيّف طويل الأمد بين الفيروس والنبتة، ربما بسبب تمحور أو ضعف في شدّة السلالة الفيروسيّة، أو لامتلاك هذه الأصناف مقاومة جينيّة عالية تُبقي الفيروس تحت السّيطرة. كما يُرجّح أن يكون السّبب مزيجًا من العاملين معًا، أي تفاعل متوازن بين فيروس ضعيف ونبات مقاوم، ممّا يخلق حالة من التّعايش الّتي تسمح باستمرار ظاهرة تكسّر الألوان، دون التّأثير على مقاومة النّبتة واستمرارها.