هل أدّى تناول اللّحوم إلى "جعلنا بشرًا"، ومكّننا من تطوير أدمغتنا الكبيرة؟ ومن هم أوّل من قاموا بإدراج اللّحوم ضمن قائمة الطعام؟ تتضمّن القصّة التطوّريّة لاستهلاك اللّحوم العديد من الأسئلة الّتي لا تزال تبحث عن إجابات.

لهذه القصّة، مثل كلّ قصّة تطوّريّة، ليس لها بداية واضحة. هذه قصّة لتغيير تدريجيّ بطيء، وبغضّ النظر عن نقطة البداية الّتي نختارها، فإنّها ستقع حتمًا في مكان ما على طول التسلسل الّذي يقودنا من أسلافنا القدامى ليصل إلينا. لكن، وخلافًا للتطوّر البشريّ، فإنّ المقال يجب أن يبدأ من نقطة محدّدة. دعونا نبدأ، إذًا، بالتغيّر المناخيّ. هذا ليس ما يحدث الآن، بل ما حدث قبل 2.8 مليون سنة، وأدّى إلى تغيير وجه شرق أفريقيا إلى درجة عدم القدرة على التعرّف عليه.

حتّى هذه الفترة، هيمنت الغابات الكثيفة الغنيّة بالمياه على الجزء الشرقيّ من القارّة، ولكن بعد ذلك بدأت في التراجع، وحلّ محلها السافانا- وهي أراضٍ عشبيّة شاسعة ذات غابات متناثرة وأكثر جفافًا. ومع تقلّص عدد الغابات، واجه أسلافنا الّذين اعتادوا العيش بين أغصان الأشجار صعوبة في العثور على الطعام والمأوى. وبدأ بعضهم، على ما يبدو بسبب افتقارهم إلى الاختيار، في التكيّف مع نوع مختلف من الحياة، وهي حياة السافانا. لم تكن العديد من الفواكه الّتي تغذّى عليها سكّان الغابات متوفّرة في السهوب المفتوحة، والّتي وفّرت العُشب بالأساس- وهو الغذاء الّذي لم يملك أسلافنا القدرة على هضمه. لكن مع العُشب جاءت أيضًا العديد من الحيوانات العاشبة، من الظباء وحتّى الفيلة. لقد كان لحمها مصدرًا غنيًّا بالمغذّيات بشكل خاصّ، حيث كان أسلافنا قادرين على هضمه بسهولة، إذا تمكّنوا من الحصول عليه.

بحسب العديد من الباحثين، فإنّ الانتقال إلى السافانا هو ما حوَّلنا إلى آكلي لحوم- أو بتعبير أدقّ، إلى آكلي كلّ شيء، أي إنّنا نعتمد على اللّحوم كجزء مهمّ وأساسيّ من نظامنا الغذائيّ. نحن نأكل اللّحوم أكثر من أقاربنا من القرود البشريّة، وهذا ينطبق أيضًا على مجتمعات الصيد والجمع. يتكيّف تشريحنا مع هذه القائمة: أمعائنا، على سبيل المثال، أقصر من أمعاء القردة والقرود البشريّة، والّتي تحتاج إلى أمعاء طويلة لهضم الأوراق وغيرها من الموادّ النباتيّة، ولكنّها أطول من أمعاء الحيوانات الّتي تأكل اللحوم فقط تقريبًا. ووفقًا للعديد من الباحثين، فإنّ التحوّل إلى تناول اللحوم، ربّما بمساعدة الطهو على النار، هو ما مكّننا من تطوير أدمغتنا الكبيرة.

إنّ دماغنا هو أحد الأعضاء الّتي يعتبر الحفاظ عليه مكلفًا للغاية: فهو المسؤول عن استهلاك حوالي عشرين بالمئة من الطاقة الّتي نحصل عليها من الطعام، على الرغم من أنّ وزنه لا يتعدّى اثنين بالمئة من وزن الجسم. "لتشغيل هذه الآلات الكبيرة في رؤوسنا، نحتاج إلى قدر كبير من الطاقة، وبالطبع نحتاج إلى أطعمة عالية الجودة وغنيّة بالطاقة"، كما أوضحت تينا لوديك (Lüdecke)، والّتي تدرس النظام الغذائيّ لأنواع متعدّدة من البشر البدائيّين، في مقابلة مع الإذاعة العامّة الأمريكيّة NPR. اللّحوم هي بالضبط مثل هذا الطعام. يعتقد العديد من الباحثين أنّ التحوّل إلى تناول اللّحوم سمح بتطوّر دماغ كبير وذكيّ لدى أسلافنا القدماء، وبمساعدته طوّروا أساليب صيد أفضل وأكثر تطوّرًا، ما سمح لهم بالحصول على المزيد من اللّحوم. ولكن عندما نبدأ في النظر إلى التفاصيل، سنكتشف أنّ هناك الكثير مما لا نعرفه عن متى وكيف بدأنا في تناول اللحوم- وما هو الدور الّذي لعبته في تطوّرنا.


لا يزال هناك الكثير من الأشياء الّتي لا نعرفها عن كيفيّة بدء تناول اللّحوم ومتى حدث ذلك. أبقار في حظيرة | Shutterstock, Aleksandar Malivuk

بدايات الانسان

تتوافق نتائج الأحفورات، إلى حدٍّ ما، مع القصّة الّتي تربط بين استهلاك اللّحوم والانتقال إلى السافانا. قبل نحو عشر سنوات، عُثر على عظمة فكّ تعود إلى نفس الفترة الّتي حدث فيها تغيّر المناخ، أي، قبل 2.8 مليون سنة، وينتمي، وفقًا لبعض الباحثين، إلى أحد أوائل الأفراد في جنس الإنسان- جنسنا، والّذي يتميّز بدماغ أكبر مقارنة بالأنواع الّتي سبقته. ولكن بما أنّها عظمة فكّ واحدة فقط، فمن الصعب تحديد انتمائها بشكل مؤكّد، ناهيك عن تحديد حجم دماغ الحيوان الّذي ينتمي إليه الفكّ.

وبعد فترة ليست طويلة، بالاصطلاحات التطورية ــ منذ 2.4 مليون سنة ــ رأينا أول أحفورات للإنسان الماهر(Homo habilis). لدينا بالفعل المزيد من الأحفورات الخاصة بهم، والتي تظهر بوضوح دماغًا أكبر بكثير من دماغ الأنواع السابقة، وترافقها أدوات حجريّة صنعها هؤلاء الأشخاص. بعد حوالي نصف مليون سنة من ظهور الإنسان الماهر، ظهر الإنسان المنتصب (H. erectus) لأوّل مرّة. كان هؤلاء الأشخاص أكبر وأطول من الهابيليس، وكان لديهم أيضًا أدمغة أكبر- حتّى بالنظر إلى حجم أجسامهم. هل يكمن سرّ الجسم الكبير والعقل المتطوّر في اللّحوم؟ يعتقد العديد من العلماء ذلك، ويزعمون أنّ الانتقال من ماهيليس إلى إريكتوس كان مصحوبًا بزيادة في كميّة اللّحوم الّتي تناولها هؤلاء الأشخاص. ومع ذلك، فمن الصعب العثور على أدلّة قاطعة لدعم هذه الفرضيّة.


هل يكمن سرّ الجسم الكبير والعقل المتطوّر في اللّحوم؟ جمجمة الإنسان المنتصب (على اليسار)، بجوار جمجمة إنسان حديث (في الوسط) وإنسان نياندرتال | Natural History Museum, London / Science Photo Library

علامات في العظام

كيف نستطيع أن نعرف متى بدأ أسلافنا بتناول اللّحوم؟ تصل إلينا معظم المعلومات على هيئة عظام، أو بتعبير أدقّ، العلامات الّتي تحملها العظام، نتيجة لطريقة البشر الفريدة في التعامل مع اللّحوم.

قالت عالمة الأنثروبولوجيا الأميركيّة بريانا بوبينر (Pobiner) في مقابلة مع موقع سميثسونيان الإلكترونيّ: "لم يكن لدى البشر الأوائل أنياب حادّة مثل الحيوانات آكلة اللّحوم، لذلك لم يتمكّنوا من تمزيق لحم الجيفة بأسنانهم". "لقد كان اختراع التكنولوجيا والأدوات الحجريّة هو الّذي جعل أكل اللحوم ممكنًا- على سبيل المثال، استخدام الحجارة لتكسير العظام والوصول إلى النخاع، أو استخدام الحجارة ذات الحوافّ الحادّة لقطع اللّحوم عن العظام". ويترك هذا الاستخدام علامة، ما يُفرِح علماء الأحفورات.

أقدم دليل على استخدام الأدوات لإزالة اللّحوم من العظام، أو على الأقلّ أقدم دليل غير متنازع عليه، يعود إلى حوالي 2.6 مليون سنة. هذه العظام الّتي وجدت في إثيوبيا، تنتمي إلى مجموعة متنوّعة من أنواع الحيوانات العاشبة الكبيرة، مثل الخيول القديمة والظباء. تظهر على العظام علامات قطع واضحة، تركتها أدوات حجريّة أثناء تقطيع اللّحوم.


تصل إلينا أغلب المعلومات من العظام، وذلك بفضل العلامات المتروكة عليها. عظام عمرها 1.5 مليون سنة من كينيا عليها علامات قطع | ويكيميديا، بوبينر، Pobiner, B. et al Sci Rep 2023

كيف حصل الإنسان القديم على لحم الظباء؟ من المرجّح أنّهم في البداية كانوا يأكلون الجثث الّتي يعثرون عليها، وربّما بقايا الحيوانات المفترسة مثل الأسود والنمور، ولم يصطادوا الحيوانات بأنفسهم. ولكن من بين العظام الّتي وجدت في إثيوبيا كانت هناك أيضًا عظام أرجل، مع علامات قطع تشير إلى إزالة اللّحم من أجزائها العلويّة. لا تترك الحيوانات المفترسة عادة لحومًا في هذه المنطقة، لذا يعتقد الباحثون أنّه منذ 2.6 مليون سنة، كانت هناك حالات وصل فيها البشر إلى جثث الحيوانات في وقت مبكّر، قبل أن تنتهي الحيوانات المفترسة الأخرى من أكلها.

وتحكي العظام الّتي وجدت في كينيا والّتي يعود تاريخها إلى حوالي مليوني سنة قصّة مماثلة: فقد شوهدت علامات القطع أيضًا في الأماكن الّتي نتوقّع أن تترك فيها الحيوانات المفترسة العظام فقط. "لم يكن البشر البدائيّون يأكلون بقايا ما قتلته القطط الكبيرة؛ لأنّهم كانوا يزيلون اللّحوم من الأماكن الّتي لم يتبقَّ فيها أيّة لحوم من الفرائس الّتي كانت القطط تصطادها"، هذا ما خلصت إليه جينيفر باركينسون (Parkinson)، والّتي قادت الدراسة، في مقابلة مع مجلّة New Scientist.

أمّا الأدوات الّتي كانت تستخدم بالتأكيد للصيد، مثل رؤوس الرماح، فلم تظهر إلّا بعد ذلك بكثير، منذ حوالي نصف مليون سنة. ولكن من المؤكّد أنّه من المحتمل أن يكون البشر من أنواع مختلفة قد مارسوا الصيد في وقت سابق، باستخدام أدوات أخرى. إحدى طرق الصيد القديمة، والّتي لا تزال تستخدم في بعض مجتمعات الصيد والجمع، تُسمَّى "صيد المثابرة" (Persistence hunting). باستخدام هذه الطريقة، يستغلّ الصيّادون حقيقة أنّ البشر، بفضل قدرتهم على التعرّق، يتعاملون مع الحرارة بشكل أفضل من الحيوانات الأخرى. يقوم الصيّادون بمطاردة فريستهم لساعات، في وضح النهار، ويمنعونها من الراحة في الظلّ ومن التبريد. في حين أنّ معظم الحيوانات العاشبة أسرع من البشر في المسافات القصيرة، إلّا أنّها تواجه صعوبة في الحفاظ على الجري لفترات طويلة من الزمن، وفي النهاية تنهار من التعب والحرارة. لذلك يمكن للصيّادين قتلها بضربة النبّوت،  الرماح الحادّة.لا تدوم هذه الأدوات الخشبيّة طويلًا؛ لذلك لا نعلم متى بدأ الإنسان في الصيد باستخدام هذه الطريقة.

ومن ثمّ فإنّ ادّعاءات الباحثين استثنائيّةــ ومثل هذه الادّعاءات تتطلّب أدلّة استثنائيّة. ولكن لا يتفقّ الجميع على أنّ الأدلّة المقدَّمة في الدراسة كافية لدعم الفرضيّة القائلة بأنّ الإنسان الأسترالوبيثكسينيّ كان يستخرج اللّحوم من العظام باستخدام أدوات حجريّة. وزعم باحثون آخرون أنّ العلامات الموجودة على العظام ليست بالضرورة علامات قطع، بل ربّما تكون قد نشأت نتيجة التآكل الناجم عن حبيبات الرمل الّتي دُفنت فيها. حتّى يتمّ العثور على المزيد من الأحفورات، فإنّ الادّعاء بأنّ أكل اللحوم بدأ منذ 3.4 مليون سنة يظلّ "موضع شكّ".


إنّ الأدوات الّتي كانت تستخدم بالتأكيد في الصيد يعود تاريخها إلى حوالي نصف مليون سنة فقط، ولكن من الممكن بالتأكيد أن يكون البشر من أنواع مختلفة قد مارسوا الصيد في وقت سابق. رسم للإنسان المنتصب وهو عائد من الصيد | Christian Jegou / Science Photo Library

جوهر الجدل

ذكرنا أنّ العظام الّتي يعود تاريخها إلى 2.6 مليون سنة هي "أقدم دليل لا جدال فيه". إنّ أقدم الأدلّة الّتي هي موضع نزاع تعود إلى ما قبلهم بحوالي 800 ألف سنة، وقد عُثر عليها أيضًا في إثيوبيا. هاتان عظمتان، ضلع من حيوان بحجم بقرة وعظم فخذ من حيوان بحجم ماعز، عليهما علامات قطع وقرع (ضَرب) أيضًا، ربّما لمحاولة استخراج نخاع العظم. خلال هذه الفترة- منذ حوالي 3.4 مليون سنة- لم تكن هناك أيّ أنواع من جنسنا، الإنسان. مَن، إذن، استخدم الأدوات الحجريّة لفصل اللّحوم عن العظام؟ المرشّحون الرئيسون   هم أعضاء نوع أوسترالوبيثيكوس أفارينسيس (Australopithecus afarensis)، والّذي عاش خلال هذه الفترة وتمّ العثور على حفريّاته على مسافة غير بعيدة. لكنّ دماغ الأسترالوبيثكس كان أصغر بكثير من دماغ الإنسان الماهر، الّذي لم يتجاوز حجمه حجم دماغ الشمبانزي. كما أنّهم عاشوا في الغابات، وليس في السافانا المفتوحة. هل كان أفراد هذا النوع يستخدمون بالفعل أدوات حجريّة، ويأكلون اللّحوم أيضًا؟ ولكن هذا لا يتناسب تمامًا مع القصّة الجميلة الّتي تقول إنّ الانتقال إلى السافانا جعلنا نأكل اللّحوم، ما سمح لأدمغتنا بالنموّــ وبالتالي ساهم في تطوير التكنولوجيا الّتي سمحت لنا بتناول المزيد من اللّحوم.

ومن ثمّ فإنّ ادّعاءات الباحثين استثنائيّةــ ومثل هذه الادّعاءات تتطلّب أدلّة استثنائيّة. ولكن لا يتّفق الجميع على أنّ الأدلّة المقدَّمة في الدراسة كافية لدعم الفرضيّة القائلة بأنّ الإنسان الأسترالوبيثكسينيّ كان يستخرج اللّحوم من العظام باستخدام أدوات حجريّة. وزعم باحثون آخرون أنّ العلامات الموجودة على العظام ليست بالضرورة علامات قطع، بل ربّما تكون قد نشأت نتيجة التآكل الناجم عن حبيبات الرمل الّتي دُفنت فيها. حتّى يتمّ العثور على المزيد من الأحفورات، فإنّ الادّعاء بأن أكل اللّحوم بدأ منذ 3.4 مليون سنة لا يزال "موضع شكّ".


وحتّى حين العثور على المزيد من الأحفورات، فإنّ الادّعاء بأنّ أكل اللّحوم بدأ منذ 3.4 مليون سنة لا يزال في "موضع شكّ". أدوات حجريّة من إثيوبيا | Didier Descouens, CC-BY-SA

بصمة النظام الغذائيّ

ولكن ربّما نستطيع أن نتناول هذه المسألة من زاوية مختلفة. في دراسة نُشرت مؤخّرًا، قام الباحثون بفحص استهلاك اللّحوم من قبل القردة الأسترالوبيثكسيّة بشكل أكثر مباشرة، من خلال التركيب الكيميائيّ لأسنانها.

في الدراسة، قام الباحثون بفحص النظائر المختلفة للنيتروجين والموجودة في الأسنان الأحفوريّة. النظائر هي أشكال مختلفة من نفس العنصر، تختلف في عدد النيوترونات في النواة، ولكنّ خصائصها الكيميائيّة متطابقة. في حالة النيتروجين، النظير الأكثر شيوعًا هو النيتروجين-14، الّذي يحوي سبعة نيوترونات. ولكنّ نسبة ضئيلة من ذرّات النيتروجين، أقلّ من نصف بالمائة، تنتمي إلى نظير آخر– النيتروجين 15، والّذي يحوي ثمانية نيوترونات. تحصل الحيوانات على النيتروجين من الطعام الّذي تتناوله، كما تفرزه أيضًا بواسطة البول والعرق. يؤدّي الاختلاف الطفيف في كتلة النظائر إلى حقيقة مفادها أنّ إفرازاتنا لا تحوي أيّة نسبة من النيتروجين 15 تقريبًا، وتتكوّن بالكامل من النيتروجين 14. وبالتالي، تتراكم ذرّات النيتروجين 15 في أجسامنا بمرور الوقت، كما هو الحال في جميع الثديّات.

دعونا نفكّر في حيوان عاشب: فهو يحصل على نسبة معيّنة من النيتروجين 15 من نظامه الغذائيّ، وعلى مدار حياته تزداد هذه النسبة في جسمه، حيث تتراكم هذه الذرّات فيه ولا يتمّ إخراجها. والآن دعونا نفكّر في حيوان مفترس يأكل هذا الحيوان العاشب: يحوي  طعامه بالفعل، في البداية، نسبة أعلى من النيتروجين 15 مقارنة بطعام الحيوان العاشب. وبما أنّ المفترس يفرز أيضًا النيتروجين 14 فقط تقريبًا، ويتراكم النيتروجين 15، فإنّ نسبة هذا النظير في جسمه تزداد بشكل أكبر. وهكذا، في نهاية المطاف، تكون نسبة النيتروجين 15 في الحيوانات آكلة اللحوم أكبر من تلك الموجودة في الحيوانات آكلة الأعشاب بنحو 6 في المائة. ومن خلال فحص نسبة النيتروجين 15 من إجمالي ذرّات النيتروجين، من الممكن اكتشاف طبيعة النظام الغذائيّ لحيوان معيّن.

وقد استخدمت العديد من الدراسات النيتروجين 15 لتحديد ما أكلته الحيوانات المختلفة، وكذلك البشر البدائيّون. وعادة ما يقوم الباحثون بفحص بروتينات الكولاجين في العظام لهذا الغرض، ولكنّ البروتينات تتحلّل مع مرور الوقت، وبعد حوالي 200 ألف سنة لا يتبقّى شيء منها للعمل عليه. وفي الدراسة الجديدة، استخدم الباحثون أساليب مبتكرة لفحص كميّة صغيرة من المادّة العضويّة المختبئة داخل مينا الأسنان، بين بلورات فوسفات الكالسيوم الّتي تشكّل غالبيّة الطبقة الخارجيّة للسنّ.

وأوضحت تينا لودكا، الّتي قادت الدراسة، في بيان صحفيّ، بأنّ: "مينا الأسنان هو النسيج الأكثر صلابة في جسم الثديّات، وهو قادر على الحفاظ على بصمة النظام الغذائيّ للحيوان لملايين السنين".


قام الباحثون بفحص تركيز النيتروجين 15 في أسنان سبعة من القردة الأسترالوبيثكسيّة من جنوب أفريقيا، والّتي يعود تاريخها إلى 3.7-3.3 مليون سنة. موقع الحفريّات |  Dominic Stratford

أكلوا النباتات- بالأساس

قام الباحثون بفحص تركيز النيتروجين 15 في أسنان سبعة من القردة الأسترالوبيثكسيّة من جنوب أفريقيا، والّتي يعود تاريخها إلى 3.7-3.3 مليون سنة. كما قاموا أيضًا بفحص أسنان القرود، الظباء، القطط الكبيرة، الكلاب، والضباع من نفس الفترة. وجد الباحثون أنّ تركيز النيتروجين 15 في المتوسّط ​​لدى القردة الأسترالوبيثيكينيّة كان ضمن النطاق الموجود لدى الحيوانات العاشبة، وأقلّ بكثير من تركيزه لدى الحيوانات آكلة اللّحوم. هذا لا يعني بالضرورة أنها لم تأكل اللّحوم مطلقًا، ولكنّه يسمح لنا بتحديد أنّها لم تكن جزءًا مهمًّا من نظامها الغذائيّ. واختتمت لودكا في مقابلة مع NPR قائلة: "من المحتمل أنّ هؤلاء الأفراد السبعة لم يتناولوا اللّحوم بانتظام". "كانوا في الغالب من الحيوانات العاشبة".

مع ذلك، كان نطاق تركيزات النيتروجين 15 أوسع في القردة الأسترالوبيثكسيّة مقارنة بالحيوانات العاشبة في الدراسة. قد يشير هذا إلى نظام غذائيّ أكثر تنوّعًا لدى أسلافنا القدامى، أو ربّما تناولت أنواع مختلفة من الأسترالوبيثكس أطعمة مختلفة قليلًا. يتناول الشمبانزي اليوم، وكذلك أنواع مختلفة من القرود، اللّحوم أحيانًا، ولكنّها تشكل جزءًا صغيرًا جدًّا من نظامها الغذائيّ. ربّما كان هذا هو الحال بالنسبة للأسترالوبيثكيسينات. ومن الممكن أيضًا أنها تناولت الحشرات، والّتي تحوي تركيزًا أقلّ من النيتروجين 15 مقارنة بالثديّات العاشبة. "نرى اليوم أنّ القِرَدة تصطاد النمل الأبيض للحصول على طعامها، فلماذا لم يفعل أسلافنا ذلك؟"، تساءلت لودكا في مقابلة مع موقع  Science News.

لا تدحض الدراسة الجديدة بشكل كامل النتائج المتعلّقة بالعظام والّتي يعود تاريخها إلى 3.4 مليون سنة، على الرغم من أنّها تشكّك فيها. وبعد كلّ شيء، حتّى لو لم يكن الأسترالوبيثكس يأكل اللحوم بانتظام، فإنّ العظام قد تحمل علامات تشير إلى إحدى المناسبات النادرة نسبيًّا والّتي فعل فيها ذلك. وبالإضافة إلى ذلك، تتناول الدراسة الجديدة القردة الأسترالوبيثكسيّة الّتي عاشت في جنوب أفريقيا، والّتي كانت على الأرجح نوعًا منفصلًا عن تلك الموجودة في إثيوبيا. ربّما كان نظامها الغذائيّ مختلفًا أيضًا.

يأمل الباحثون أن تؤدّي دراستهم إلى قيام علماء آخرين بفحص نظائر النيتروجين في الأحفورات القديمة. بهذه الطريقة، قد نتمكّن في المستقبل من معرفة ما كانت تأكله الأنواع الأخرى من السلالة البشريّة، وتحديد متى بدأ أسلافنا في تناول اللحوم بانتظام بشكل أكثر يقينًا.


"من المرجّح أنّ هؤلاء الأفراد السبعة لم يتناولوا اللّحوم بانتظام". رسم اثنين من الأسنان الّتي تمّ فحصها | Dom Jack, MPIC

تفشّي أكل اللّحوم؟

القصة المقبولة، كما ذكرنا، هي أنّ اللحوم دخلت إلى قائمة طعامنا بانتظام منذ حوالي 2.6 مليون سنة، ربّما في زمن الإنسان الماهر، وبدأت تلعب دورًا أكثر أهميّة في التغذية البشريّة منذ حوالي مليونَي سنة. وبحسب هذه الفرضيّة، التي أطلق عليها "اللّحم جعلنا بشرًا"، فإنّ قيمة السعرات الحراريّة العالية للّحوم مكّنت من زيادة حجم الدماغ الّذي شوهد في الإنسان المنتصب. لقد أدّى الاعتماد المتزايد على اللّحوم والصيد إلى المزيد من التغييرات التشريحيّة، مثل تقصير الأمعاء، وربّما إطالة أرجلنا بالمقارنة مع أذرعنا: يحتاج الصيّادون إلى أرجل قويّة وطويلة للركض وراء فريستهم، وقد أظهرت الدراسات أنّ هيكلنا العظميّ خضع لتغييرات تكيّفت مع الجري.

لكن هل كان الإنسان المنتصب يستهلك في الواقع كميّة من اللّحوم أكبر من أسلافه؟ وفي سنة 2022، نُشرت دراسة تدحض هذا الادّعاء.

وقد قدّمت دراسات سابقة قدرًا كبيرًا من الأدلّة على أنّ الإنسان المنتصب كان يستهلك اللّحوم، أكثر بكثير ممّا شوهد في الأنواع السابقة. لكنّ الباحثين زعموا أنّ السبب في ذلك لا يعود إلى أنّ الأركيوبتركس كان يأكل المزيد من اللّحوم- ولكن لأنّ العلماء كرّسوا المزيد من الاهتمام وساعات البحث لمواقع الأركيوبتركس، مقارنة بمواقع هابيليس والأنواع الأخرى.

وقد قال أندرو بار(Barr)، الّذي قاد الدراسة، في بيانٍ صحفيّ: "لقد ذهبت أجيال من علماء الأحفورات إلى مواقع شهيرة محفوظة جيّدًا في أماكن مثل مضيق أولودينيز [في تنزانيا]، وهناك بحثوا عن- ووجدوا- أدلّة مباشرة رائعة على أنّ الناس البدائيّين كانوا يأكلون اللّحوم، ما يعزّز فكرة وجود تفشٍّ لأكل اللّحوم قبل مليونَي سنة". "ولكن عندما تقوم بتحليل البيانات كميًّا من عدّة مواقع في شرق أفريقيا لاختبار هذه الفرضيّة، كما فعلنا، فإنّ الرواية التطوّريّة القائلة بأنّ 'اللّحوم جعلتنا بشرًا تبدأ في الانهيار".

قام الباحثون بفحص النتائج من تسعة مواقع، والّتي تحوي نتائج من فترات مختلفة من التطوّر البشريّ. وباستخدام الأساليب الإحصائيّة، قاموا بتقييم مدى جودة دراسة كلّ فترة زمنيّة. وكان استنتاجهم أنّ الزيادة في النتائج المتعلّقة بتناول اللّحوم يمكن تفسيرها على أنّها "خطأ في العيّنة"- أي إنّنا حصلنا على المزيد من النتائج لأنّنا خصّصنا المزيد من الحفريّات لهذه الفترة.

وقال بار لموقع "Wired": "إذا أردنا تحديد مدى انتشار سلوك معيّن، فنحن بحاجة إلى طريقة ما لمراعاة حقيقة أنّه في بعض الأوقات والأماكن كنّا نبحث عن أدلّة على هذا السلوك أكثر من غيرها".

لا يدّعي بار وزملاؤه أنّ الأركيوبتركس لم يكن يأكل الكثير من اللّحوم، أو أنّ استهلاك اللّحوم لا علاقة له بالتغيّرات التشريحيّة أثناء تطوّرنا- ولكنّهم يقولون إنّه لا يزال من المستحيل تحديد ذلك على وجه اليقين. ولعلّ الدراسات الّتي تحلّل تركيب النظائر في الحفريّات تساعدنا على الوصول إلى إجابة.


لا يدّعي بار وزملاؤه أنّ أركتوروس لم يأكل الكثير من اللّحوم، ولكنّهم يؤكّدون أنّه لا يزال من المستحيل التأكّد من ذلك على وجه اليقين. عظام إنسان منتصب من إندونيسيا | ويكيميديا، Eduard Pop et al

من العصر الحجريّ إلى وجبة الغداء

أشار بار إلى أنّ أبحاثه وأبحاث زملائه قد تكون لها أيضًا عواقب حتّى يومنا هذا. وقال بار في بيان صحفيّ: "أعتقد أنّ الدراسة ونتائجها ستكون موضع اهتمام ليس فقط لمجتمع علم الأحفورات، ولكن أيضًا للأشخاص الّذين يؤسّسون اختياراتهم الغذائيّة على نسخة ما من رواية أكل اللّحوم". "إنّ دراستنا تثير الشكّ حول فكرة أنّ تناول كميّات كبيرة من اللّحوم أدّى إلى تغييرات تطوّريّة في أسلافنا الأوّليّين."

حتّى قبل هذه الدراسة، كانت هناك أسباب تدعو إلى التشكيك في فكرة أنّنا يجب أن نبني نظامنا الغذائيّ على اللّحوم؛ لأنّنا "تطوّرنا من أجل أكلها". أوّلًا وقبل كلّ شيء، وعلى عكس الاعتقاد السائد، فإنّ أسلافنا من الصيّادين وجامعي الثمار، حتّى اللاحقين منهم والّذين انتموا بالفعل إلى نوعنا، لم يأكلوا اللّحوم بشكل رئيس: فقد أظهرت الدراسات أنّ الجزء الأكبر من السعرات الحراريّة لديهم جاء من النباتات. قالت عالمة الأحفورات أماندا هنري (Henry) لمجلّة ناشيونال جيوغرافيك: "هناك قصّة شائعة مفادها أنّ الصيد يحدّدنا، وأنّ اللّحوم هي الّتي جعلتنا بشرًا". "أعتقد أنّ هذا التأطير يغفل عن نصف القصّة. لقد كانوا يريدون اللّحوم بالطبع. لكنّهم كانوا يعيشون في الغالب على الأطعمة النباتيّة".

علاوةً على ذلك، لا يوجد في الواقع أيّ أساس للافتراض بأنّ النظام الغذائيّ الّذي كان أسلافنا يتناولونه، هو بالضرورة الأكثر صحّة بالنسبة لنا. توصّلت العديد من الدراسات الّتي قارنت بين الأنظمة الغذائيّة المختلفة إلى أنّ النظام الغذائيّ المتوسطيّ (Mediterranean diet) صحّيّ بشكل خاصّ. يعتمد هذا النظام الغذائيّ على النباتات، وخاصّة الفواكه والخضروات الطازجة، ويشمل الأسماك ولكن القليل جدًّا، إن وجد، ومن لحوم الدواجن أو الثديّات. 


يعتمد النظام الغذائيّ المتوسطيّ على النباتات، وخاصّة الفواكه والخضروات الطازجة. يشمل الأسماك ولكن القليل جدًّا، إن وجد، ومن لحوم الدواجن أو الثديّات. بعض الأطعمة الموجودة في النظام الغذائيّ المتوسطيّ | Monticello

بطبيعة الحال، هناك أسباب أخرى لتجنّب تناول اللّحوم، مثل الرغبة في تجنيب الحيوانات المعاناة أو تقليل الضرر الّذي يلحق بالبيئة. يساهم إنتاج اللّحوم، وخاصّة لحوم البقر، بشكل كبير في تغيّر المناخ: حيث يؤدّي إنتاج كلّ كيلوغرام من لحم البقر إلى انبعاث ما يقرب من مائة كيلوغرام من الغازات المسبّبة للاحتباس الحراريّ. وهذا مقارنة بالكيلوغرام الواحد من القمح، ما يؤدّي إلى انبعاث نحو كيلوغرام ونصف فقط من الغازات المسبّبة للاحتباس الحراريّ. أظهرت الدراسات أنّ اتّباع نظام غذائيّ نباتيّ أو خضريّ يقلّل من انبعاثات الغازات المسبّبة للاحتباس الحراريّ، واستخدام الأراضي واستهلاك المياه العذبة مقارنة بنظام غذائيّ يشمل اللّحوم.

هل يمكن أن يكون هذا النظام الغذائيّ صحيًّا؟ تؤكّد توصيات الهيئات الصحيّة، كما ذكرنا، على ضرورة اتّباع نظام غذائيّ متوازن يشمل أيضًا (بعض) المنتجات الحيوانيّة. ولكن إذا تأكّدنا من تناول الطعام الصحيح، فمن المؤكّد أنّه من الممكن الحصول على كلّ ما نحتاجه من نظام غذائيّ قائم على النباتات. وقال هانز هاونر (Hauner)، أستاذ الطبّ الغذائيّ في ألمانيا، في مقابلة مع مجلّة ساينتفك أمريكان: "إنّ نمط الحياة الخضريّ هو الوحيد الّذي يفرض تحدّيات حقيقيّة". "ولكن رغم ذلك، ففي عصرنا هذا هناك عدّة طرق لتوفير بدائل للموادّ المفقودة." أشار هاونر إلى أنّ هناك رياضيّين محترفين يتناولون نظامًا غذائيًّا نباتيًّا أو خضريًّا، "حتّى تتمكّن من تزويد عضلاتك وعقلك بشكل مثاليّ أيضًا بالبروتينات النباتيّة".

كان التحوّل إلى استهلاك اللحوم خطوة مهمّة في تطوّرنا، ومن المرجّح أنّه ساهم في الخصائص الفريدة الّتي تميّزنا عن أقاربنا من القرود البشريّة، بما في ذلك ربّما دماغنا الكبير. ولكن هناك الكثير من الأشياء الّتي لا نزال نجهلها عن هذه الخطوة، بما في ذلك متى حدثت وأيّ نوع من البشر بدأ في استهلاك كميّات كبيرة من اللّحوم. ولكي نفهم قصّتنا التطوّريّة بالكامل، سوف نحتاج في المستقبل ليس فقط إلى فحص بنية الأحفورات، بل وأيضاً إلى النظر إلى ألواحهاــ أو على الأقلّ أسنانها.

استجابة واحدة

  • 🦂

    مقال جيد والانسان بطبعه حيوان

    مقال جيد والانسان بطبعه حيوان مفترس لا فرق بينه وبين الحيوان سوى اكله للحوم مطبوخه...
    وهناك مثل دارج عمر ذنب الكلب ما بتصح مهما تم مداوتها...🤷🏻‍♂️