ابتداءً من ذيل أفعى الصنجيّة ذات الأجراس، مرورًا بالصراصير وفرس البحر الّتي تحرّك أجسادها لإصدار الأصوات، إلى الشمبانزي والببّغاوات الّتي تقرع على الأشجار بالحجارة والعيدان. إنّها خُشخيشات الطبيعة.

ربّما شاهدتم مثلَ هذا المشهد، وربّما لم يجرّبها معظمنا، لحسن الحظ، بشكل شخصيّ: رجل يسيرُ ببطءٍ في الصحراء. تشرق الشمس من خلال سماءٍ زرقاءَ على رمالٍ محمرّة، وعشبٍ شبه جافٍّ والقليل من الصبّارِ في الجوار. الجوّ هادئٌ، والرياح لا تهبّ، حتّى خُطى الرجُلِ على الرمالِ بالكاد تصلُ إلى آذاننا. ومن ثمّ يُسمعُ صوتُ حفيفٍ مفاجئ. تجمّد الرجل في مكانه، وهو يستعرضُ الأرض من حوله. هناك، ومن خلال العشب القليل، تنظرُ إليه عينان، مُثبَّتَتان على رأسِ مثلّثٍ مُغطًّى بالقشور. أفعى الصنجيّة ذات الأجراس، تحرّك طرفَ ذيلها على شكل خُشخيشة، وتُسمِع الصوت المميّز- والمُخيف- لهذا النوع من الأفاعي. 

עכסן אימתן בדרום מזרח ארצות הברית | צילום: Ryan M. Bolton, Shutterstock
ثعبان سامّ يصدر أصوات خشخشة مُرعبة. أفعى الصنجيّة في جنوب شرق الولايات المتّحدة| تصوير: Ryan M. Bolton, Shutterstock 
 

من المؤكد أنّ أفعى الصنجيّة ليستِ الوحيدة الّتي تُصدرُ أصواتًا من أجل التهديد، ومن أجل التواصلِ بشكلٍ عامٍّ مع الحيوانات الأخرى، من جنسها أو من أجناسٍ أخرى. حتّى في المُدُن، نسمعُ بعضَ هذه الأصوات بشكل يوميّ، من عصافيرَ تُغرّد، أو كلابٍ تنبح وقططٍ تموء. ينضمُّ لهذه الأصواتِ في المناطق الريفيّة بالذات، صهيلُ الخيول، وربّما خوار البقرِ أو ثغاء الأغنام. كلّ هذه الأصوات تنقلُ رسائلَ مختلفة: بعضها يقول "هذه منطقتي، اُخرُج من هنا!" والبعض الآخر: "تعالي عندي، أنا مُعافًى وقويّ"، "أنا خائف"، "أنا غَضبانة"، "أنا جائع"، ومجموعة من الرسائلِ الأخرى، الّتي لا نفهمها. كلّ الأصواتِ الّتي ذكرناها هنا، بالإضافةِ إلى العديدِ من الأصوات الأخرى -من ثَرثرةِ القرودِ إلى زئيرِ الأسودِ- تصدرُ من الحنجرة، بمساعدةِ مرورِ الهواءِ على الأوتار الصوتيّة، تمامًا كما نُصدرُ أصواتنا عند الحديث.

لكنّ هناك أصواتًا أخرى، مثل صوت الأفعى الصنجيّة ذات الأجراس، يتمّ إنتاجها بطريقةٍ مختلفةٍ تمامًا- عن طريقِ نقر عضوٍ في الجسم على عضو آخر أو على مسطّح آخر، أو حتّى نقر وعاء على مسطّح. في هذا المقال جمعنا بعض تلك الآلات الّتي تُسمع صوت النقر، من صراصيرِ وقارعي الطبولِ في عالمِ الحيوانات، لكي نرى كيفَ يُصدرُ كلّ واحدٍ منها صوته الخاصّ، وما هدف كلّ هذه الضجّة.  

פיל משמיע קול | צילום: Wirestock Creators, Shutterstock
تَنتُج معظم أصوات الحيوانات، مثل نهيم الفيل، عن طريق تدفّق الهواء، وفي هذه الحالة عن طريق الخرطوم. فيل يُصدر صوتًا | تصوير: Wirestock Creators, Shutterstock
 

جرس في طرف الذيل

سنبدأ بأكثر الأمثلة وضوحًا لاستعمال الخُشخيشة في الطبيعة: أفعى الصنجيّة (أو المُجلجلة)، الّتي تنتمي إلى أجناس: الحربش (Crotalus) وسيستراراس (Sistrurus). إنّها تعيش في أمريكا الشماليّة والجنوبيّة، وهناك سببٌ يجعل من صوتِها الحفيف مخيفًا للغاية؛ إنّها حقًّا سامّة، رغم وجودِ علاجٍ فعّالٍ لِسمّها، ونادرًا ما تنتهي لدغتها بالموت. 

يتكوّن الجرس في طرف ذيل أفعى الصنجيّة من قُشورٍ معدّة خصّيصًا لذلك، ومُرَكّبة من الكيراتين، وهي نفس المادّةِ المُركَّبَة منها أظافرنا. تتشكّل القشور الخاصّة من حلقاتٍ مجوّفةٍ متواجدةٍ فوق بعضها، ولكن توجد مسافة بينها. عندما تحرّك الأفعى ذيلها، تضرب بعضها بعضًا وتُنتِج صوتَ الحفيفِ المميّز. تتمّ الحركة بمساعدة ثلاث عضلاتٍ قويّةٍ وفعّالة بشكل خاصّ؛ فهي قادرةٌ على الانقباض أكثر من 50 مرّة في الثانية، دون إخراج كميّاتِ الطاقة الّتي تحتاجها العضلات الطبيعيّة للقيام بذلك. بهذه الطريقة تستطيع الأفعى أن تستمرّ في إثارةِ الضجيجِ بالجرسِ لساعاتٍ.

بمساعدةِ الجرس، ترسلُ الأفعى رسالةً لجميع الحيواناتِ الّتي قد تؤذيها من حولها، حيواناتٍ مفترسة أو حيواناتٍ آكلة العشب يمكن أن تدوسها عن غير قصد: أنا خطيرة، وأنت لا تريد التورّط معي، اُخرج من هنا أو سألدَغُك.. إذا لم تنجح الرسالة واستمرّ الحيوانُ في الاقتراب، حينها ستلدغه الأفعى. لكن مثل معظم الحيوانات، تفضّلُ الأفاعي، قدرَ الإمكان، تجنّبَ المواجهة الجسديّة المباشرة. من الممكن أن يؤدّي هذا التصادم إلى الإصابة، وستضطّرُ الأفعى أيضًا إلى أن تنفث من سمّها الّذي تحتاجه للصيد، الأمر الّذي يستغرقُ وقتًا وطاقةً لإنتاجه من جديد. الصوت الّذي تُصدره يهدفُ إلى منع المواجهة قبل أن تبدأ.

תקריב של הרעשן של עכסן אימתן | צילום: Chase D'animulls, Shutterstock
يمكن أن تحدثَ ضوضاء لساعات طويلة، وتفضّل أن تفعل ذلك لتجنّب المواجهة. صورة مقرّبةٌ لِذيل الأفعى الصنجيّة ذات الأجراس | تصوير: Chase D'animulls, Shutterstock 

 

وَهمُ الأفعى

رغمِ أنّ الرسالةَ الّتي تُرسلها بسيطةً للغاية، إلّا أنّ الباحثين أظهروا مؤخّرًا أنّها مُرسلَة بطريقةٍ مركبّة، لتضليلِ من يسمعها وجعلهم يعتقدونَ أنّ الأفعى أقربُ ممّا هو عليه بالفعل. الأفعى الّتي فحصَها الباحثون أفعى الصنجيّة ذات الأجراسِ (Crotalus atrox)، الّتي تعيشُ في المكسيكِ وفي أجزاء من الولايات المتّحدة الأمريكيّة. عندما يكون الحيوان الّذي تسعى إلى تحذيره بعيدًا عنها، تحرّكُ الأفعى ذيلها ببطءٍ نسبيًّا، بمعدّل أربعين حركة في الثانية. لكن عندما يقتربُ التهديد، تصبح حركة الذيل أسرع، من ستّين إلى مائة حركةٍ في الثانية. في إحدى الدراسات، طلب الباحثونَ من المشتركين الّذين سمعوا حفيفَ الذيل بتردّداتٍ مختلفة أثناء تواجدهم في بيئة الواقع الافتراضيّ، أن يخمّنوا بُعدَ الأفعى. عندما تحرّك الذيل ببطء، قدّر المشاركون في البحثِ المسافة جيّدًا- لكنّهم عندما سمعوا الأفعى تحرّك ذيلها بسرعةٍ، اعتقدوا أنّها أقرب ممّا كانت عليه بالواقع، أو على الأقلّ، حيث كانت في الواقع الافتراضيّ.

ما الّذي يسبّب هذا الالتباس؟ تبيّنَ أنّه عندما تتحرّك الحلقات الموجودة على ذيل الأفعى بسرعة، لا يمكننا أن نسمع كلّ نقرةٍ بمفردها، ولكنّنا نتخيّل النقرات السريعة على أنّها صوتٌ واحد- وهو يبدو لنا أعلى من النقرات البطيئةِ والمنفصلة. لذلك نظنّ أنّه أقرب من الواقع. يقول بوريس شانو (Chagnaud)، الباحث المختصّ الموقِّع على المقال في مقابلةٍ مع بي بي سي: "يُستخدَم الانتقال المفاجئ للصوتِ بشكل مكرّرٍ كثيرًا لتمويه من يَسمعهُ عن المسافةِ الحقيقيّة لمصدر الصوت". وهكذا فإنّ الأفعى "تصنع مسافة أمانٍ" بينها وبين التهديدِ المقترِب. 
 

جرس أفعى الصنجيّة: 

 

صراصير جاذبة

الحيوان التالي الّذي يُصدر أصواتَ خشخشةٍ من جسده، أو بالأحرى صرصرة، هو بالطبع- الصرصار. تنتجُ الصراصير، من فئة الجداجد الحقيقية ( Gryllidae، وتعرفُ كذلك باسم صرصور الليل رغم أنَّها أقربُ علميًّا للجراد) أصواتها الممّيزة بمساعدة الأجنحة الأماميّة من بين زوجَي الأجنحة الّتي لديها، والّتي ضَمرت من حيث القدرة على الطيران. في قاعدةِ كلّ جناحٍ أماميّ جزءٌ صلبٌ يشبه المشط. من أجل القيام بعمليّة الصَرصرة، تقوم الصراصير برفعِ الأجنحة وتحرّك الجزء العلويّ من أحد الأجنحة فوق "مشط" الجناح الآخر، مرارًا وتكرارًا. تنتقلُ التذبذبات على طول الغشاء الدقيق للأجنحة، وهو ما يرفع حدّة الصوت. عندما تجتمع العشرات أو المئات من الصراصير معًا، نحصل على صوتِ الصَرصرة العالي الّذي يمكن أن نسمعه نحن أيضًا، خاصّةً في ليالي الصيف.  

صَرصرة الصراصير هي أغنية جذب، وأغنيةُ تهديدٍ أيضًا. ذكور الصراصير هم الوحيدون الّذين يُسمعونها، ولديهم العديد من أنواع الصرصرة المختلفة لأهداف مختلفة. يُعتبَرُ صوت صَرصرة القراءة المرتفع وسيلةً لجذبِ الإناثِ وردعِ الذكور الآخرين من الاقتراب، ويتمّ سماعها على مسافة كثر من كيلومتر. عندما يلاحظ الصراصير وجود أنثى حولهم، ينتقل الذكور إلى صَرصرة الجذب، وهي صَرصرة أكثر هدوءًا مُصمَّمة لإقناعها على التزاوج معهم. تُصَرصِرُ بعض أنواع ذكور الصراصير "صَرصَرة النصر" وخاصّة بعد التزاوج، ولا نعرف بالضبط لماذا. قد يكون الغرض منه تقوية العلاقة مع الأنثى، لكي تضع البيض فورًا، ولا تتزاوج مع ذكرٍ آخر.

هناك نحو 900 نوع من الصراصير في العالم، وتعيشُ العشرات منها في بلادنا. بالنسبة لنا، قد تبدو متشابهة جدًّا، إن لم تكن متطابقة، ولكن لكلّ نوعٍ منَ الصَراصيرِ صَرصَرة خاصّة بهِ، وتعرف الإناث كيف تفرّق بينها وتستجيب لنداءاتِ الذكور من نفس نوعها. يتأثّر صوت صَرصَرة الصراصير أيضًا بعوامل أخرى غير نوع الصُرصار، وأبرزها درجة الحرارة، حيث تُغيّر الصراصير من صَرصَرتها وفقًا للحالة الجوّيّة، وهي تفعل ذلك بدقّةٍ عالية، بحيث يمكن حساب درجة الحرارة من خلال الأصوات الّتي تُصدرها.

كيف ولماذا تُصَرصِر الصراصير:

 

أيّها الصُرصار، كم هو حارٌّ اليوم؟

تنتمي الصراصير، مثل جميع الحشرات إلى مجموعةٍ تُعرَف باسم "الحيوانات ذوات الدم البارد"، وهواسمٌ مُضلِّل، لأنّ دم وجسم هذه الحيوانات ليسَ باردًا حقًّا، وإنّما درجة حرارته تختلف باختلاف البيئة. عندما تكون البيئة شديدةَ الحرارة، من الممكن أن تكون هذه الحشرات أكثر حرارةً من تلك الحيوانات ذوات "الدم الحارّ". الاسم الأكثر دقّة هو (Poikilotherm)، مصطلح يونانيّ يعني "الحرارة المتغيّرة"، بخلاف (Homeotherm - حرارة ثابتة)، مثل الثديّات والطيور الّتي تحافظ على درجة حرارةٍ ثابتةٍ للجسم. 

لذلك تتغيّر درجة حرارة أجسام الصراصير، ويؤثّرُ هذا التغيّر في وتيرة حدوث التفاعلات الكيميائيّة المطلوبة لتحريك عضلاتها. اكتشف آيموس دولبير، وهو عالمٌ أمريكيّ من القرن التاسع عشر، أنّه كلّما كان الهواء أكثر حرارةً، زادت سرعة صَرصَرة الصراصير. بناءً على ذلك، صاغَ "قانون دولبير"، الّذي يمكن استخدامه لاستنتاج درجة الحرارة من وتيرة صَرصَرة الصُرصار. القاعدةُ بسيطة جدًّا: كلّ ما يجب فعله هو تحديد عدد الصَرصَرات في 25 ثانية، ثم قسمة الرقم على ثلاثة، ومن ثمّ إضافة العدد أربعة. بهذه الطريقة يمكن معرفة درجة الحرارة المئويّة (سِلزيوس). يتمّ الحفاظ على هذه النسبة بين معدّل الصَرصَرة ودرجة الحرارة طالما أنّ البيئة ليست شديدة البرودة ولا شديدة الحرارة، بين 12 و 38 درجة مئويّة.

أجرى دولبير القياسات وصاغ قانونَهُ بدقّة عالية، لكنّ هنالك شيئًا واحدًا لم يذكره: عن أيّ صُرصارٍ بالتحديد يدور الحديث. هنالك العديد من الصراصيرِ ذات الأنواع المختلفة الّتي تُصَرصِر صَرصَرةٍ مختلفةٍ قليلًا، ولا تُظهِر كلّ الأنواع نفس العلاقة تمامًا بين وتيرة الصَرصَرة ودرجة الحرارة. أظهرت دراساتٌ لاحقةٌ أنّه كما يبدو المقصود بصرصار الشجرة من نوع Oecanthus fultoni. إنّه يختلف عن الصراصير الّتي تعيش في بلادنا، لذا من الأفضل الاعتماد على جهاز مقياس الحرارة- أو على تطبيقات الطقس على الهاتف- بدلًا من حساب عدد صَرصَرات الصراصير.

איימוס דולביר וצרצר העצים שעליו כנראה הסתמך בניסויים | צילומים:  MARYANN FRAZIER / SCIENCE PHOTO LIBRARY, Wikipedia, public domian
مقياس حرارة الطبيعة. آيموس دولبير وصُرصار الشجر الّذي ربّما اعتمد عليه في التجارب العلميّة | تصوير: MARYANN FRAZIER /SCIENCE PHOTO LIBRARY, Wikipedia, public domian
 

التحدّث كالسّمكة

الصراصير ليست الوحيدة الّتي تحرّك أطرافها ضدّ بعضها من أجلِ إصدار صوت. هناك حشرات أخرى تفعل ذلك، مثل الجنادب أو القبوطيّات المختلفة، رغم أنّ صَرصَرتها أضعف وتذكّرنا بصوت المنشار. لكن يتّضح أنّ هناك أيضًا أسماكًا تتواصل مع بعضها بطرقٍ متشابهة.

نميل إلى التفكيرِ أنّ العالم الّذي تحتَ الماء عالمٌ يتميّز بالصمت التامّ. كما نعلم، تُصدر الدلافين أصواتها المميّزة، وتُغنّي الحيتان في أعماق البحار. لكنّ هذه الحيوانات تُعتبَرُ من الثديّات، أمّا الأسماك، فهي صامتة مثل… السّمكة. هذا هو التصوّر المتعارف عليه، لكنّه ليس صحيحًا. من المؤكّد أنّ الأسماك تُصدر أصواتًا، لكنّنا، عندما نرتدي ملابسَ الغوصِ أو نتواجد في الغوّاصات، نواجهُ صعوبة في سماعها لأنّ الأذنينِ مُصمّمتان لترجمة الموجات الصوتيّة الّتي تمرّ عبر الهواء. 

في شهر كانون الثاني من هذا العام، نُشرت دراسة أظهرت أنّ الأسماك "تتحدّث" أكثر بكثير ممّا كنّا نظنّ. قامَ الباحثون بفحص فئة أسماكٍ شعاعيّة الزعانف، والّتي تشمل معظم الأسماك الّتي تعيش اليوم، ووجدوا دلائل على إنتاج الصّوت يتم في 175 فصيلةٍ من أصلِ 470 فصيلةٍ في هذا القسم. للأسماك طرُق مختلفة لإصدار الأصوات: بعضها يفعلُ ذلك بمساعدة مثانة العوم، والبعض الآخر يستخدم طريقة مشابهةً لتلك الّتي تستخدمها الصراصير، تنقر أو تخدش أجزاءً من جسمها.  

أحد الأمثلة على ذلك أسماك السلّور (Siluriformes)، الّتي تُصدر الصوت بمساعدة زعانفها الصدريّة. عندما يمسك حيوانٌ مفترسٌ سمك السلّور بفمه، أو عندما يُمسكها شخصٌ بيديه، فإنّها توجّه زعانفها بزاوية تسعين درجة باتجاه جسمه، وهو ما يصعّب على المفترس ابتلاعها. ثمّ تقوم بتحريك الزعانف بحركاتٍ حادّة إلى الأمام والخلف، بحيث تصطدم المناطقُ البارزة في قاعدة الزعانف بالمفصل الّذي يرتبط بها، وهو موازٍ لمفصل الكتف لدينا. يمكن استخدامُ الصوت الناتج عن النقر المتكرّر لردعِ الحيوان المفترس، وربّما أيضًا كتحذيرٍ لباقي أسماك السلّور المتواجدة في المنطقة: يوجد حيوان مفترس هنا، من المفضّل الابتعاد من هنا.

تُصدر أسماك السلّور الأصوات بمساعدة الزعانف:

 

تصدرُ فرس البحر أيضًا أصواتًا مُشابهة، لكنّ أصواتها تأتي من الرأس وليس من الزعانف. تنقر على نتوءات عَظميّة متواجدةٍ على رؤوس بعضها، من أجل إصدار "نقرات" سريعة. تفعل هذا الشيء عندما تأكل، وكذلك أثناء التزاوج، وخاصّة في مراحلها النهائيّة. على خلاف معظم أنواعِ الأسماك، الّتي يُصدر فيها الذكور فقط أصواتَ المغازلة، يقوم كلٌّ من ذكر وأنثى أسماك فرس البحر بِنَقراتٍ مُميّزة. وهي ملائمة للأسماك الّتي لا تلتزم "بالأدوار المقبولة" للذكور والإناث، وفيها يكون الذكر هو الّذي يعتني بالبيض داخل جسمه.

في سنة 2014م، تمّ اكتشاف وجود صوت آخر لدى فرس البحر، أَطلقَ عليه الباحثون اسم "الهدر" (growl). هذا الصوت منخفضٌ تُصاحبه رعشة في الجسم، ويستمرّ لفترة أطول من النقرات. ما نزال نجهل كيف تُصدر فرس البحر هذا الهدر، لكن كما يبدو أنّ الآليّة تختلف عن آليّة النقرات، وقد تتواجد في فم السمكة أو في خدّها.

النقرات وصوت الهدر الّتي تصدرها فرس البحر: 

 

الغوريلا قارعةُ الطبول

عندما ننظرُ إلى الحيواناتِ المحيطة بنا، نرى أنّ سلوكيّاتها تشابه ما يمكننا القيام به، بل حتّى القيام به فعليًّا. على سبيل المثال، التربيت باليدينِ على الجسم من أجل إنتاج الصوت، وهو ما يفعله بنو البشر في رقصاتٍ معيّنةٍ. الصوت الأكثر شهرة، وربّما أيضًا الأكثر إثارةً للإعجاب، هو صوت قرع الطبل الّذي ينتجه ذكور الغوريلا، وهم يقفون على اثنتين ويضربون صُدورهم بأيديهم. على النقيض من رقصاتنا، فإنّ عَرض ذكر الغوريلا عَرضٌ منفرد، لا يهدف إلى الترفيه أو إثارةِ جمهوره، بل يهدف إلى زرعِ الخوفِ وردعِ الذكور الآخرين من حوله. يقول عالم الرئيسيّات إدوارد رايت (Wright) في مقابلةٍ مع ناشيونال جيوغرافيك إنّ ذكر الغوريلا الكبير عندما يضربُ على صدره "قد يكون الأمر مخيفًا بعض الشيء. لا تريد أن تجد نفسك واقفًا في طريقه". 

تُصدر الغوريلا صوتَ التهديدِ حتّى يعرف كلّ من يمرّ من تلك المنطقة أنّ ذكرًا قويًّا وكبيرًا مُتواجدًا هناك، وهو على أتمّ الاستعدادِ للدفاعِ عن أرضه وعن الإناث المتواجدة ضمن مجموعته، وأنّ أيّ ذكر آخر يحاول الحصول على إناث، من المفضّل له البحث في مكان آخر. في العام الماضي نُشِرَت دراسة أظهرت أنّ الصوتَ الناتج بهذه الطريقة مرتبط بحجم الذكر "القارع للطبل": فكلّما كان أكبر انخفضَ الصوت أكثر. هذا الأمر غير مفاجئ- بشكل عامّ، كلّما كَبر حجم الجسم زادت الأصوات العميقة الّتي يصدرها، وهذه المنظومة تظهر أيضًا في الآلات الصوتيّة، حيثُ تُنتج الطبول الكبيرة، على سبيل المثال، أصواتًا أكثر انخفاضًا من الطبول الصغيرة. عند الغوريلا، يستطيع الذكورُ الّذين يَسمعون صوت الطبل تقدير حجم الذكر الّذي يُصدِر هذا الصوت، وبالتالي تحديد ما إذا كان الأمر يستحقّ المخاطرة للدخول في معركةٍ ضدّه. رغم أنّ عمليّة إصدار صوت الطبول تمثّل قوّة وتهديدًا، فإنّ الغرض منها، مثل العديد من شكليّاتٍ أخرى في عالم الحيوان، هو منع المعارك غير الضروريّة. بمساعدتها، يدخل ذكور الغوريلا في معركةٍ حقيقيّة، من شأنها أن تؤدّي إلى الإصابة بل إلى الموت، فقط إذا كان حجمهم متشابهًا. في أيّة حالة أخرى، يعلم الذكر الأصغر مُسبَقًا أنّه في وضعٍ مُتدَنٍ وأنّه سيتخلّى عن العراك.

 

ذكر الغوريلا يطبّل على صدره:

 

ضربُ الشجرةِ بحجرٍ

لا يضرب الشمبانزي على صَدره أو على أيّ جزءٍ آخر بجسمه، لكنّه يفضّل أن يضربَ على الأشجار. كما هو الحال عند الغوريلا، تقوم الذكور بفعل ذلكَ كجزءٍ من عرضٍ هدفُه إظهار مدى حجمها وقوّتها. فهم يضربون بأيديهم وبأقدامهم على الأغصانِ والجذوع؛ والأصوات الناتجة عن ذلك تشير إلى خصومهم بأنه يجدُر عدم العبث معهم. في مجموعات معيّنة من الشمبانزي، تبيّن مؤخّرًا أنّ الشامبانزي أيضًا يستخدم الحجارة الّتي يرميها على الأشجار، وعلى ما يبدو، فإنّ هدفها هنا أيضًا إصدار الأصوات.

تمّ اكتشاف هذه الظاهرة الغامضة للشمبانزي قبلَ بضعِ سنواتٍ فقط، ونُشِرت في مقال نُشر سنة 2016م. في أربع مجموعات غرب إفريقيا، يقوم الشمبانزي بإلقاءِ الحجارة الكبيرة بشكل منتظم على الأشجار، ولكن فقط على أشجار معيّنة، بحيث تتشكّل أكوامٌ من الحجارةِ بالقرب من الجذع. لم يتمكّن الباحثون من معرفة سبب ذلك، لكنّهم يظنّون أنّه قد يكون مرتبطًا بعرض التهديد لدى الشمبانزي.  

في سنة 2019م، نُشِرت دراسةٌ أخرى، فحص خلالها الباحثون الأشجارَ الّتي رمى عليها حيوانات الشمبانزي الحجارة. في المقابل، قام الشمبانزي  أنفسهم بإلقاءِ الحجارةِ على 13 نوعًا من الأشجار، وسجّل الباحثون الأصواتَ الّتي سُمِعَت وقاموا بتحليلها. وهكذا اكتشف الباحثونَ أنّ الأشجارَ المفضّلة لدى الشمبانزي هي تلك الّتي عندما تُضربُ بها الحجارة تُصدر صوتًا منخفضًا بشكل خاصّ، ويتردّد صَداه ويستمرّ لفترةٍ طويلةٍ نسبيًّا مقارنةً بالأصواتِ الّتي تصدرها أشجارٌ أخرى. غالبًا ما كانت هذه أشجار ذات جذور سميكةِ تنمو فوق الأرض، وهي الّتي صدر منها بشكل خاصّ الصوتُ المطلوب. وجدَ الباحثون أيضًا أنّ الشمبانزي الّذي رَشقَ الحجارة كان في معظم الأحيان من الذكور- وهي حقيقةٌ تعزّز الفرضيّة الّتي تدّعي أنّهم يفعلون ذلك كجزءٍ من عرضٍ، يبدو من المهمّ بالنسبة لهم إسماع صوت منخفض ومدوٍّ من خلاله.

 

شمبانزي يرمي حجرًا على شجرة:

 

آلات النّقر عند الببّغاوات

سنُنهي بقصّةٍ عن الطيور، الّتي تعرض ما قد يكون أقربَ شيءٍ في الطبيعة لإصدار الإيقاع الصوتيّ. شوهدت الببّغاوات من نوع كوكاتو النخيل (Probosciger aterrimus)، الّتي تعيش في غابات شمال أستراليا، تحمل العيدان أو أوعية البذور بأرجلها، وتقرعها بالأغصان. وهي أيضًا تصنع هذه الآلات، خصوصًا العيدان: تكسر الأغصان الرقيقة من شجر الأوكالبتوس وتُزيل الأوراق منها، بحيث تكون مناسبة لإصدار الإيقاع الصوتيّ.

قام الباحثون الّذين تتبّعوها بتسجيل 18 ببغاء، جميعها من الذكور، يؤدّون 131 مقطعًا من القرع على الطبول. عندما قاموا بتحليلِ التسجيلات، وجدوا أنّ الببّغاوات لا تنقر بشكل عشوائيّ على الأغصان، وإنّما تحافظُ على وتيرةٍ واحدةٍ على مدار الوقت. في بعضِ الأحيانِ كانوا يُتبِعون ذلك بنداءات، أو يتحرّكون بوتيرةِ القرع على الطبول. أظهرت دراساتٌ سابقة أنّه بخلاف معظم الحيوانات، فإنّ الببّغاوات لديها حسّ الإيقاع، وهي قادرةٌ على الاستماعِ إلى إيقاعٍ والرقص على نغماته، وتحريك أجسامها في الوقت المناسب تمامًا. لكنّ الببّغاوات الأستراليّة هي الأولى الّتي تمّ رؤيتها وهي تُنتج الإيقاع بنفسها. 

لماذا تفعل الببّغاوات ذلك؟ على ما يبدو، لنفس السّببِ الّذي يجعل الكثيرَ من بني البشر يعزفون: من أجل أن يُعجَب بهم أبناء الجنس الآخر. أفادَ الباحثون أنّ ما يقارب 70% من المعزوفات كانت على مقربةٍ من الإناث، وعلى الأقلّ، في بعض الحالات تأثّرت وَأُعجِبَت بالعزف، ومن ثمّ اقتربت من الذكر الّذي يُصدر الصوت وحرّكَت أرجلها طبقًا للإيقاع.

    

فيديو لعمليّة قَرع الطبول عند الببّغاوات:

أهداف "خُشخيشات الطبيعة" تختلف عن أهدافنا عندما نُحدث ضوضاء بواسطة الخُشخيشات أو نُصدر أصواتًا بواسطة الآلات. فهي تشمل المغازلة، والتحذير، والتهديد أو مجرّد تصريح بعبارة "أنا هنا وأنا قويّ". تستهدفُ هذه الرسائل في بعض الأحيانِ أفرادًا من نفس النوع، وفي حالاتٍ أخرى تستهدف حيواناتٍ من أنواع مختلفة، مثل حيوانات مفترسة محتملة. نادرًا ما تكون الأصوات والضجّة الّتي تُصدرها الحيوانات مُوجّهة إلينا، وغالبًا ما تكون وسيلةَ اتّصال فيما بينها، ونحن فقط نشاهد أو نستمع لها من الخارج. إذا توقّفنا أحيانًا عن افتعال الضجيج بأنفسنا، حينها سنكونُ قادرين على الاقتراب، والاستماع ومعرفة أساسيّات هذا الاتّصال الّذي يحدث باستمرارٍ من حولنا في الآلاف من أصوات الحفيف، والصَرصَرة، وأصوات النقر، والنداءات وغيرها من الأصوات. 

0 تعليقات